الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 2الرجوع إلى "الفكر"

الوجود الأخصب

Share

مهداة الى أبطال غرة نوفمبر ١٩٥٤

هذا المقال محاولة طريفة يقوم بها أحد شباب شقيقتنا الجزائر المجاهدة ، له يزل على " شفا حرف هار " كما يقول أبو حامد - لتفهم وضعه ، بل وضع الانسان ، فى هذا الكون ، وتحس الوجود الاخصب ، نبادر بنشره لما فيه من صدق فى اللهجة وطرافة فى التحليل " وحرارة " في اللهجة وحياة ، ونترك الحكم للقراء ليبدوا رأيهم فى ما بسطه صاحب المقال من النظريات وانتهى إليه من النتائج تاركين له مسؤولية الاسلوب وتخير بعض الالفاظ واشتقاقها . واحيانا استقراء التاريخ " الفكر "

ان كان هناك من حنين ازلي فانما هو الى هذا النبع الذى ندعوه الحرية ويوم ان كان الجنس البشرى مجرد نواة فى ابينا ادم لم ياكل هذا من الثمرة المحرمة استجابة لحريته الفردية البحث ، لقد كان ذلك مصطبغا بكيفية ما بالوجود الانسانى الكلى . والقصة الدينية تحدثنا بان ربه قد اجتباه وانه قد اناب واهتدى والواقع ان السماء اجدر من يتفهم ابانا المسكين ، ولقد سلمت فعلا باقرار صبغة شرعية للتجربة الاولى ، وذلك فى الوقت الذى عبر فيه ابونا عن قدمه

ذلك ان الندم ليس غير عجز بائس عن الاحاطة بالتجربة الكبرى ، وربما كان يظن ان اكله من الثمرة لجدير بملء وجوده المنهوم ، واذ تبين انه اعجز من ذلك استسلم الى كيفية اكثر عملية . فهو يقترن وينجب اولادا ، عسى ان يصل هؤلاء ، وما تسلسل منهم ! الى الاحاطة بالتجربة ، لقد انابنا عنه .

والقصة الدينية تقول ان الشجرة المحرمة كانت منتصبة بالجنة نفسها . فلماذا ؟ والواقع انها لو لم تكن هناك لكنا غير مهولين اصلا فى ان نتصور ابانا فى السماء تحت نوع من الاقامة الاجبارية .

لقد سوى كل شيء اذن وحل هذا التفاهم فى لسعي وراء ممارسة التجربة  الكبرى لطبيعة ازلية لكل انسان

ولكن اذا كان في التجاء آدم الى التناسل مبدأ للاحاطة فان فيه ايضا مبدأ

للتعويق : لقد كان واحدا فاصبح متعددا ، وكان يحمل الوجود الانسانى الكلى ، فعاد هذا الوجود مقتسما بين الملايين من ابنائه ، فباتت هناك حدود تفصل بين كل فرد واخر الامر الذى يفقد سعينا الالتئام والتناسق فلا نظفر بملء وجودنا الكلى وصحيح أنى ورقة من الشجرة الكبرى ، ولكن ها ان مجرد شكلى ليملى على نتائج انفصالية ، ومن شكلى تبرز ميزات خاصة قد تؤدى بى الى نسيان نياطي بالشجرة ! آدم ؟ لقد بعد العهد بيننا وبينه واصبحنا نتصرف فى امانته التى عهد بها الينا كما لو كانت امرا شخصيا تماما . ولكننا مع ذلك لم نعدم تماما الشعور بان علينا امانة . لقد تهاونا بها واهملنا متطلباتها تحت ضغط اجسامنا المقتطعة :

هل كان مما يلائم ابانا ان يتوسط لدى ( خالقنا ) فيصنعنا مجتمعين اجسادا مترابطين باعضاء بدنية ؟ الحق ان ذلك لا يفيد اذ يجعلنا فى جانب واحد من التجربة ونكون عاجزين عن التوزع الضرورى للاحاطة بها ماساة هى وجودى الفردى وحنيني الازلي ! كيف السبيل الى القفز بهذا الجلد المفروض عليه العقوق والاتصال بالنبع الجباش !

يجب ان يكون ذلك بواسطة روحية . بتحقيق وجود داخلى كلى ، لا بنار الاجساد ولكن يتقلب على تعدديتها . يمر الافراد ولكن على انهم من ابوة واحدة .

