الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 6الرجوع إلى "الفكر"

الى القارئ, السلطة الرومانسية

Share

(( ان ميزة عصرنا هى هذا الخوف من انهيار يقينياته وان السلطة لم تعد قائمة فى المؤسسات ولم يعد المجتمع يفى بالتزاماته . هناك مليون عاطل وقلوب حائرة تتلمس فى الظلمات . ذلك هو المشهد الواقعى لبلد مزدهر له عبقرية حقيقية أعني فرنسا.

وامام هذا الاندحار المطل بسحنة الدمى - اذ انه ليس بوسع النجاح الاقتصادى ان يغطى ظمأ الارواح الى المثل الاعلى - لم يعد من يجرؤ على استنزال الزوابع خشية أن تستجيب بانفجار ذرى . ان الرصد الجوي العالمي رهيب تحت المظلة النووية ، وكما يقول برنانوس Bernanos عندما يحس الشباب بالبرد تصطك أسنان العالم أجمع . وبعد ان فتحت ثلمة فى برج بابل لليقينات شرع فى بناء المساكن الاجتماعية التى تأوى الرفض ، انها السلط المضادة . ان الاحساس بالتغيير ، بالمشاطرة بالمساهمة بالوجود الحق ، وأخيرا بالافلات من ربقة قوانين شديدة القسوة ومن قيادة موحدة ، يلهب الانفس السخية . وهكذا نشأت السلطة النقابية وسلطة النساء وسلطة المستهلكين والسلطة الايكولوجية وسلطة الشواذ جنسيا .

وأخيرا أسمعت الاقليات صوتها ووجدت لها مسكنا ايضا . ولتلك طريقة فى الاقامة بالعالم .

ولئن كان الامل قويا والحجة عادلة والفكرة نبيلة والواقع ثابتا ، فقد برزت كذلك ظاهرة فقدان الانسجام ، فهذه السلط المضادة لم تتمكن من

الترابط فيما كانت السلط القديمة - الكنيسة والدولة والملك وفئة الفرسان - متناهضة فى الكثير من الاحيان.

ان السلطة لا تخفى طبيعتها الخارجة عن المألوف ، انها توجد من اجل ان تخلق ولكنها تفرق لتسود ، بل انها تنسى أحيانا كنه عملها فلا تستخدم قواها الا من اجل السيطرة . وعلى عتبة القرن الحادى والعشرين الذى قال عنه مالروMalraux  إنه سيكون روحانيا أو لا يكون يجد البحث عن سلطة أخرى ، السلطة التى بامكانها ان توحد وان ترفع من شأن الفرد والجمهور ، وكذلك المرأة بالنسبة للرجل ، فى روح من السلام المتأكد . وهذا يذكر بدستويفسكى Dostotevski الذى كان يعلن فى نهاية أعماله عن قرب حلول زمن اللطف والغفران ، اننا لسنا فى حاجة الى غير هذا ، والناس كلهم متفقون حول هذه النقطة . هذا شئ جديد وانه لكثير وهو بالنسبة الى بعضهم أمر عظيم .

ان هذه السلطة الجديدة التى هى بصدد الميلاد تصل الحلم بالحياة و تؤمن بعظمة الافراد بدون ان تزيل خصائصهم ، انها قائمة داخل كل منا دون  ان تفصح عن نفسها ، وبامكانها ان تبرز فى اى سن ، وان تكون مفهومة فى كل مكان وان تتجسم فى كل الاجناس ، وان تبعث من جديد فى كل عصر، و هى ليست بالدين رغم ما قد تكتسبه من مظاهر دينية من جراء اجلالها للحياة وظمئها للخلود ، وهي ليست بالحزب السياسى رغم عمق معتقداتها وسلامة قواها التمردية ، انها حركة متولدة عن الذات تناهض قبح العالم وتكشف عن جمال العواطف وتبحث عن التصالح . وان لها قوة الدين وتأثير السياسة ، و هى لا تصدر عن هذه ولا تنبع من ذاك ، ومع هذا فانها تتصل بهما معا . انها قوية خفية مستقلة سليمة حبلى بالامل . انها تمتاز وتتحلى بصفة نادرة تجعلها لا تبسط اى حل جملى لا يكون قبل كل شئ اختيارا شخصيا تماما . انها تطلب وتعطي ايضا عقيدة عميقة ، انها السلطة الرومانسية .

