الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

الى القارئ, الأمانة ... الأمانة ..، يا أمين!

Share

طلعت علينا فى هذه السنوات الاخيرة نزعة جديدة تتمثل فى انصراف نخبة من المثقفين العرب عن الكتابة باللغة العربية واختيارها اللغة الفرنسية أداة للتعمق فى القضايا السياسية والحضارية التى تهز العالم العربى . وهى نزعة فى الظاهر محمودة لانها تعرف جزءا من العالم الغربي بواقع المجتمعات العربية الذي بقى يكتنفه الغموض والالتباس ويناله من المغالطات والاستتاجات السطحية ما يعرض مصالحه الى الضياع والاستهتار بها (*) .

ولكنها ظاهرة خطيرة - اذا تفاقمت - لانها من جهة تترك فراغا فى الساحة العربية فلا يجد جمهور المثقفين العرب من يغذيهم بالتحاليل العلمية المستحدثة والمفاهيم العصرية المستجدة كما فعل اجدادهم وآباؤهم أثناء النهضة الاولى والثانية وحتى فى الخمسينات مع البعثيين والمناوئين لهم اللهم إلا ما تجود عليهم وسائل الاعلام الرسمية بحكم وظيفتها النوعية من معلومات وثقافة هى أقرب من التبسيط والتعميم منها الى العلم والعمق والمنهجية العلمية .

وهى ظاهرة خطيرة ايضا لانها تعطل من جهة اخرى اللغة العربية عن احتضان هذه المفاهيم الجديدة وتعود النخبة العربية على التواكل على ما يستنبطه الغير في لغته بجهده ونتيجة عصارة عقله انطلاقا من واقعه ودرجة الحضارة التى وصل اليها بينما المنطق وطبيعة الاشياء يفرضان على هذه النخبة المطلعة على أحدث الفلسفات والتحاليل العلمية ان تطوعها فى لغتها الأم فترقيها وتثريها وتخضعها الى الواقع العربى فتصير جزءا منه لصيقا به .

إذ من أقدر من هذه النخبة على الرفع من مستوى العربية لو شمروا على ساعد الجد ورجعوا مع كتابتهم بالفرنسية إلى مخاطبة الجماهير العربية المثقفة باللغة العربية الفصحى القادرة على استيعاب كل المعانى العلمية والمفاهيم الفلسفية والاقتصادية العميقة ؟

وليس في عزمى تقصى اسباب هذه الظاهرة ودرجة مشروعيتها وظهورها بعد إفلاس الناصرية لان ذلك قد يجرنى إلى افتراضات يطول شرحها خاصة وأن الموضوع الذى أريد معالجته فى هذا المقام لا يسمح بالاتجاه نحو هذه الوجهة . لهذا سأترك الخوض فى هذا الخضم الى فرصة أخرى .

من هذه الكتب التى تسنى لى قراءتها فى هذه الايام كتاب " الأمة العربية : القومية وحروب الطبقات " لسمير أمين (*) وسمير أمين هو عالم مصرى مبرز فى العلوم الاقتصادية طوح به المطاف الى داكار ليشغل ابتداء من سنة 1970 وظيفة مدير بالمعهد الافريقى للتنمية الاقتصادية والتخطيط بعد أن عمل بالادارة المصرية ودرس في جامعات بواتي وفنسان " الشهيرة " بفرنسا وداكار .

ويتخلص الكتاب في ان العالم العربى لم يكن ، قبل حلول الاستعمار ، اقطاعيا بل كان " مجرد مجموعات اجتماعية يربطها نوع من الانتاج الخاضع للاتاوة الذي تقوم فيه الروابط التجارية الخارجية والداخلية بدور كبير . فكانت الوحدة العربية ثمرة تاريخية لاندماجها فى التيار التجارى اذ أن الطبقة الاجتماعية التى تولت القيام بهذه الوحدة هى طبقة التجار المحاربين . ولم تقو فيما بعد الطبقات المهيمنة المتوالية من البرجوازيات المتعددة اثناء الفترة

الامبريالية على صنع الوحدة العربية : من ذلك أن البرجوازية الصغيرة التى لم " تنتحر " من حيث هى طبقة خلقت فى صلبها برجوازية دوليه غارقة فى التبعية كلما قادت الحركة المعادية للامبريالية " .

