الوحدة :
عندما نتحدث عن الاخوة التى تربط تونس بالجزائر ربما يشعر الكثير منا بجيشان عواطف عارمة تغالبه للخروج الى ميدان الحماس فى مثل هاته الظروف التاريخية . . . وهى احاسيس تفوق عواطف الاخوة والتعاطف بين الاشقاء وتلتحم التحاما قويا مع العواطف الوطنية الصميمة فى عرامة مجدها عند ما يحس الفرد باللحمة الاجتماعية التى تدمج مصالحه فى المجتمع الوطنى ... خصوصا فى ساعات الخطر عن المصلحة العامة التى تتحكم فى كيان الانسان وتقدر حاله ومستقبله
وفى الحقيقة فان الروابط التى بيننا ( تونس والجزائر ) اعمق بكثير من روابط الاخوة الانسانية ورابطة الجوار وهي اقوى واعمق من رابطة التناصر التى يدركها من خرج من ضيم كان يحيق به اثم هو قد رأى غيره يتخبط للخلاص من ذلك الداء الذى عانى هوله وانتصر عليه
انما تونس والجزائر " اعضاء جسم واحد اذا مرض عضو منها تداعى له سائر الاعضاء بالسهر والحمى "
تكامل جغرافى :
فنحن وحدة قد ولدها عنصر طبيعى اصيل هو وحدة الارض وتكاملها ، تلك الوحدة الجغرافية المتباعضة ، بساحلها الممتد على البحر المتوسط ثم المتعالية الى هضاب الاطلس وشوامخه والمتكاملة بخصوبة شريط ثالث من السهول الرحيبة الكريمة باطعمتها الوفيرة المحضونة بسلسلة ثانية من الجبال التى تحتمى فيها الشوارد والمعتصمات . . . حتى تذوب فى الصحراء الوسيعة التى تكمل العمران بواحاتها المتباعدة حيث تجد الاجيال اللاجئة مأواها البعيد عن التيار الكبير المنعزل ، فى امن وشبع وهناء
الوحدة الشعبية
فهذا التكامل الجغرافى فى اشرطته المتباعضة الممتدة قد كان يعمم وحدة الشعب ويعمم توزيع الشعوب المهاجرة ويحل من وحدتها ليصنفها فى طبائعه الاربع ( الساحلى والجبلى والسهولى والصحراوى ) حتى تنطبخ فى مناخاته وتتباعض كل عائلة من عائلاتها فى الوسط الذى يلائمها وتمتزج به وتتوحد مع اهله فى هذا الشمال الافريقى الذى يحتاج فيه كل شريط منه لصاحبه ولن ينقطع عن التبادل . وهكذا تفقد تلك الجاليات وحدتها لتندمج فيه سواء كانت آتية من ارض الحبشة والنيل من الشرق او هى قد اتت
من شنقيط(موريطانيا) والمغرب الاقصى على سواحل الاطلس الكبير او جائية على امواج البحر فى اعصر اخضاع الانسان للماء والريح فسهل على الشعوب التنقل بمختلف دوافع الهجرة من الغزو والبطر الى الخوف والفرار من مصائب الطبيعة وتذاؤب الحضارات والشعوب التى اكتسحت ارضها فجاءنا المهاجرون من فينيقيا وبلاد الشام وفلسطين وجاؤونا من ارض الروم والرومان وجاؤونا من بلاد الحجاز باجيال من عبيدهم وانصارهم الفارسيين ومن مصر وارض خوارزم ومن الترك ... وقد انتهى جميعهم الى التأقلم والتكيف على روح هذا الاقليم فاصبحوا هذا العنصر الافريقى الذى يؤلف وحدة كاملة وامة واحدة بما استخلصته واستصفته من مختلف الادوار التاريخية والحضارات المترادفة
وقد خلد لنا عصر الكتابة والتدوين ان هذا العنصر الافريقى المتكامل قد اطلق عليه المكتسحون لرومانيون اسم الجنس البربرى ثم دمجه العرب فى وحدتهم الكبرى بعد ان محا ظل الغطرسة الرومانية فسواهم مع العناصر التى صحبها فى جلالة الدين الاسلامى الذى وحد النظام الاجتماعى والنظام القضائى وفرض اللسان العربى ثم كف كل غطرسة او ادعاء تفاخر بالانساب والعنصرية
فاصبحت افريقية فى هيبة وحدة اسلامية واصبح لسانها العام انما هو اللسان العربى وان استبقت بعض الواحات ومستعصمات القبائل السنتها المحلية فى مثل مطماطه ومزاب . ولكن كل انسان فيها قد تعلم العربية واصبح ذا لسانين والعربية هى لسان التعامل السائد عليه بحيث تمت الوحدة اللغوية والاجتماعية والتشريعية فى جميع اركانه
وهكذا استقرت هاته الوحدة فى لونها الجديد واتخذت لها مركزا اصليا من العاصمة التى ابتناها العرب من مدينة القيروان
ولم يلبث هذا العنصر الافريقى ان تبلور وركز سلطانه من جديد مستعفيا من توارد الولاة من المشرق وركز حكومته الذاتية بتاسيس الدولة الاغلبية
ثم لم تلبث ان استتمت استقلالها الخارجى فى تاسيسها الدولة العبيدية .. ولما احست بانقسام المشرق وتخاذله فى مصر والشام اعتمدت قواها الذاتية وردت الموجة الآتية من الشرق ، بان التفتت انظارها لفتح مصر والشام ثم اسست مدينة القاهرة على وادى النيل فانتقلت اليها بقوى القبائل الافريقية من كتامة وزويله ... وطمعت - بالفعل - فى ان تغزو المشرق فى امبراطوريته الرومية
والبغدادية التى كانتا قد اكلت من بعضهما وادركهما الوهن وهى قد ابدلت اسمها باسم عربى اسلامى شريف " الخلافة الفاطمية " نسبة للسيدة فاطمة الزهراء بنت النبى محمد وزوجة الامام على ، كما استظهروا بشجارة نسب عريق فى العروبة والاسلام يتصل بالامام على نفسه وبفاطمة الزهراء .
