النقد الذى أعنيه - هنا - نقد الكاتب أو الشاعر نفسه فى شتى المراحل التى يمر بها الأثر الأدبى من لدن انبثاقه ونشوئه الى أن يستوى نضجا وحسنا .
بل ان من النقد الذاتى لعينا خفية تمتد الى الأثر قبل ميلاده فترقبه جنينا وتحضنه وترعاه وهو لم يزل يعتلج فى عتمة الاعماق .
ذلك أننا نساق ، من حيث لا نشعر ، بحكم عتاد شخصيتنا وطبيعة بنيتنا الأدبية الى موضوع دون موضوع ، الى مذهب من التصور للأشياء والنظر اليها متميز مخصوص ينبع من صميم الذات ملتحم بها أشد ما يكون الالتحام . نساق من حيث لا نشعر ولكن باختيار لنا مبهم وارادة منا خفية .
وليست الأهمية كل الأهمية فى الموضوع ، من حيث هو موضوع ، قدر ما هى فى موقفنا الخاص منه وكيفية معايشتنا له ومدى تجاوبنا وتفاعلنا معه وطريقتنا فى تلوينه وابراز بعض من نواحيه دون بعض عند تسليط الأضواء عليه .
وقلما يكون الموضوع محض إطار أو فكرة مجردة بالغة التجريد بل هو فى أكثر الأحيان كتلة مركبة معقدة ، معطى حيوى قوى التركيز ، مزاج من فكر وشعور وخيال ، فلذة نابضة ، اشراقة يلوح بها لنا منها (( أفق )) من آفاق الوجود ( perspective ) عليه مسحة من الشخصية فى أخص طرافتها وأدق أصالتها .
ما الموضوع إلا الشرارة المنقدحة من اتصالنا أو اصطدامنا بالواقع . إنه الطعنة البكر نهتك بها حجاب الغيب نميط اللثام عنه فنسترق النظر والسمع لحظة ، تحديا وثورة تساميا واستعلاء .
فاذا ما شعت ومضة الفكر هذه فى أرجاء النفس وتغلغلت فى طواياها أخذت تفعل فيها وتنفعل ، وترتضع منها وتتغذى وتتعاظم وتتوالد . يرى الكاتب الخواطر تثال عليه آنثيالا تتدافع وتزدحم سادرة فى فوضاها لا تلوى على شئ فلا يملك إلا أن يخط ما يعرض له ، يجد ويسرع فى التقاطه ولا يكاد يعى ويميز من ذلك إلا اليسير القليل .
كذا يخيل اليه . إلا أن هناك عينا ساهرة لا تنام . إنه الحس الفنى يقول كلمته همسا يأخذ بيد الكاتب ويوجهه ويهديه بحكمته الصامتة فى منعرجات الفكر ودروب اللاشعور . فهذا طور الحضن والاختمار .
ثم إذا برزت (( الفكرة )) الى النور وكشفت عن وجهها اللثام وبدت ملامحها واضحة للعيان ، أعنى إذا ما اهتدى الكاتب أو الشاعر الى السلك الذى ينتظم شتات خواطره المتباينة ونشاز أحاسيسه المتناقضة تسنى له أن يشرع فى عمل الغربلة والاختيار والملاءمة والتأليف والتنسيق والبناء .
وهى أم المراحل وأخطرها وأشقها فى الخلق الأدبى أجمع . إنه جانب الصناعة الأدبية فيه تتجلى عظمة الكاتب حقا ، بما له من قدرة مبدعة وبراعة فائقة ومرونة قصوى فى استخدام مواهبه والانتفاع منها على الوجه المطلوب لغرضه الراهن . وقديما قيل : البلاغة مراعاة مقتضى الحال .
إنها المرحلة التى تستوجب من الكاتب حضور ملكاته جميعا وتضافرها وتناوبها معا . وإنها لامتحان لكل من خصاله الأدبية والخلقية فكما أنها تحتاج الى الخيال الذى يبدع والعقل الذى يصمم والذوق الذى يصقل ويهذب فكذلك تستدعى زادا من الصبر الذى يبلغ أحيانا حد الاصرار والتعنت ، والعناد والتحدى . . .