والواقع ان الطبيعة قد منحتنا القدرة على تحقيق ذلك ، واذا كانت تظهر بطريقة عفوية في انواع من الغرائز فان فى المستطاع تحقيقها فى مجال غريزتنا الكبرى ، العظمى : الانسانية .

ان الاتصال المتفانى بين المحب وحبيبه لكأنه اختصار لتعدد الكبان تحصا للوحدة ، لكأنه اختصار لنا فى سبيل الوصول الى ادم واحد .

يبد ان ذلك يظل مجرد اتصال جزئى ومؤقت غالبا ، انه اتحاد اثنين لا يلبث ان يعهد بدوره مهمته الى الاقتران الجنسى . ومهما يكن فانه لدليل على تاصل حنيننا الى الوحدة ، هذه التى تهبنا القدرة على ممارسة الحرية الكبرى ، ومن ثمة الدعوة الى اعادة المحاولة متجاوزين الطرق المسدودة .

نحن لا نستطيع ان نحيط منفردين بتجربة الوجود الاخصب ولكن الحنين الى ممارستها لمتاصل فينا فلا بد اذن من تفجير طاقة اعماقنا الهاجعة

واكثر من الحب الجنسى دلالة على التاصل في نشدان حريتنا هذه الظاهرة التى نرد بها كلما تلبسنا بمظنة عقوق ، هل لم تنتبه الى الرعشة الازلية وقد فاجات عريانا ؟ ان ذلك يمكن ان يفسر على انه رد فعل طبيعى ضد حصرك اياي

فى مظهره الجسدى التعددى .

وها ان جمالا انسانيا ينتصب امامى الآن ، هو يتراءى لي في جسد ولكنه ليس جسدا هذا الذي ارى انى لا استطيع ان احده بوضع يدي عليه ، انه يهرب بى الى " ما وراء " كذاك العصفور الذى يضلل الاطفال ، الا انه عن الجسد يضللنى ثم هو يهدينى الى حيث النبع الدفاق

غير ان الجمال ليس يتمتع به كل فرد حتى يقتصر عليه محقق وحدة ومن ثمة متيح احاطة بالتجربة .

والحق ان مبادىء الروح قد تغلب عليها النجاح الآلي من العصر الحديث فازدادت بذلك مبادىء الفردية او الوحدوية المصطنعه المزيفة قوة وتمركزا . فقد مضت تلك العقلية التى كانت ترى فى الجسد خادما ملعونا على الروح ان تظل تجلده بسياط من الحرمان ، فى مقابل حياة اخرى ينسحق فيها الخادم اللعين ويسود مولاه سيادة مطلقة ، وبدلا من ان تتدارك الروح الاشواط التى قفزها الجسم بفضل العلم الحديث تركت نفسها تتخذل واصبحنا نسمع هذه الاجابات ، العقل ؟ عصارة تفرزها خلايا الدماغ ، الوجدان ؟ انعكاسات مختزنة ، الانسان بالتالي حقيبة من العقد النفسية والاجهزة الآلية

ولم يكن من الحق اصلا ان يعتبر الجسد بذاته وضيعا . وان يكن هو المتسب فى التعددية . الا ان الخطأ لفى عدم مواجهة تعدديته بوحدة روحية تقيم التوازن في الانسان فيسعى متكاملا الى حياة خصبة حرة .

ولقد اخذ طليعة من اساطين العلم الحديث يتنبهون الى خطأ السبيل التى سلكتها الآلية المتحجرة والميكانيكية الضيقة ، الا ان ذلك لن يجعل الآلة تكف الآن وفورا عن مواصلة اخضاع غالبية البشر الى اخلاقها البشعة

وهذا ما يقتضنا ان ننظر فى هذه الناحية نظرتنا الى واقع قائم الذات ، اى اننا سنتبع اولا كيف انهارت مبادئ " الروحية " تحت بريق الفولاذ . معتبرين ذلك كنتيجة حتمية تغلغلت فينا الى حد اكتسابها نعت الحقيقة . ليس من المفيد ان نغض النظر عن واقع الانسان العصرى ولكن علينا ان نبحث له عن مخرج من خلال هذا الواقع بالذات .