بعد الرومانسية المفجعة فى القرن التاسع عشر ، ها قد اقبل زمن الرومانسية المشرقة لسنة 2000 ، فالثورات الفاشلة تسفر عن رومنسيات ناجحة ، لقد صنع ماى 1830 موسى Musset كما صنعنا نحن ماى 1968 ، قضايا واحدة ، طموحات واحدة ، مثل أعلى واحد ، احلام واحدة ، تمرد واحد . ان القيم البسيطة الداعية الى العودة الى الطبيعة والى احترام المحيط ، ان حرية العلاقات الغرامية حسب ضرب من التجاوز ، ان الفردية التى يتم ابرازها فى مجتمع جماهيرى ، ان التفتح الشخصى المنشود دوما

والمرتبط بالبحث عن المطلق ، ان حظوظ الطوبائية والمثل الاعلى الخارجى والتمرد ضد الحضارة الآلية ، ان ميثولوجيا الموت والحمية الاجتماعية هى - جميعا - براهين رومانسية مثل سيطرة الجمالية على السياسة : والاحاسيس على العقل ، انها الحركة الاساسية لشباب القرن.

ذلك ان الرومانسية ، خلافا للرأى السائد ، لم تولد اطلاقا فى عهد هو نفسه رومانسى ، ان الرومانسية حركة معارضة عبر بلزاك Balzac عن خطها تعبيرا محكما اذ قال : (( انى أنتمى الى حزب المعارضة الذى يدعى الحياة )) .

ان القرن التاسع عشر لم يكن أكثر رومانسية من القرن العشرين . لقد تم تعويض عصر الفحم بعصر الذرة ، وتعويض سكة الحديد التى تلهب الغابات بالمولدات المركزية على ضفاف الانهار ، وتعويض المجتمع الصناعى بمجتمع الاستهلاك . ان قرن المعامل اصبح قرن الشركات متعددة القوميات ، وكان الرومانسيون يصطدمون بالجبهة المنخفضة للبورجوازية المنتصرة كما يتعين علينا اليوم أن نكافح الاتباعيات الجديدة .

ان الرومانسية تولد فى عصر تقنوقراطى منظم مجزأ ، انها الهواء الذى يمكن من التنفس ، انه سفينة حلم المستقبل . لقد كان عمال القرن التاسع كشر يضربون بسبب المجاعة . اما اليوم فان سبب الاضرابات هو ان الكيل طافح بصورة عامة . واذا كان بامكاننا ان نأمل العيش فى مستوى مثلنا الاعلى ، ينبغى ان نجرؤ على النطق باسم الجمال .

انني أومن بالرومانسية المطلقة كما أحب للعام الجديد هذه الامنية الرائعة لشاتوبريان ، (( اعملوا على ان يستمر الجمال وعلى ان يبقى الشباب ، وعلى ألا يمل القلب ، بذلك ستعيدون صنع السماء )) (1)

أحببت أن انقل لقراء العربية هذا المقال كاملا حتى يعوا نوع المشاكل والأزمات التى يواجهها ويعانيها الشباب عامة والمثقفون خاصة في أوربا المصنعة المتقدمة التى يعتبرها بعض المسؤولين فى العالم الثالث مثال الرفاهية وبحبوحة العيش الذى يقتدى.