والكتاب الى ذلك يحلل مراحل الحركة القومية من عهد النهضة فى القرن التاسع عشر الى التيارات الناصرية والبعثية ويتصور للعالم العربى مصيرا لا يخرج عن ثلاثة أوجه فاما أن يكون نظاما استعماريا جديدا قوامه التفرقة العربية أو أن يكون عالما عربيا مربوطا بالنظام الامبريالي أو أن يخضع الى تغيير اشتراكى جذرى .

على كل فهذه خلاصة مقتضبة تشير الى أهم ما تناوله الكتاب من موضوعات ولست في نيتى أن أناقش صاحبه فى " فقهه الماركسى " الى حد " اللغوجة " فى بعض الاحيان لان ذلك قد يستهوى بعض الطلبة ويذهب بألبابهم بعد أن أكلهم الجوع الايديولوجى ونال من توازنهم اعتقادا منى أن الماركسية - وإن بلغت من مستوى التفكير القمة فى الفكر الغربى انطلاقا من تحليل الواقع الغربى السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى - فانها ليست من العلوم الصحيحة الصالحة لكل زمان ومكان وليست قادرة على تحليل أوضاع العالم العربى لان ذلك لا يمكن أن يكون حسب ظنى الا اعتمادا على تفكير ابن خلدون بتطويره واثرائه وتعصيره وتنظيره بالماركسية وغيرها من الفلسفات والايديولوجيات .

ولست أنوى مناقشته أيضا فيما أصدره من احكام على الاحزاب الشيوعية العربية لانه أعرف بها ربما منى وقد أوافقه على ذلك فى خصوص فرع الحزب الشيوعى الفرنسى في تونس وان لم يذكر بالذات "الحزب الشيوعى التونسى" الذى قام بنقده الذاتى سنة 1955 ونشره بين الناس .

كما أننى لن أتعرض الى اغفاله العامل الدينى الذي كان محركا من محركات المجتمع العربى الاسلامى والذي خلق المعجزات فى ظروف لم تكن طبيعية وأبقى على الشخصية العربية الاسلامية عندما اتجهت النية فى العهد الصليبى ثم الاستعمارى الى محقها .

وليس في نيتى كذلك أن أقارعه الرأى فى المكانة التى يعطيها لمصر فى الامة العربية نظرا الى أنه مصرى وملم بواقع بلاده . وليس من شك فى أن مكانة

مصر عظيمة فى العالم العربى ولكن الذي لا ترضاه الامانة العلمية هو ان ينزع من البلدان العربية الاخرى بعض الخصائص التى تشترك فيها مع مصر ويعمد الى تزييف التاريخ وتحريف الواقع خاصة فى الميدان الذي أعرفه المعرفة الصحيحة والمتعلق بالحركة الوطنية التونسية وتاريخ تونس .

لذا فانى سأختار في " حديثه " عن نونس عينات من الحقائق التى ظنها بديهية ولست أدرى من أى الكتب استقاها ولا من أى " الافواه " اختطفها  لأدلل على أن هؤلاء - الذين قد يوهمون الناس بأنهم ينطقون بالحكمة ويصدعون بالرأى العلمى الصحيح النابع من بعض الفلسفات القديمة التى تجاوزها الزمان أو كلت عن أن تسع كل مكان - يخدعون أنفسهم ويوقعون قراءهم فى الاخطاء الفاحشية وفاء " للقوالب " التى آمنوا بها و " السور " التى حفظوها .

