الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 4الرجوع إلى "الفكر"

النقد وتاريخه، في الادب التونسي

Share

لا يظهر النقد عادة فى هذه الحياة الا اذا زخرت ثروة الانتاج وانتشر انتشارا بعيد المدى فيهتم الناس آنذاك ويضطرون الى تمييز الجيد من الردى والغث من السمين والصالح من الفاسد.

ظاهرة اجتماعية مطردة لا تختص بالمعنويات فحسب بل تشمل الادبيات والماديات مطلقا. وقديما قالت العامة فى امثالها (اذا غلت الاسعار فعليك بالمليح اختار) وهل يكون الاختيار اعتباطا؟ كلا فلا يكون الاختيار الا بواسطة النقد فالذى يختار ناقد حقا لانه يقبل على الجيد ويطرح الردى فاذا احس المنتج فذلك وشعر بهذا الضغط الخطير فكر مليا فى مآل انتاجه وسرعان ما يضطره النقد الى تجويد بضاعته وتحسين صناعته والا عرضها للكساد بالاعراض عنها ثم الاضمحلال لان الناس اكيس من أن يقبلوا على بضاعة ما ولا يلمسوا الاجادة والاحسان فيها لا سيما اذا زخرت سوقها.

والناقد بصير ابدا لانه ينظر الى الاشياء من سائر وجوهها نظرة شاملة مدققة بعين اليقظة والتمحيص بينما العامل يغمره الانهماك وينهكه العمل فيضعف فيه ملاحظة الدقة فيغفل بعض وجوه الاجادة.

وشتان بين من ينتقد الاشياء وبين من يبرزها فالعالم فى دراسته وبحثه والاديب فى نثره والشاعر فى شعره والصانع فى مصنعه يغمرهم العمل ويشغلهم فيذهلون ويسهون. والناقد يقلب الامر ظهر البطن فى راحة واطمئنان وفي اوجز مدة فيلوح له الخلل والزيف من الاشياء فيشير له ليصلح المخطئ خطاه والعامل صناعته حتى تجود الاشياء وترتقى ومن هنا كان النقد من ضروريات الحياة التى لاغنى عنها البتة.

وقد تروج الاشياء الخسيسة عند الضرورة ولا يقام لها وزن ما دام النقد المحتسب الحقيقى عليها مفقودا.

اذن فكل عمل وكل فن لا يمر تحت مرآة الناقد فلا يؤبه له لانه غير جدير بالرواج والخلود وقد اشار الى ذلك الاديب الكبير الناقد الحسن بن رشيق فى عمدته فقال: (1)

((و كم فى بلدنا (يعنى القيروان) هذا من الحفاث قد صاروا ثعابين ومن البغاث قد صاروا شواهين ان البغاث فى ارضنا يستنسر.

ولولا ان يعرفوا بعد اليوم بتخليد ذكرهم فى هذا الكتاب ويدخلوا فى جملة من يعد خطله ويحصى زلله لذكرت من لحن كل واحد منهم وتصحيفه وفساد معانيه وركاكة لفظه ما يدلك على مرتبته من هذه الصناعة التى ادعوها باطلا وانتسبوا اليها انتحالا الخ أ.ه.))

وقد عرف الادب التونسى النقد وجلى فيه واحرز على قصبات الرهان فى طورين هامين من اطوار حياته وذلكم فى عهدين عظيمين العهد الصنهاجى الحافل والعهد الحفصى الزاخر وسيأتي وان النقد فى العهد الحفصى اخذ صبغة رسمية وكان له ممثل رسمى ضليع طيلة ازدهار العلوم والاداب وتدفق الانتاج وغنى عن الايضاح ان العصر الصنهاجى الذى سبقه العصر الاغلبى الذى هيأ له وعبد وسن له العناية بالثقافة العامة ناهيك كثرة الاساتذة والطلاب الذين كانوا لا يحصون كثرة حتى ارتقت الثقافة ارتقاء لا مثيل له فى تلكم العهود الغابرة التى اكتضت القيروان فيها بالفقهاء والنحويين واللغويين والادباء البارعين من حملة الاقلام والشعراء النابغين وبلغ الشعر ذروته والنثر قمته ناهيك بعصر كان المؤلفون يجازون فيه (1) من الحكومة والعلماء ترفع درجتهم وكان العلماء والادباء المثل المضروب فى السمو الخلقى الذي كانت تشع منه الاشتراكية (2) الانسانية شعا واعتنى الصنهاجيون بعد الاغالبة بالثقافة فازداد الانتاج وتضخم وتنوع وظهر اعلام تونسيون وهواة ومتفنون فى كل ناحية ثقافية وتالق الادب من شيوخ الشعر حتى اجتمع ببلاط المعز ابن باديس مائة (3) شاعر وظهر النقاد المبرزون من بينهم محمد بن شرف القيروانى فى رسائل انتقاده: والحسن بن رشيق فى عمدته التى قال عنها امام الانشاء وحامل لوائها فى القرن السادس القاضى الفاضل ما نصه:

العمدة تاج الكتب المصنفة فى هذا النوع يعنى (الانتقاد او النقد الادبى).