احسب ان فكرة الله هى التى كانت محور الصراع بين الحضارة القديمة وهاته الحضارة الحديثة :

فقد كان الله فى اعتقاد العصور ما قبل الصناعية مشرفا على الكون ومنظما لعلاقة الانسان باخيه ، ان اعتديت على فهو الذى يحكم ببننا ، واذا مرضت فهو يشفينى ، اذا اندلعت فوهات البراكين وزلزلت الارض فهو يحميني . . الانسان القديم مدلل من الله ، فليس عليه الا ان يطلب ليستجاب عاجلا او آجلا ، فهو لا يخبر ضرورة ملحه للقيام بتحقيق رابطة انسانية او مع الكون ما دام الله ذاته يغنيه عنها ، انه يعيش في امن وطمأنينة وليس له من حاجة لان يواجه مواجهة مباشرة لا الطبيعة ولا ابن جنسه ، وحتى عندما يفعل فانما بروح من اللاهوت . ويظهر هذا عندنا المسلمين فى البسملة التى تبتدئ بها خصوصا العمل العويص ، وعند المسيحيين يقوم الرسم الهوائى لعلامة الصليب وغير ذلك من الاشارات المقاربه بنفس المهمة ، ونستطيع ان نوغل فى القدم فتصح نفس الملاحظة على السحر وضروبه كوسيلة تغنى عن مواجهة الانسان للطبيعة او اخيه

فعندما تجفو جدي البعيد خليلته يكفيه - نفسيا ان يدس فى يد الكاهن اعطية . وعندما يشح النيل يرشى بتلك الفتاة الجميلة ، وهكذا فاننا لنرجو من الله نفسه حتى القيام بتسوية مع الحبيب ، فقط فى مقابل حركة يسيرة لليد او اللسان

ربما كان الانسان الحديث يتمنى هو الآخر لو تجرى الامور على مثل هذا المنوال الهين ، بل انه ليلتجئ بالفعل احيانا الى بعض الطقوس التى هى اقرب ما تكون الى السحريات والشطحات النفسية الا ان الفرق اساسي ، فبينا يفعل الانسان القديم ذلك مؤمنا به وبجدواه وفى حالة هدوء لا يلتجيء اليه هذا الا على انه تسلية او آخذ بمنطق الاحتياط لو احتمل ان يكون للطقوس جدوى

وسيطرة فكرة مواجهة الطبيعة هذه على الانسان هى التى قادته الى الثورة العلميه عموما والصناعية خصوصا فلم يعد هناك فى نظره من اله او سحر مستطيع التوسط بينهما لعلاقة جامعة ، فلا بد اذن من التعويل على وسائل انسانية جدية .

وقد نجح الانسان فعلا في هذا الميدان اذ جعل العلم هو الرابطة بينه وبين الطبيعة ولكنه نسى او تناسى مهمة لا تقل اهمية ، انها الرابطة مع اخيه الانسان .

ومن هنا فقد كانت جهوده باعتبار الجنس مفككة ، وبعبارة اخرى لم يجد نفسه الا فى حالة موزعة ليس لها ان تحيط بالتجربة الانسانية العظمى وتجربة الوجود الاخصب والحرية الشاملة .

الانسان العصرى المبهور ببريق الفولاذ ! يا له من مخدوع مسكين ! لقد كان ينوى ان يسود فاذا هو ازاء ما صنعته يداه وفكره عقله عبد خاضع مهان لقد تخثرت انسانيته فى جلده وتسطحت مبادىء الامانة الازلية على حدوده الفردية ! فالمهمة التى تنتظره الان انما هى اولا وقبل كل شئ تحرير ما جمد فيه واطلاق أصالته الرازحة تحت الفولاذ ، ولكن بشرط ان لا يفى فى سبيل ذلك باى من تقدم فى ميدان العلم المسالة تنحصر فى ان يكون اكثر علمية مما هو عليه الان . وهو بالبداهة لا يحتاج حينئذ الى ان يعود الى سحريات وشطحات الماضي السعيد . لقد قلنا ان خطأه لا فى كونه قد استعمل نظره ولكن فى كونه لم يستعمل عينيه كلتيهما .

فلنحاول اذن ان نتصور منحنى ادعى الى تحرير الجانب المحمد فى الانسان ومتكاملا مع جهوده التى حققها حتى الان غير منتصرين لمبادىء لا نرى من الضرورة الايمان بها دون تعويض

وقد سبق ان اشرت الى ان علاقة الانسان بالطبيعة من جهة وعلاقته باخيه من اخرى لهى محور كل حضارة فمحاولتى متركزة على هذه الناحية .