يقول سمير أمين مقارنا الحركة الوطنية الجزائرية والحركة الوطنية فى المغرب وتونس : " إن القطيعة الطويلة الامد من سنة 1850 الى سنة 1945 بين الفترة القديمة للحركة القومية الجزائرية وبين ميلادها فى العصر الحاضر لم توجد فى تونس والمغرب اللذين تم استعمارهما فى فترة لاحقة . وهذا يفسر أن الحركة الوطنية العصرية في هذين البلدين لم تكن لها سوابق شعبية مثلما هو الشأن فى الجزائر ، ففى البلاد التونسية لم تكن الحركة الوطنية التى ترعرعت في الثلاثينات فى أوساط البرجوازية والبرجوازية الصغيرة لتحدث نفسها باستيعاب كل الطبقات بل هى ستبقى برجوازية ، معتدلة ورمزها فى ذلك هو بورقيبة الذى بقيت متعلقة به منذ انبعاثها . ولما أحست هذه الحركة أنها ستتجاوزها ثورة جماهير الفلاحين سنة 1954 أمسكت بمقاليد الامور بفضل سياسة التنازلات التى سنتها فرنسا وأفضت الى الاستقلال سنة 1956" ص 84.

أخذت هذه العينة من الكتاب الواصفة لتاريخ تونس المعاصر حتى يتفطن كل تونسى اولا ثم كل عارف بالحركة الوطنية التونسية الى الخطأ الذي وقع فيه سمير أمين رغم أن المؤلفات المكتوبة بالفرنسية والمتعلقة بتونس تعد بالعشرات ، فهو لا يريد أن يميز بين الحزب الحر الدستورى القديم الذى انبعث فى العشرينات والحزب الجديد الذى أسس سنة 1934 لانه تعمد بالضبط حشر الحزبين فى بوتقة واحدة لان الاول هو بورجوازى حقيقة بحكم الحركات التى سبقته ولم تشمل الجماهير الشعبية رغم أن هذه الحركات لها سوابق شعبية ما فى ذلك شك . والثانى أى الحزب الجديد هو بالعكس استوعب كل الطبقات وخاصة الشعبية من فلاحين صغار وعمال .

ذلك أنه لا يمكن للعالم الحصيف أن يتغافل عن ثورة ابن غذاهم سنة 1964 وما تبعها من تنكيل سلطات الباى بفلاحى الساحل التونسى خاصة ، وبقاء هذه المأساة عالقة بأذهان احفاد من تجرعوا عذاب الجنرال " زروق " . وإنه ليس من شك فى أن حركة خير الدين التونسى قبل انتصاب الحماية وحركة الشباب التونسى فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كانتا من نتاج هذه الثورة الشعبية العارمة التى هزت العرش الحسينى هزا . ولكن رغم ما اتصفت به هاتان الحركتان وبعدهما حركة الحزب القديم من وطنية فقد بقيت كلها منحصرة فى طبقة معينة .

ولكن الذى لا يمكن أن ينكره أى مؤرخ منصف مهما كان اتجاهه ومنحاه هو أن الحزب الجديد حزب شعبى لم يعتمد فقط على أهل المدن والقبائل بل اعتمد كذلك على الفلاحين فى الساحل التونسى والوطن القبلى خلافا لما ادعاه سمير أمين من أن مصر تكاد تكون هى البلاد الوحيدة فى العالم العربى التى لها طبقة كبيرة من الفلاحين الصغار . لهذا فان الحزب الجديد جمع حقيقة أهل المدن والقبائل سواء التى كانت فى الجنوب او الوسط التونسى ولكنه استوعب خاصة الساحل التونسى والوطن القبلى الذى تكاد تكون انحصرت فيه ، بعد الحروب والكوارث وزحفات بنى هلال وسليم وغيرها ، طبقة الفلاحين الصغار (paysannerie) وليس من الغريب أن يتأسس الحزب الجديد في قصر هلال إحدى قرى الساحل النشيطة ويضم من الثوار الفلاحين وعمال المدن .

