سيدي الاستاذ اقبلت على قراءة فصلك " من الاعمال الثقافية التى لا يمكن القدام بها الا فى تونس " (١) حفيا به ، مرتاحا اليه ، آملا ان اجد فيه اعرابا عن حاجة فكرية ملحة تبهظ كياننا ، واشارة طيبة الى اعمال جليلة تترقبنا فى بلادنا ، ودرسا مركزا لنوع هذه الاعمال واقتراحات عريضة جلية تدلنا على الوسائل التى تمكننا من تحقيقها ؟
اقبلت على قراءة هذا الفصل اذن ، وصدري منشرح ، ونفسي مفعمة تفاؤلا فى ان اجد دعوة طيبة الى التاليف والنشر ، ودافعا للهمم ، وتوجيها حرا وتنبيها للعقول النائمة والأذهان المسترخية ، لعلها ان تعرض عن التملي وتقبل على التامل ، فتدفع الى الكد بعد الفراغ ، والى الجد بعد الهزل ، حتى تبرز شخصية تونس الثقافية بعد ان برزت شخصيتها السياسية . واخذت تنمو نموا نرجو ان يكون ملمونا موفقا . .
كان الفصل قولا على الاجمال - في شان بعث الادب العامى وجمع العادات التونسية والالفاظ العامية ، وتحسرا على عدم وجود مؤلفات تجمع شتات هذا الادب وتلك العادات والالفاظ ، ودعوة في اخر الامر - ملحة - الى جمعها فى مراجع وتآليف ومعاجم ، وهذه ، حسب قولك ، " اعمال تنتظر منا وكثيرا ما نسأل عنها " . .
انها فكرة طيبة هذه التي أتحفتنا بها ، يباركها كل من تربطه وشائج البنوة ببلادنا الكريمة ؛ انها دعوة كريمة لعمل كريم يجمع تاريخ عاداتنا وتاريخ ادبنا
الشعبى ، وتاريخ تطور لغتنا اليومية العادية في مراحل تكوينها ، ومراحل تاثرها بشتتى اللغات التي عايشتها ، سواء أكانت لغات الغازين الغاصبين ام لغات المتاجرين المتكسبين او الاجانب المستوطنين
ولكن هل تظن سيدي الاستاذ انه من الجد ان نبدأ من هنا ؟ أتعتقد ، في تجرد ، ان هذه هى نقطة الانطلاق فى إحياء تراثنا القديم الراكد هناك بعيدا ، فى خزائن دور الكتب ، الجاثم تحت طبقات الغبار الكثيفة منذ الدهور قبل الدهور ؟ أتعتقد ، فى تثبت ، ان هذا هو اؤكد الاعمال لبعث ثقافة تونسية نعرف بها نحن انفسنا اولا ، وبها تعرفنا سائر الشعوب ثانيا أترى ، فى هدوء تفكير ورووية ، ان هذا هو الدرجة الاولى فى سلم الرقى والخطوة الاولى فى فتح الاذهان ، وهز العقول وتوسيع الآفاق ، وبسط عالم جديد من المعارف والآراء ؟
ليجمع المصريون والسوريون - ان شاءوا - امثالهم العاملة ، وليكتبوا قواميس عن عاداتهم وتقاليدهم وتعابيرهم وليضعوا معاجم لالفاظهم العامية ، وليدرسوا شعرهم الملحون وليبحثوا فى تطوره ، فلسنا مدفوعين الى تقليدهم دفعا فى هذا الميدان ، اذ الوضع غير الوضع والمرحلة غير المرحلة ، ان لنا ما يشغلنا عن ذلك الآن ، اذ علينا ان ننجز اولا وبالذات - ما من شانه ان يبلور عناصر ثقافتنا الوطنية من مختلف التآليف ، فى شتى المبادين والبحوث والدراسات .
لقد وجدتني ، في مختلف المناسبات وعديدها ، بين اجنبيين من مختلف شعوب العالم فلم اسال - مرة واحدة - عما لنا من مجموعات فى الامثال العامية ، او عما لنا من قوامييس العادات ومن النصوص المفسرة من الشعر الملحون ! لم أسال عن ذلك علم الله - ولا استوضحني في هذا الشان احد ! وانما سئلت ، وكثيرا ما سئلت ! وخجلت عند الاجابة - عما لنا اليوم من ثقافة حية غضة انسانية !
عن روايات قصصية الفها تونسيون ، عن روايات مسرحية الفها تونسيون ، عن كتب تاريخية - جدية لا هزلية الفها تونسيون عن دراسات ونظريات فلسفية - طريقة لا منقولة مرددة اتى بها تونسيون ،
عن استنباطات علمية ادلى بها تونسيون ، عن ترجمات الى اللغة العربية قام بها تونسيون ، فالشعوب ، كل الشعوب ! متكاملة متعاونة في الحياة الفكرية كما في الحياة الاقتصادية وسئلت كذلك ، عندما اذكر تراثنا الثقافي العظيم ، عن مدى الشوط الذي قطعناه في نشره والكشف عنه . . .