ولعلكم تجزمون معي بان دائرة النقد فى الادب التونسى اتسعت اتساعا خطيرا فى هذا الطور حتى تجاوزت حدود بلادنا وشعت بالاندلس واستطاع ادباؤنا ان ينتقدوا الاندلسيين كتابهم وشعراءهم وعلماءهم واليكم شيئا من رسالة بلدينا ابى على الحسن بن محمد بن احمد بن الربيب القيروانى كتبها الى ابن حزم يذكر فيها تقصير اهل الاندلس فى تخليد اخبار علمائهم ومآثر فضلائهم وينتقد ما صدر من انتاجهم فلنقتصر على محل الحاجة منها قال ابن الربيب فى اقامة الحجة على تقصير الاندلسيين ونقد انتاجهم قال ابن الربيب

يخاطب ابن حزم المرسل اليه ... فان قلت: ((انه كان مثل ذلك من علمائنا وألفوا كتبا لم تصل الينا فهذه دعوى لم يصحبها تحقيق لانه ليس بيننا وبينكم غبر روحة راكب او رحلة قارب لو نفث من بلدكم مصدور لاسمع من ببلدنا فى القبور فضلا عما فى الدور او القصور وتلقوا قوله بالقبول كما تلقوا ديوان احمد بن عبد ربه الذى سماه (بالعقد) على انه يلحقه فيه بعض اللوم لا سيما اذا لم يجعل فضائل بلده واسطة عقده واكثر الحز واخطا المفصل واطال الهز لسيف غير مقصل وقعد به ما قعد باصحابه من ترك ما يعنيهم واغفال ما يهمهم أ.ه)) فتأملوا رعاكم الله فى هذا الانتقاد الصارخ المر فهل يصدر عن ضعف؟ كلا بل صدر عن اعتزاز بالادب التونسي الغامر الذي ذهب ضحية نكبة (الاعراب) القادمين من صعيد مصر كما يعلم ذلك كل من له المام بتاريخ بلاده (تونس) وهيهات ان يرتاب مطلع على تلكم الرسالة فى ان الادب التونسى كان فى تلك العهود ارقى ادبا عربيا فى بلاد العرب وليس ذلك من قبيل الدعوى او التعصب ولكن هى الحقيقة ولقد ناقشنا ابن خلدون فى دعواه التى ركزها على ضعف الادب الافريقى اعنى التونسى واقمنا الدليل على اسقاط دعواه فى كتائب لنا فى غير هذه المجلة ولما رسخت قواعد الدولة الحفصية بتونس فى القرن السابع الهجرى واقبل على تونس الادباء والعلماء من كل صوب قامت للادب التونسى سوق عظيمة بنبوغ الشعراء من التونسيين وبروز الادباء وتدفق الانتاج فانبثق النقد من جديد وهو تابع لزخارة الثروة العلمية والفنية كما لا حظنا آنفا واعتنت الحكومة الحفصية ايما اعتناء بالنقد الادبى وقد مهدت بتكوين خزانة علمية واسعة النطاق حوت ثلاثين الف مجلد (1) ومن التراتيب التى كان يجرى بها العمل ان كل تأليف تونسى يودع هذه المكتبة بعد ان يمر على قلم النقد فى الطور الاول من اطوار الدولة الحفصية طور الزخارة والازدهار وكان الامير يخصص للنقد عالما ضليعا فى الفن الذى ألف الكتاب فيه ليراقبه وينتقده يختار هذا الضليع من ارسخ العلماء قدما فى المعرفة والطريقة التى قصها علينا المقرى فى نفحه تبرهن على ذلك اكبر برهان وتنبئ على ان الناقد يصدر له الملك امره بنقد الكتاب او البحث او الموضوع الذي يقدمه صاحبه وقد نقلت هذه الطريقة فى كتابى تونس فى مواكب الحضارات والعصور اثناء الحديث عن حازم القرطاجنى وهو من كبار أدباء العهد الحفصى فقلت عنه فى اثناء الحديث تلقته الدولة الحفصية بجميل الوفادة والاكرام شانها مع الادباء الاعلام وعرفت له حقه فاناطت بعهدته التدريس بتونس وتعقب التاليف التونسية وتعهدها بالنقد والتمحيص حسب قواعد ونظم متبعة فى ذلك العهد وقد حدثنا الاستاذ المدرس المؤلف أبو جعفر الفهرى التونسي عن هذا الترتيب (نقلا عن النصح) لما كتب الاستاذ الفهرى شرحا لكتاب (الجمل) للزجاجى وصدر الامر باحالة الكتاب على حازم لتعقبه ونقده: ذهب الفهرى أبو جعفر الى منزل حازم بتونس وطلب مقابلته ولما اذن له

بالدخول قال الفهرى المؤلف: ((وجدت كتابى بين يدى حازم فقلت له يا أبا الحسن)) قال الشاعر: ((وعين الرضا عن كل عيب كليلة)).

قال فاجانى حازم على البديهة بقوله:

((يا فقيه يا ابا جعفر انت سيدى وأخى ولكن ... هذا أمر الملك ... لا يمكن فيه الا قول الحق (والعلم لا يحتمل المداهنة) )).

فقلت له: ((اطلعنى على مواقع الخلل فقال اما هذا فنعم واظهر لى مواقع سلمتها ... واصلحتها بيدى . الخ أ. ه.)) الا يكفيكم هذا ويقوم لكم حجة نيرة على عراقة تونس وعظمتها وسبقها لكل غاية شريفة فهل انتم عاملون كما عمل اسلافكم على الاقل.

اشترك في نشرتنا البريدية