وإن هذه الحركة هى التى قادت المعارك ضد الاستعمار بادماجها كل أصناف الشعب التونسى وقامت بالمعركة الحاسمة ابتداء من جانفى 1952 قبل قيام الثورة فى مصر _ ليست هناك أية علاقة بين الثورة فى تونس وبين ثورة الضباط الاحرار فى مصر اللهم إلا أثناء الفتنة اليوسفية في أواخر سنة 1955 وأوائل سنة 1956 ) ناهيك أن فرحات حشاد زعيم الحركة النقابية هو الذى قاد فى الفترة التى سبقت مقتله ، المقاومة الشعبية بعد أن اعتقل الاستعمار قادة الحزب الجديد البارزين ، وبعد ان قام بزيارة الحبيب بورقيبة فى مقر إقامته الجبرية بطبرقة .

ثم إن المقاومة المسلحة فى تونس كانت تأتمر بأوامر الحزب الجديد وحتى عندما أذن الحبيب بورقيبة بالقاء السلاح أثناء المفاوضات سنة 1954 فان عددا كبيرا من الثوار لم يسلموا أسلحتهم واختفوا باذن من قائد الحزب وذلك احتياطا لما عساه أن يحدث عندما تفشل الطريقة السليمة .

والذى أريد أن أؤكده " للعالم " سمير أمين هو أن اعتدال بورقيبة ليس معناه أنه كان بمعزل عن الطبقات الشعبية وأنه رضى بالتنازلات خوفا من أن يتجاوزه الثوار بل اعتداله كان سببه تجنيب الشعب التونسى الكوارث . ولم يمنعه هذا الاعتدال من أن يقوم بثورة شاملة عند نقله الحكم بتحريره المرأة وتوحيد القضاء وتعصيره وتعميم التعليم وتوحيده وبعثه المؤسسات الدستورية الديمقراطية العصرية وغيرها . مما جعل الشعب التونسى يقفز قفزة عملاقة من العصر السحرى الاسطورى الى العصر العقلاني التقدمى .

وإن الذم بسطته ليس من قبيل الدعاية السياسية بل هو الحقيقة التى لا غبار عليها والتى لا يمكن لسمير أمين ان يقتنع بها الا اذا نزع عنه غشاوة القوالب التى يتصرف فيها والمفاهيم التى يريد تسليطها على احداث ليست من نوعها . فليرتكز أولا وبالذات على الحقائق التاريخية والوقائع الموجودة الآن فى كتب أشهر المؤخين الفرنسيين ثم بعد ذلك ليحاول التفسير حسب " سوره " و " آياته " . أما ان ينطلق من الاخطاء فان ذلك لا يمكن ان يكون الا تحريفا للتاريخ ورضى بالزيف وتعمد المغالطة .

لهذا فان مثل هذه الكتب التى تظهر وكأنها علمية وتتصرف فى حصيلة من المفاهيم والمصطلحات التى لا تدل في الغالب على واقعنا ، خطيرة على القراء وخاصة على شبابنا . وانى اذ أوردت هذه الفقرة فقط فليس معنى هذا أنها هى الوحيدة بل الكتاب كله مشحون بمثلها فيما يخص تونس والبلدان العربية الاخرى .

ولا يسعنى إلا أن أناشد سمير أمين وأمثاله حتى يكفوا عن هذا التزييف ويتجهوا الى الجماهير العربية المثقفة لمخاطبتها بلغتها إذ أن المغالطة عند ذلك تنكشف سهولة ويزول الحجاب الذى يختفى وراءه هؤلاء باستعمال اللغة الفرنسية التى لا يقرأها إلا قلة قليلة من العرب . وعلى كل فان غاية ما يمكن أن نقوله لصاحبنا هو أن يتوخى الامانة الفكرية التى هى حجر الزاوية لكل عمل علمى . فالأمانة .. الأمانة .. يا أستاذ أمين !.

اشترك في نشرتنا البريدية