الصفة الاولى للطبيعة هى مجهوليتها لدى ، اجنبيتها عنى ، وبما ان فكرة " المشرف " قد سقطت من ايمان الانسان العصرى ، فان تلك المجهولية لا يمكن ان تجعلني اترجى منها خيرا ، بل بالعكس هى تدعونى الى ان اسلك نحوها سلوكا مرتابا . لقد زالت الثقة وحل بدلها الحذر ، إن اصابني منها خير فلن انظر اليه إلا كحادثة جزئية من " مؤامرة كبرى " كلية ، لست ادرى أموجهة الى توجبها امرانا مجرد عرضة فى سبيلها ، ولكنى لا اشك فى ان وجودى مهدد بذلك فى كل لحظة ، يكفى ان يحدث طيش فى مدار احد الافلاك القريبة فتتحطم الارض ومن عليها ، يكفى ان ينزه اللهب المخزون فى عناصرها فنصبح رمادا ، وهذا الى جانب الموت والحوادث الجزئية والحروب والاوبئة

والبرد والجفاف . . فانا اذن لا استطيع كفرد ان اعيش وجودا ممتددا فى الابدية لكون حياتى محدودة وعمرى قصيرا ، وكل ما اعيشه هو هذا الوجود البسيط الممزق الساذج : فقد اطمئنان يختتم بالموت . فاين السبيل اذن الى تلك الحرية التى اخبر حنيني اليها ملتاعا احيانا ومرانا عليه غشاوة من ثقل جسدى احيانا اخرى ؟ كيف السبيل الى الاحاطة بتجربة ابينا آدم العظيمة

ان ذلك يتطلب منا ان نحيا كفرد واحد وبسيطرة تامة على الطبيعة اى ان نبحث عن امكانية لممارسة حريتنا ممارسة مطلقة ومحبطة شاملة ، ان نملأ وجودنا الكلي بتعامل كونى تتحطم فيه المجهولية والعدائية فتسود الطمأنينة والوحدة ، تتحطم الحواجز ويتلاشي الزمكان ، لنتصل اذاك بالله او لنصبح نحن انفسنا إلها ، فهذه اللحظة لا تعرف تميزا ولا تفريقا .

إلا ان درجتنا الحالية من التطور الجسد روحى (١) لا تسمح لنا ان نرى في لحظه كهذه - ما دمنا لم نصل بعد الى عيشها - سوى توقف عن الحياة ، ثم فكم يلزم من زمان على فرض الوصول الى الاقتراب منها ، بعد السيطرة التامة على الطبيعة وبعد تحقيق الوحدة الكبرى ؟ !

ولا تمتاز الطبيعة في مواجهتنا اياها دائما بصبغة واضحة ، فلئن كانت تكشف لنا عن نفسها سافرة في الكيان الجامد فهى كثيرا ما تندس فى البنيان الحي ، فى الانسان ذاته ، ولقد وجدت فى اجسادنا كممتدة محسوسة وسيلة النفاذ فينا  ذلك انه في الوقت الذي يكتسب صراعنا ضدها صبغة تانيسية (٢) بما ننشره من حضورنا عليها وإحلال المعلومية بعد المجهولية يكتسي بالمثل سلوكها نحونا نزعة تطبيعية (٣) فهما ظلان متساقطان

ولكن بما ان حقيقتى ليست فقط فضائية ولا روحى مضافا الى جسمى او هو مضاف اليها بل وجود يعاش من الداخل كعقل ، وجدان . . ومن الخارج كصلابة وامتداد . . فان تسرب الطبيعة الى مظهرى يهددنى كذلك فى اعماقى ، بهددنى بان اغزى واسلب حقيقتى واصبح مجندا فى طابورها الخامس ضد الانسان وهذا انتصار اولى للطبيعة علينا ، تعقبه انتصارات اوطد ، فبعد ان تكون نجحت في اقتطاعى من حظيرتى الاصلية بالطمس على روحياتى ( من حمل امانة وسعى وراء التحرر المطلق ) عن طريق جسدى واصبح اسلك سلوكا مماثلا فى جوهره لاخلاقها . . وبعد ان اكون قد جلت فى حياتى المسطحة المتخثرة ما شاء ضعفي وغشاوتى معديا غيرى تحت جلبات الانسانية الذى اجمل من شكله وصفاته الظاهرية ما هو جدير بان يخدع ويغرى بعد كل ذلك تنتهى الطبيعة الى تحويلى تحويلا كليا الى حظيرتها واذا بى وقد مت جزء تماما مثل اى من اجزائها .