وتتطلب من الايمان ذخرا كذخر المتصوفة المتبتلين ومع ذلك وفوق ذلك جميعا شغفا بالفن وشوقا الى الخلق هما فى نفس الكاتب بمنزلة معنى الحياة وسحر الوجود .
بل وتستلزم منه أكثر من ذلك فتقتضيه أن يزدوج فلا يتناقض ويتعدد فلا يتشتت ؛ أن يكون خفيفا رصينا ، صبورا جموحا ، يقظان ذاهلا ، ذكورا غافلا ، جريئا حذرا ، معتدا بنفسه سيئ الظن بها ( 1 ) شاعرا فيلسوفا ومنطقيا
ملهما فيلبس لكل حال لبوسها ويوفق بين العاجل والآجل . أن يكون مستغرقا فى اللحظة مكبا على ما ينجم بين يديه مستوعبا ما قد فات من عمله ، متصورا الآتى منه معدا العدة له . . . فيمتطى الأزمنة ويتلاعب بها ، ويصول بها ويجول فى رشاقة واقتدار .
وناحية اخرى أشد وأدهى هى تقمصه لأشخاص قصته أو مسرحيته واتحاده بهم يكاد أن يفنى فيهم حتى كأنه إياهم وليس بخالقهم وباعثهم من العدم , وإنما هو لسان حالهم والمترجم عنهم ، حرصا منه على الصدق وشغفا بالواقع . وكأن أشخاصه أحياء يرزقون قد تحتم عليه أن يحترم ذاتهم ويصون سلامة كيانهم فلا ينتهك حماهم ولا يتصرف فيهم إن بالزيادة أو النقصان .
ومع ذلك فكل من أشخاصه ، على تباينهم وتضاربهم ، هو وجه من وجوهه ، وقطعة من ذاته وتعبير عن نزعة من نزعاته . . . فأعظم به من خالق قد عدد ذاته ولم يبددها وجزأ جوهره ولم يلاشه وإنما هى أقباس حية خالدة سلالة من نور .
إنها مرحلة التجسيد والتسوية وبث الروح وإشاعة الحياة فليس يكفى أن يبرع الكاتب فى تصوير أشخاصه وتدقيق ملامحهم وتسجيل خصائصهم الظاهرة والباطنة بحيث تكون نسخة صادقة من الواقع المرئى والحقيقة المشهودة . . .
إن هذه الأشخاص تظل جامدة باهتة سخيفة تشكو الخواء والفقر تكاد أن تلعن صانعها إن لم يقبسها من حرارة روحه وشعلة الفكر فيه ولم يمنحها من قوة الايحاء ما تستفز به المشاعر وتحرك النفوس وتفتن العقول .
وبدهى - على ضوء ما سبق - أن للارادة والعقل فضلا وأى فضل فى القيام بعملية الخلق وإبلاغها الى منتهاها من القوة والجودة .
فالعقل بمثابة قائد الجوقة أو المخرج أو المهندس البناء يرأس مرحلة الخلق ويشرف عليها برمتها لا تفوته منها صغيرة ولا كبيرة . يخطط وينسق ويزن ويراقب ويحذف ويشذب . وإن هذه العملية لما تتطلبه من الصبر الدائب واستماتة العزيمة ويقظة الذهن أبعد ما تكون عن الخلق العفوى والابداع المرتجل والوحى المحض يزف الى الانسان زفا . . عطاء مجانا كأنه الغنيمة الباردة كما تصوروه حينا من الدهر عامة . الناس وجمهور الأدباء والنقاد من جميع الشعوب .
