الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 2الرجوع إلى "الفكر"

النوافذ

Share

سحب داكنة تحجب سماء المدينة ، وحرارة ثقيلة تسقط على جدران المنازل ، وصمت موحش يخيم على المدرسة ومن فيها ، وباب القسم ونوافذه موصدة . فلا يدخله الهواء إلا من شقوق ضيقة ، بل لم يعد الهواء قادرا على التسرب لان أنفاس التلامذة قد ملأت الجو وزادته تعفنا .

وقد أبي الجرس أن يندق منذ ساعات ، أو هكذا خيل لمن في القسم . أحسوا أن هذا الجرس اللعين لن يدق أبدا ، وأن كلام المعلم المسترسل لن يتم . قرؤوا مرات متعددة كل ما كتبوه على الجدران والطاولات ، ومن ذلك فالحصة تتمطط وتتمدد قرؤوا شعارات مختلفية " بالعلم والعمل فرحة الحياة " يحيا النجم الرياضى الساحلي " بالتعاضد بالتصميم شعب الخضراء يعيش كريم " . قرؤوا ما كتبه أحدهم بالطباشير الاصفر بالفرنسية على جدار القسم " ! Je me sens si seul ليعبر عن حدة شعوره بالعزلة

كل ذلك والمعلم يتكلم . إنه يقطع القسم جيئة وذهابا ، ويطرق الارض

بحذائه ، وقد علق بصره بالسقف ، فلا يرى احدا ، ولا يسمع أحدا ، ولا يشم شيئا ، بل هو غارق في حديثه الطويل وشرحه المستفيض لقوله تعالى : " أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم . "

إنه لا يسمع حديث الاطفال . ولا يعلم أنهم لا ينصتون إليه بل يحلقون بخيالهم خارج جدران القسم وبلور نوافذه المطلى بدهن أبيض . يقولون إن الربيع قد أزهر في الحقول ، وإن الطيور قد أكلت حبات الزيتون وإن البحر أخضر هذه الايام يقولون إن النسيم في الرياض بليل ، وإن الفراش بدأ ينتشر في المروج ، وإن النحل يمتص رحيق النوار . يقولون إن أطفال المدينة يمرحون وينشدون ويرقصون

والمعلم يتحدث ! يقولون إن الصغار في عوالم أخرى هم أمراء الناس ، وامراء البيان ، وإنهم بالحب والسحر والفن ينعمون قال المعلم : " والجنة جزاء المطيع .. " فقال طفل : " وأين توجد الجنة ؟ "

- اسكت يا كافر !

- وهل فيها طيور ، ونحل وفراش وزهور ؟ ولا يجيب المعلم ، بل يواصل شرح الآية ويواصل الاطفال حوارهم . ويتصورون أنفسهم خارج القسم ، وقد ركبوا زورقا وأبحروا . فغاصوا فى أعماق

اليم ، وأطلقوا زورقهم يضيع في الافق ، ومرحوا مع الاسماك ، ثم ركبوا أجنحة الطيور وعادوا إلى الشاطئ

والمعلم يتحدث والجو يزداد ثقلا ، والهواء تعفنا ، والصبيان قلقا

فأغمى على تلميذ والمعلم يواصل كلامه عن الجنة والنار وعن طاعة الله ، وطاعة الرسول ، وطاعة أولى الامر ، وينظر إلى سقف القاعة ، ويطرق الارض بحذائه ، ولا يرى أحدا ، ولا يسمع أحدا ، ولا يشم شيئا . ولم يتفطن لانتشار روائح غريبة في القسم ، ولم يتعرف أن الاطفال قد أعرضوا عن سماعه واتجهوا لعلاج رفيقهم

وفقد وعنيه ثان ثم ثالث ثم رابع

والمعلم يتابع حديثه عن الوعد والوعيد ، والقضاء والقدر ، وأهل النقل وأهل العقل ، وأهل الحل وأهل العقد ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر

والسحب في السماء تزداد تلبدا ، يسوقها الريح سوق الغنم ، فتتكاثف وتسود ، فيظلم الجو ، وتقفر الشوارع ، وتغلق الابواب ، وينزل المطر رفيقا لطيفا أول الامر ، في مدرارا فتاضيا ، يصحبه برد ثقيل يقرع بلور النوافذ

قرعا ، فينشق ، ثم يقرعه قرعا ، فيتكسر ، ويتساقط قطعا صغيرة تفنى فى ماء المطر .

فيترك الاطفال كتبهم وأوراقهم وجدرانهم ومعلمهم وجنته وناره ، وقضاءه وقدره ، وحله وعقده ، ونقله وعقله ، وأمره ونهيه ، ويقفزون من النوافذ مسرعين ، متصايحين ، متنادين ، منشدين ، راقصين وبقوا تحت المطر يرقصون ويتقاذفون بالبرد ويتنفسون عند ذلك أغمي على المعلم

ماى 197

اشترك في نشرتنا البريدية