والحق اننا لا نفتا نضفى متواصل الاهتمام في الكشف عن العدو المدسوس ليس فقط بما يبدو من سلوكنا الحذر ازاء غريب يحل بيننا ، ولكن حتى مع هؤلاء الذين نعاشرهم خصوصا عندما ياتون بحالات " مشوهة " كأن من طبيعتنا الاساسية ان نظل نقوم بمراجعات للتثبت من " صفاء الجو الانسانى " حولنا ، لنعرف ما اذا كنا فعلا ازاء " اكثر من الجانب الجسدى " البادى ، زيفا او اصالة .

يقول المثل : ان العين نافذة الروح . وذلك على مجازه معبر الى حد بعيد عن الحقيقة النبى لا يمكن التعبير المباشر عنها ، فاذا كان جسدك قادرا على مغالطتى وتضليلى فى معرفة اى الجنسين ( الطبيعة او الانسان ) انت منهما فان عينيك لاقل من ذلك مقدرة وادعى الى الحكم القريب . ولهذا فانى اسائاهما بين الحين والحين وقد تذكرت - لا شعوريا - العدو المدسوس ويغض مواجهى ربما لانه قدر مكانية كشفى عن طبيعيته الممسوخ اليها فيغلق بذلك وسيلة المعرفة ، وقد يكون اغضاؤه رد فعل على اتهامى ناتجا عن براءته فلم ينو غير اخفاء الجانب الجسمى من عينيه بعد ان عجزت عن فهم بريقهما الانساني ، فكانه يدعونى الى امكانية اخرى للتعارف تكمن فى ما وراء الجسد .

وانا ايضا انا الناظر . مستهدف منه الى نفس " المراجعة " فهو الاخر مهتم بان

يعرف حقيقتي الباطنة ، ولكن بما انى قد سبقته فكاننى بالسبق قد اوهمته بان انسانيتي مفروغ من صحة اتصافي بها ، ولذلك فهو عندما يرد على مباشرة بنظرة - اما ان يمر مطعونا بما اتهمته دون ان يقنعنى بالبراءة واما ان ينظر الى نظرة رادعة ردعا وديا او مؤنبا .

وهذا كله بالنسبة الى البريء من المنظورين فاما الطبيعى المدسوس فغالبا لا ينزع الى الرد على تحديقى به ان كنت انا من قوة الماورائية (1) بحيث لا يخطئني الناظر ، وثمة فرق اخر : رد البرىء يهدف الى اعادة الاتصال الروحاني المزعزع بالتعدد الجسدي بينما لا يهدف المزيف الا وراء الامعان فى الغش والتزييف .

ومن هنا يمكن ان نضيف الى المثل السابق هذا التعليق وهو ان العين فضلا عن كونها نافذة الروح لدليل على نشداننا الازلى لمبادىء الروح التى هي وحدة انسانية متحابة عالمة محولة الطبيعة اليها (٢)

على اني لا اعني ان العين لتوصلنا دائما الى حكم مصيب فعدونا له وسائل عديدة من التستر والخداع . فما هى اذن امكانيات هذا الانسان الممزق فى ذات معكره المهدد من محيطه الخارجى ؟ ما هى امكانياته فى تحريرية في تجربة التحرر الكبرى وممارسة وجود اخصب .

ها هنا مفترق الطرق فاما ان استسلم ضعيفا وانسان كقشرة تافهة مواصلا الانهماك في جسديتي (٣) واكون بذلك قد انضممت الى الطبيعة (٤) واما ان اعود الى نفسى فافجر منها ينبوعا قويا دفاق

وفي الاتجاه الاول قد تقدم لنا الطبيعة جزاء الخيانة العوبة كنا رفضناها من قبل : دمية من سند منهار لاننا فى هذه الحالة نكون من الضعف الداخلى بحيث لم نعد تقدر على مواجهة الطبيعة مواجهة مباشرة .