يهمنا هنا ان نعرف ان الخليفة المعز كان قد استقدم من جبال الاطلس زعيما اصيلا فنصبه فى المهدية واختصه بامارة هذا الشطر المتميز بعنصرية افريقية .. وهكذا انتصبت الدولة الصنهاجية على جميع افريقية ، وهاته الدولة الصنهاجية قد تمكنت من توحيد المغرب العربى من مدينة فاس حتى حدود طرابلس التى كانت ملتحقة بالخلافة الفاطمية ريثما ارجعتها الى الامارة الصنهاجية بالقيروان
تنازع النفوذ بين عواصم افريقية
منذ تسلمت الدولة الصنهاجية الحكم 973 م ( 362 ه ) اصبح امراؤهم مقسمين بين الاقامة فى جبال صنها جه بمقرهم الاول اشيرو الواقعة فى دواخل البلاد الجزائرية ثم هم يصيفون على شواطئ المهدية قرب مدينة القيروان التى هى العاصمة الثقافية للعربية والتشريع وهى العاصمة السياسية ايضا من الفتح الاسلامى كما اختطه العرب الاولون الذين هربوا بعاصمة افريقية من الرواسب الرومانية والمخلفات التقليدية للحضارات المتعاقبة على قرطاجنة . وبعدوا بها عن مفاجئات الشواطئ مشرقين بها مسافة 150 ميلا ، حيث وطدوا اركان الامن لحضارتهم الجديدة وللتشريع الاسلامى ولتعميم اللغة العربية على جميع هذا المغرب العربى الكبير منذ اقحم عقبه بن نافع ، مؤسس مدينة القيروان ، فدخل بفرسه فى البحر الاطلنطى باقصى شواطئ المغرب ، ورفع راسه ملعلعا " اللهم انى قد بلغت نهاية جهدى ، فاشهد " وذلك سنة نيف وستين من الهجرة : 682 م ، فرددها الجيش العربى وراءه ، وقد بلغ نهاية العمران ، لعهدهم .
وهكذا توطد ملك العرب واتحد المغرب الكبير فى لغته ودينه وتشريعه . ودامت القيروان على رأس هذا الاتحاد طيلة خمسمائة عام ، لتعود بالنفوذ الى تونس قرب قرطاجنة القديمة بعد ان امنت نكست الجهة ، كما نراه
ولنعد لاستقراء التسلسل التاريخى لعواصم هذه الوحدة الافريقية . فان بلكين بن زيرى بن مناد اول امراء صنهاجة قد اتجهت همته لتركيز العمران فى هذا المغرب الاوسط ، فبنى واعمر مدنا خلدت بعده ، من اشهرها مدينة الجزائر ومدينة مليانه ومدينة المديه وتوسع فى عمران مقام قبيلة صنهاجة من بلدة اشروا الا ان حوادث تاريخية وعوامل عمرانية كانت توطد اركان الدولة فى الوكنة المتجهة نحو الشرق بحيث كانت القيروان تجتذب رجال النبوغ العلمى والفكرى من جميع اطراف افريقية ويتركز النفوذ والثقافة
وفى الدور الصنهاجى هذا نجد مدينة تونس قد اصبحت تشغب على القيروان بخريجى جامع الزيتونة وبظهور سياسيين ومشرعين يؤيدون مذهب القيروان ضد الثقافة والتوجيه الشيعى الذى كان مركزا فى المهدية ثم اصبح مفروضا من القاهرة
ولم يلبث امراء صنهاجة ان شعروا بوجوب الاستقرار فى المهدية والقيروان بحيث دفن الامير باديس اباه ، فى قصره الكبير خارج صبرة من ضواحى القيروان واستقر هو فى الضاحية الاخرى منها فى قصر سردانيا الذى كان شيد عند ما انتصر الاسطول الافريقى على هاته الجزيرة العتيدة فى قلب البحر المتوسط وربما طمعنا فى ضمها للمملكة الافريقية نظير جزيرة صقليه التى بقيت فى حوزة افريقية اكثر من قرنين ، وكانت لعهد باديس جزءا لا يتجزأ من ملك الاسلام