هذه هي الاعمال ابقى تنتظر منا ، وهذه هي الاعمال التى نسال عنها كثيرا . . ولعلك سللت انت نفسك عن هذه الاعمال - سندى الاستاذ وانت من انت سعة اطلاع على عديد البلاد ، وغزارة معرفة بلفسية مختلف الشعوب المتمدنة ، المزهوة بتراثها ونتاجها الثقافى الحى المتجاوب مع روح العصر ؟ . . وهذه هى الخطوط الكبرى التى يجب ان نرسمها وان نسير حسبها ، في جد والخلاص ، في هدوء وتؤدة ، في غذر عنف ولا جلبة ، اننا فى فترة انتقال دقيقة ، بل فى فترة انقلاب - يا سيدي - وما بالشعر الملحون يكون الانقلاب !
لقد ذكرت فى مقالك ان " قسم التاليف والترجمة والنشر " (1) الذي انشى بكتابة الدولة للتربلة القومية منذ سنتين ، قد " جمع مواد لوضع قاموس للعادات والتقاليد التونسية " ؛ عمل مبارك مدمون ؛ ولكن ، ان سمحت ، أهذا كل ما قام به قسم التاليف والترجمة والنشر طيلة سنتين كاملتين
ألم يعن بالتاليف او يوعز بالتاليف ؟ ألم يعن بالترجمة او يوعز بالترجمة ؟ ألم يعن بالنشر او يوعز بالنشر ؟
هل وفق هذا القسم - على الاقل - الى نشر تاريخ ابن ابي الضياف ، هذا الكتاب الذى لم تتح له الاقدار ان يخرج للناس محققا مضبوطا في طبعة علمية ؟ هل
قام هذا القسم الفتى بالنظر في شأن تاليف لجان ترصد لها الاعتمادات المادية والتشجلعات الادبية لتؤلف في تونس ، وتترجم في تونس وتنشر في تونس ؟
هذه هي الاعمال التي تنتظر منا ، وهذه هي الاعمال التي نسأل عنها كثيرا كثيرا هذه هي العناصر الاساسية التي بها تبرز شخصيتنا الثقافية ، ومنها ينطلق صوتنا صوت تونس الجديدة - لينضم الى اصوات الشعوب الاخرى العاملة فى حقل العلم والثقافة والسلام العالمي ؟
هذه هي الاعمال التي نحن مطالبون بها كى تشارك فى تزكلة الحضارة الانسانية في انشاء الانسان الجديد ، هذا الانسان الذى اصبح اللوم حقيقة جديدة ، له سلطان على الطبيعة وقدرة على تغييرها ، وباع طويل فى تسخيرها لصالح الانسانية ؟
هذا هو " جوازنا " الذي يمكن ان ندخل بفضله اليوم في حظيرة المنظمات الثقافية العالمية ؛ فحسبنا ما عشناه عالة على الشعوب المتقدمة ، ناخذ منها كل شئ ، ولا نعطيها اي شئ ، نفيد منها ولا نفيدها ، فمعنى التعايش هو التعاون الى اقصى حدود التعاون . .
لتترك الامور العرضية اذن ، وللتوجه - في صدق وإخلاص - الى الامور الجوهرية ، ولنجل تراثنا القديم ، ولنشىء ثقافتنا اليوم ؛ لندرس مؤرخنا وفلاسفتنا وعلماءنا وادباءنا وشعراءنا ، ولنجتز مرحلة اللباقة والكلام المتقعر الى البحث العلمى الرصين ، ولنتعد مجرد ترديد الاراء ونقل النظريات الى الانشاء والابداع .
على يسرك - سيدي الاستاذ ان ينادي التونسيون بوضع معاجم اللغة العامية ويجموعات الامثال المرتبة على الحرف الاول من المثل ، ومجموعات للامثال المرتبة حسب المواضيع . . ايضا . . فى حين ان ابن خلدون - مثلا - يكتشفه اليوم امريكيون ؟ للامريكيين ان يدرسوا ابن خلدون ويبحثوا في آرائه ان طاب لهم ذلك ، ولكن ابن خلدون الحقيقي لا يمكن ان يدرسه الا تونسيون - جديون ! - فهم المسؤولون
عنه قبل كل احد . . . . وقل مثل ذلك في تراث المغرب العربى باكمله ، بما فيه تراث الاندلس ذلك التراث العظيم الخطير
اين نحن الآن - سيدي الاستاذ من الاعمال الثقافية " الاكيدة " التى عقدت لها فصلك .
لك ان شئت ؟ ان تضع قواميس اللغة العامية ، وان تفسر نصوص الشعر الملحون ، فهذا عمل طيب ما دام لا يحتكر الا جهود شخص او شخصين ، وفائدته لا تذنر . اما ان يكون هذا النشاط توجيها تريده عاما وتنعته بانه اكد وكثيرا ما نسال عنه ، وتريده عملا اساسيا لما يقوم به هذا القسم الفتى للتأليف والترجمة والنشر فهذا امر قد يكون الخطأ كل الخطأ ، والخروج عن القصد كل الخروج . ولنا من الاعمال الاكيدة ما يشغلنا عن ذلك السنين الطويلة ، وما يشغل قسم التاليف الاعوام العديدة .
ليفتح لنا قسم التاليف والترجمة والنشر خزائن الكتب ، وليتح لنا فرصة الوصول الله قبل ان تستحيل غبارا ، وليفسح لنا المكتبات وليمكنا من التعرف على ما فيها - بدون ان نستثنى المكتبة القومية ، فالتأليف فيها راكدة ، والسياج عليها مضروب . .
ولندع إلى التالف والترجمة والنشر فهكذا تنشأ الثقافة الوطنية أولا تكون (١)