اما فى الاتجاه الثاني فالامر مختلف تماما : اعترف بان الطبيعة لا تقصدنى قصدا لا يقبل الشك ، ولكن ذلك لا يغير من شعورى بانى طرف ، هى تنال منى واذن فانى اهل لمصارعتها وانى وجود تصطدم به . فلا ثبتن فى الميدان ! ومهما تكن قوتى عندها ضعيفة فانها بنظرى قوة جبارة . ذلك انى لم استسلم لها بل بقيت محافظا على أصالتى كانسان ، صحراء ! هول بيد انى لم اسلك إلا سلوكا انسانيا ، الشرف عندى افضلك من المجد ، والمحبة خير من النعيم . . قد دعمت حريتى وحافظت على صميمى فالعمل جزء من الغاية ولا بد انى واصل الى الانسان السائد الناشر حضوره . هذا الموقف تمليمه على كرامتى العميقة وشعارى الانسانى الذى هو الا أخون ابدا مهما كان عدوى قويا ومهما صادفت فى اخوانى من تنكر واضطهاد . لقد اخترته تجاوبا مع اصالتى دون ان الزم به من اية سلطة خارجية فلا الخوف ولا الطمع بمخضعى ، إنه عهد قطعته على نفسى كلمة شرف افوه بها واعيا لموقفي ملتزما به ، إن شعارى لانا بالذات ، انا الانسان المحمل امانة الملتاع حنينا الى المحبة الشاملة والوحدة الكونية . لقد اصبحت أنفتى العظمى منبع كل قيمة ومقياس كل فكرة . لقد بدأت ادوق طعمها ، طعم وجودي الاخصب فهيهات ان اتخلى ، سابقا ربما كنت مشوبا فى صميمتى فانا اعير الامور بالمنفعة وابحث عن تطرية جلدى ولكني الآن قد اكتشفت تساهلي المفرط إذ كنت استخدم المنطق فى مهاجمة تلك الجلدية التعددية وانى بالغت فى انصاف الواقع حتى جاوزته ، اما الان فان فانى الحقيقة - المنبع كل وجود مطبوع بى ، او ينبغى وكل اثر مبلل بعرقي . . ومهمتى بل صميميتى نفسها تقتضينى ان اعمل ابدا على بث وجودى ونشر ، على ربوع الكون كله .

وبعد أفليس لنا ان نتساءل الآن عن المظهر العملى لذلكم العهد ، كيف السبيل الى التوفيق بين اصالتى . حريتى ، وجودى الاخصب وبين جانبى الجسدي ، الفردى ، التعددى ؟ اذا كانت الطبيعة هى التى تمنعنى من ممارسة حريتى فكيف

السبيل الى ان اعوقها بدوري ؟ لا سيما وانها ثاوية ايضا في ربع الانسان ، فى جسده ! الوجود الانسانى كافراد منعزلين روحيا مدسوس فهو مهدد ، واذن فلا بد قبل كل شئ من الخلاص من عدوه المرتدى زيه واذ ذاك يمكن التفرغ لمواجهة الطبيعة سافرة .

نعيد القول بان صفة الانسان الازلية ، ماهيته ، وجوده الاخصب لهى الوحدة ، وحيث إن ذلك اصله فانه ليس فقط من الممكن الوصول اليها بل وايضا يظل وجوده ناقصا ضامرا بدونها فلا امكانية والحالة هذه لاستيعاب تجربة الوجود الاخصب تلك التى رمزنا اليها الصدر المقال بالقصة الدينية ، مهمة الطبيعة بالنسبة التي تتلخص في التاكيد على جلديتي دون روحى في الختم النهائى على حدودى الفردية ، امانة حنيني الازلي (١) فلا عملن انا اذن على نشر حضورى عليها وتحويلها الى ، وذلك لا لمجرد المعاكسة بل ولأعيش امكانياتي الانسانية الخصبة ، فما هى قواعد المنطلق الاعظم ؟

صحيح ان الاله بمعناه التقليدى (٢) قد رفضه استيقاظ وعيي غير ان جوهر الوظيفة التى كان يفترض القيام بها لما نزل ضرورية الاشغال والواقع ان ما يرفضه الانسان العصري ليس الا اشغالها من اجنبى ، من غير الانسان ، وبعبارة

اخرى لم يكن رفضه الاله الا بسبب اجنبيته ، ومعناه ان التاكيد على الانسان كمنبع لكل قيمة ليحتل اولية الحقائق ، بيد ان هذه الحقيقة - اعنى الرفض - وان تكن منطقية فهى لم تستخلص الا عبر تجارب ذاتية من اعتداد انسانى . وخيبة فى السند الالهى ومعاناة لازمة الحضارة الحالية . . فهى حقيقة لا تفرض الاجماع قبل تكوين حاسة لتذوقها . ولكن الايمان بالاله التقليدى ليس ايضا اجماعيا ، لقد حدث انشقاق حوله فلا بد من البحث عن رابطة مشتركة .