فى البحر المتوسط بحيث ان مدة تردد امراء صنهاجه بين قاعدة قبيلتهم اشيرو وبين القاعدة العربية العموم افريقية القيروان لم تزد عن ال 23 سنة حيث استقر ثلث امرائهم فى القيروان ومع ذلك فان تردد هؤلاء الولاة الصنهاجيين على مقيم صنهاجه فى قلب جبال الاطلس طيلة جيل كامل قد غرس فى تلك الجهة ميلا جديدا لتولى الحكم ، وهكذا بدأت الثورات او انتهت لا نشقاق اخوة باديس وتاسيسهم اول دولة فى هذا المغرب الاوسط فى مدينة القلعة جهة قسنطينة فهى امارة حماد وباسمه عرفت دولتهم التى تسلسلت فى اعقابه " دولة بنى حماد " ومع ذلك فان الوحدة كانت مفروضة على شطرى هاته الامارة الصنهاجية فلم يلبثا ان عادا الى التواصل والتصاهر بينما التواصل الاقتصادى والاجتماعى كان لم يمسس كما ان الشعب - هنا وهناك - كان سليم العلاقات متصلها ..
ثم انتهت الدولة الصناجية باتيان الموحدين سنة 1160 م ، فتوحد المغرب العربى كله لعامها المنقب بسنة الاخماس ( 55 ه ) وانتصبت الدولة الحفصية فى تونس . من يومها الى ساعتنا هاته وما تونس الا ضاحية من ضواحى مدينه قرطاجنة ولكن الدهر قلب كل شىء حيث اصبحت قرطاجنة اليوم ضاحيه من ضواحى تونس
وقد سار التاريخ بتقلباته الى ان جاء الدور التركى . فهو الذى اختط هذا لتقسيم الذى يجعل مدينة الجزائر عاصمة لولايات افريقية الاربع ، حسب تقسيمها الادارى لافريقية هاته فاقامت " الداى " هناك وجعلت نوابه فى مباشرة كل طرف من رتبة " باى " ونلاحظ انها قد ابتعدت بالعاصمة الافريقية تونس مثلما انتعد العرب بقاعدتهم القيروان عن قرطاجنة تجافيا لرواسب الماضى ونزعة الاستقلال المتخلدة فى تلك البيئة والمركز المتوارث ...
ولكن المركز الاستقلالى فى تونس لم يلبث ان اعطى الى الباى من الحكم الذاتى والنظام المتوارث ما لم يكن لكبيره " الداى "
وحدة فى السراء والضراء : ثم كان الاحتلال الفرنسى للجزائر سنة 1830 فشعرت تونس بالخطر الذى يتهددها فان هاته الوحدة المغربية الافريقية " كل " لا يمكن ان يمس طرفا منها خير أو هو ان الا وانزرع فى جميع اطرافها وبالفعل فقد حاولت كل شىء لكى تبعد الخطر الافرنسى ولكن التيار الاستعمارى قد كان جرفا ، ولم يمكننا الا ان نشارك اخواننا فى ضرائهم سنة 1881 ثم عمت البلية سنة 1912شقيقتنا المغرب .
واخيرا ثارت تونس ثورتها الماجدة سنة 1952 ولحقت بنا ثورة المغرب ثم تمت الحلقة باعلان ثورة الجزائر 1 نوفمبر 1954 وكانت الغطرسة الاستعمارية تتحطم لعامها فى ( ديان بيان فو ) فى اقصى الشرق بالهند الصينية من الاستعمار الفرنسى
وهكذا تمكنت تونس من اعلان استقلالها بالحكم الذاتى 3 جوان 1955 حتى شفع بالاستقلال التام ، ثم تلتها المغرب فاعلن استقلالها بالفعل
وها نحن اليوم نتوقع انقشاع ظل هذا الاستعمار عن مركز انطلاقه من اختنا الجزائر . ولن يهنأ لافريقيا بال ما دام لهذا الاستعمار ظل فى الوجود . وبانقشاعه سيشعر الجسم كله بالسلامة والصحة التى ستمكننا من التفرغ لمشاركة العالم الناهض فى موكب الحضارة المتساندة ليسير بالانسانية لحياة شريفة هنية .