ولقد ظل الأدباء ( 2 ) ( إلا القليل منهم ) الى تاريخ ليس بالبعيد تحت سلطان تلك الخرافة التى تنسب عملية الخلق الى (( ربة )) الشعر أو (( شيطانه )) مما يدل على تغافلهم عن حظ العقل وتجاهلهم لفضله وكأنما فى سكوتهم عن الجهد المضنى والعناء المرير حياء وأنفة من أن ينسبوا الى العجز والابتذال ورغبة - واعية أو غير واعية - فى تأكيد امتيازهم وتفوقهم على سواد الناس ، تشبها بمن قال ، سبحانه : كن فيكون .
ولقد جارى الرومنتكيون - فى اندفاعهم الوجدانى وغلوائهم العاطفى - هذا الوهم وأكدوه وتبنوه منوهين بالعبقرية الخلاقة التى هى صورة من الله ومثال ( Demiurge ) .
ولو قد أنصف الأدباء والنقاد وتبصروا لرأوا فى جهد العقل الذى يرتفع من الحضيض الى الذروة متواضعا فى سيره متعثرا متجلدا لا ينى يجهد حتى يشارف الكمال ، لرأوا فى هذا الجهد (( البشرى )) الخلاق الذى يتحدى الفشل واليأس والعجز والموت شرفا للانسان وفخرا له .
ولم يعترف أهل الأدب بشأن العقل ومدى مساهمته فى الصنع الأدبى ولم يوفوه حقه وينصفوه إلا منذ رد الفعل الذى أعقب حركة الرمنتكيين وتمخض عن مفاهيم جديدة وطرق فى التعبير مستحدثة من (( برناسية )) و (( واقعية )) و (( طبيعية )) و (( رمزية )) .
ولا بد من الوقوف عند أول كاتب وشاعر فتح البصائر على حقيقة الخلق الأدبى ولفت الأنظار إليها بأن وصف - بكامل الدقة والصراحة - تجربته
الحية الواقعية عند نظمه لقصيدة له من أروع الشعر . هذا الشاعر هو (( ادفاربو )) Edgar Poe ) وأما القصيدة فهى (( الغراب )) ( The Raven ) .
ولأول مرة فى تاريخ الأدب تسنى لنا حقا أن ندخل مسرح الخلق الأدبى وننظر فيه من الداخل ( coulisses ) فنشهد الأثر الفنى يبرز من العدم ويتكون بين أيدينا شيئا فشيئا يسعى خطوة خطوة ثم يدرج ويطير ؛ كل ذلك بصفة طبيعية لا أثر فيها لسحر معجز أو لابداع سماوى خارق وكما لو كنا بصدد تركيب جهاز قطعة قطعة أو النظر الى تجربة علمية فى مخبر .
وإن الأثر ليبدو أول أمره بسيطا متواضعا أقرب الى الابتذال ، بذرة صغيرة ضئيلة ثم هو يغتنى ويتضخم ويتبلور ويتصور ويكتسى طرافة وحسنا بما يجود عليه الشاعر من مواهبه جميعا فى حالة من الوعى واستنارة الذهن ونشاطه لا يشوبها غيبوبة أو بحران ولا يتطرق اليها ذهول أو هذيان .
ومهما يكن فى وصف تجربة الشاعر الامريكى ( 3 ) من مبالغة ( مقصودة أو غير مقصودة ( فى الغض من أثر الحدس والالهام والمصادفة والاتفاق فان تحليله الكاشف الجرئ أول نظرة واقعية موضوعية الى مشكلة الخلق الأدبى ؛ فلقد أخرجها من إسار الغيب وهتك عنها الحجب والأسرار demystification فكان عمله خطوة حاسمة فى معرفة حقيقة الفن والقضاء على التهويل والخرافة واستجداء الغيب والتوسل الى الآلهة وقديما قال الشاعر : (( الشعر صعب طويل سلمه . . . )) وكذا الفن عامة ، فالعبقرية لم تكن يوما هبة متاحة وإنما هى غاية بعيدة عسيرة لا تنال إلا بالعقل النير والعمل الكادح والشوق الذى لا يشبع ولا يرتوى أبدا .