انا (١) قد شاهدت موت ابينا الحامى لنا ولكن اخوتى المغمورين ببخور مخدر يأبون على الاعتراف ، العالية متأصلة فيهم لتربيتهم المدللة فهم قاصرون ، ولو انهم بلغوا الرشد لانتهى الشقاق وضممنا يدا الى يد حارتين الارض . .

ولكنى انا الذى وعيت موت الاب الحامى ليغمرنى نحوهم شعور كان فى الماضي عليه هو مضفى لو كان معترفا بموته اجماعيا فان شعورى يعطي صبغة العقد فأما وهذه الحالة فانه التزام . وهكذا ينبع الحب وبه اعيد ربط العلاقة التى مزقتها خلافاتنا حوله . انك قد لا تشاركني فى معتقدى الرافض ولكنك لا تستطيع منعى من ان احبك ، ان الحب اعظم قوة يمارسها الانسان لو ما ذلك الا لكونه منا نابعا والينا يعود ، الحب دليل آخر على ان الانسان هو مصدر كل حقيقية .

ومن جانبك انت غير الرافض فلا بد ان يعديك حبى اياك فنجاوبني وتشع على كما اشع عليك ، وان لم اكن لاشترط ابدا التعاوض . . وهكذا يبتدئ الحب يحل محل الاله كسند ورابطه بين الانسان وأخيه وذلك لما يحقق من الوحدة الصميمية الاصيلة الشريفة .

بيد ان الحب وحده لا يكفى لملء الوظيفة الالهية ، اذ تبقى الوصلة مع سائر الكون ، صحيح ان الواجهة المجابهة للطبيعة قد اصبحت له موحدة الامر الذي يهىء للاحاطة بتجربة الوجود الاخصب ، تجربة نشر حضورنا عليها ولكن ذلك يبقى مجرد تهيئة علينا اذن ان نقوم بالعمل الذى تتيحه الوحدة . ذلك ان

الاله كان يربط لا بيننا فحسب ولكن بيننا وبين الطبيعة ايضا وقد رفضه الانسان الحديث اعتدادا باصالته وبقى عليه ان يعوضه فى هذه الناحية كما فى الاخرى

وهنا يجدر ان نوضح نقطة هامة : من وجهة نظر الطبيعة الطبيعة ان جائز ان تستعيرها لمجرد الايضاح - لا مانع من افتراض انها هى الاخرى لتسلك سلوكا وحدويا كونيا بحيث ان غايتها تنتهى بانتفاء الحدود بينها وبين الانسان ذاته وحلول " واحد " محلنا جميعا وذلك يعنى وجود كينونة من وراء اصطراع الطبيعة والانسان يمكن نعتها ب " المتفوق " (١) من صفاتها ان يزول فى ذروة تطورها الانسان والطبيعة كلاهما .

فباستعارة عقلية طبيعية كهذه يمكن لنا ان نوسع معنى الحب فننقله من داخل الانسانية الى الطبيعة ويكون مضمونه هو صراعنا القائم معها اى نشر الحضور فتتحقق به علاقتنا مع الطبيعة

ولكن يجب الا نتمادى في الاستعارة اكثر فما دمنا الانسان فانه يستحيل علينا ان نكون الطبيعة وان نتعقل " وجهة نظرها " ، ان وجودى مهدد بها وانا عرضة لها واصالتى تاببى على البقاء فى وجود ناقص والاستسلام لها . ولكن من الحق ايضا ان ننبه الى ان ما عسى ان يشتم من عدائية فى الصراع ليس غير ضرورة من ضرورات التعبير

وكما ان الحب مبني على قابليتنا الانسانية فان العلاقة التى ستربطنا بالطبيعة لا بد ان تكون مقتعدة على قابلية مشتركة بيننا وبينها ، وقد اشرت من قبل إلى ان الجسم هو منطقة الطبيعة فينا او لنقل متاثرين بأحداث السياسية : قاعدتها المنتصبة فينا ، ولكن بما ان الجسم ليس معزولا عنى انا الانسان بل هو من الخصائص المكون لحقيقتى فانه يمكن ايضا اعتباره " قاعدتنا " فى الطبيعة . فالجسم اذن هو المبدأ

المشترك لتعاملنا مع الطبعية تعاملا اصطراعيا . ولكن هذا الجسم يجب ان يعمل عملا متسما به لكى يملا المبدأ ويحقق الاتصال . وهنا نجد انفسنا على ابواب ( الجهد ) العضلي الجسمى صفة عامة فرباطى بالطبيعة هو العرق الارادى . فهو في مجال علاقة الانسان بالطبيعة يقابل الحب فى علاقته بأخيه .

وبذل الجهد يعطى هذا التحليل الاولى : مقاومة وشعور بها ، المقاومة هى الطبيعة والجانب الطبيعى من جسمى ، ولكن الشعور بما انه غير فضائى وغير زمانى فانه انا اعنى منى انا المغمور بحب الانسان والغامر اياه بحبى واذن فبالجهد اكون قد انخراطت في ممارسة تجربة الوجود الاخصب : انسان يحول الطبيعة اليه .

ولكن الجهد لكى يتيح حقا نشر حضور الانسان على الطبيعة لا بد من اتصافه بالمعرفة ، معرفة الخطط التى تسلكها الطبيعة ونظام تحركها وكيفيته وليس ما يتيح ذلك مثل الخبرة التى يكتسبها الانسان فى صراعه نحوها الواعى لجسمه ولوحدته ، وما ذلك غير العلم .

بهذه اللحمة المتكاملة من الحب والجهد والعلم ثالوث التانيس (1) الاعظم نتصل باعماق الوجود وندخل فى ممارسة خصبة لحريتنا الازلية الجذور صاعدين نحو تحقيق ( المتفوق ) ذروة الحياة

ارانى انتهيت الان من محاولة اعطاء فكرة ادبية - فلسفية عن الوجود الاخصب وبقى ان ننظر فى علاقته بالثورة حسبما المعت فى العنوان

والواقع ان الكلمة الثورة قد استعملت في اكثر من مدلول واحد فهناك المسلحة والعملية والصناعية . . ودون ان المح الى كل منها على حدة اكتفى بالاشارة الى علاقة الاولى ناصا على انها جميعا اشكال من محاولة الانسان تانيس الطبيعة .

موضوع الثورة المسلحة ) اى ما ثارت ضده ( هو الطبيعة فى رداء الانسان

المزيف العامل على تخثيرنا في جسدنا والختم النهائى على روحنا ) مبادىء التانيس ( واذن فان عملى انا الثائر يتلخص بدورك في انتزاعى من هذا المزيف الثوب الذى بغالطنى به تطهيرا ) للجو الانسانى ( وتفرغا للصراع المباشر ضد الطبعة بجبهة سليمة غير مغشوشه ولكن بما ان اكتشافى اياه منتحلا لم استطع التعبير عنه بحيث ادل جميع الناس عليه فيسلكون نحوه سلوكهم مع الطبيعة فانى التجيء الى تمحيضه في الطبيعة . ولكن اولا يوهم هذا بالدعوة الى ترك الجزاء الى اجتهاد شخصى والى الابعاد من حظيرة الانسان بدل الادناء ؟

الواقع ان التجميد او التطيع " لا يقوم ضد شخص باعتباره فردا مما انه لا يصدر من الانسان المزيف باعتباره جزءا مستقلا عن اشباهه ، بل هناك ممثلون لاخلاق الطبيعة ضد اخلاق الانسان ، وهذا يوضح ان الثورة لا يمكن ان تصدق فى عمل ضد فرد باعتباره كذلك ، وإنما ضد شخص ممثل لفظام ، وانها لذلك لا بد ان تكون شعبية المنبع انسانية المصب .

ومن الطريف ان نجد التدليسية في الانسان المزيف تواجه فى الثورة بالاسلوب السري : هو يوهمنى بانه انسان فلأوهمنه بانى طبيعة ، وهذا ما يشاهد فى الكمائن والهجمات الفجائية واستخدام العناصر الوطنية تحت التظاهر بالولاء الى الاستعمار وغير ذلك من الاساليب الثورية الصميمة

وبهذا تنتهى الى ان الثورة المسلحة ما دامت تهدف الى نشر الحضور الانساني وممارسة الوجود الاخصب مبتدئة بتحديد الانسان المزيف ومنتهية الى ) المتفوق فلا بد ان تكون ممتلئة علما وحبا وعملا

فان تعيش يا أخي ثائرا فذلك يعنى انك تعيش وجودك الاخصب .

اشترك في نشرتنا البريدية