ان هذا الكلام لم يكتبه عربى أو مسلم ولا افريقى ولو نقلناه عن إحدى المجلات التى تصدر فى بلداننا لاتهمنا بالتعصب أو باثارة المشاكل الوهمية التى من شأنها ان تصرفنا عن سبل التنمية (( الموصلة ))  ... ولو نقلناه عن بعض النشريات التقدمية لقيل إننا حالمون وبسراب النثر والشعر منخدعون

وإنما أوردنا مقالا لكاتب يمينى رصين نشرته جريدة يمينية رصينة قريبة من السلطة ومتعاونة معها ، هي جريدة (( الفيفارو )) الفرنسية (2) حتى يجد فيه إخواننا في العالم السائر نحو النمو العبر فيتأملوها ويتعظوا بها .

إن ما يسمى بالعالم المتقدم لا يعرف التقدم الشامل فهو لئن رفع دخله القومى وحسن مستوى عيشه المادى من مسكن ونقل ووسائل ترفيه ، لم يحقق الازدهار المعنوى ولم يتمكن على كل حال من جعل البشر يشعرون بالسعادة الكاملة التى لا تحصل فحسب بسد الحاجات الضرورية وارضاء الشهوات المادية بل بارواء ظمأ الأرواح الى المثل العليا وتحقيق طموحات النفوس الكبيرة الى الجمال والحق والخلق المتجدد . وما الدعوة الملحة الى (( السلطة الرومانسية )) الا صدى لجهود الشباب في كل بلاد الدنيا من أجل الانعتاق من الرتابة وجاذبية المادة والضغوط الاجتماعية وسيطرة المال وسلطان الأنانية على العلاقات البشرية ، والمناداة بحقهم في الحرية والخيال والحلم .

ولو كان المنوال التنموى الذى تبناه الغرب كافيا وحده لضمان ما يصبو اليه البشير من انعتاق نفسى واجتماعى ويحرص عليه من عزة وكرامة لما عرف الازمة الحضارية التى لا يزال الى يومنا هذا يواجه مختلف مظاهرها ومتعاقب موجاتها . ولو استطاع العقل والرقم ، والتحليل والتأليف ، والاستنتاج والاستقراء ، والجداول والخطوط البيانية ومقاييس الانتاج والانتاجية ان تغنى وحدها عن الايمان شيئا وان تحفز على العمل وتورث نخوة الحياة بمفردها لتمكنت المجتمعات من السعادة بأسلوب حسابى مجرد وربما بالاعتماد على الدماغ الالكترونى وحده ولانتفت المشاكل الوجودية فى العالم المتقدم انتفاء كاملا ولدخل الانسان فردوسه المأمول ، ولكن هيهات .. فالرفاهية الاقتصادية وسير الحياة الاجتماعية اللذين تنعت بهما عادة الدول المتقدمة ليسا بالشمول ولا بالعمق ولا بالدرجة التى قد يتصورها الملاحظ المنهر بأضواء المدينة او الدارس العابر أو المكتفى بتقبل الأسماء المجردة دون الغوص على مضموناتها .

فهذا - على سبيل الذكر لا الحصر - روني لونار Rene Lenoir الذي توزر فى حكومة السيد جيسكار ديستان بعد أن شغل سنوات عديدة خطة مدير العمل الاجتماعى بوزارة الصحة الفرنسية ومدير الحيطة الاجتماعية يصدر كتابا منذ سنوات قليلة بعنوان (( المطرودون )) ويحاول بشئ من الشجاعة تحديد معالم (( فرنسا الاخرى )) (3) ، فرنسا البؤس والحياة الهامشية التى تتراءى للملاحظ المتعمق من وراء (( المدن المراقد ))

يقول الكاتب : بينما يقاسى ما يزيد عن نصف سكان المعمورة عذاب الجوع ويعيشون حياة ضنكة يعتبر دخل الساكن الواحد فى فرنسا المنتمية الى البلدان (( السعيدة المزدهرة )) . من أعلى المداخيل ارتفاعا اذ هو يأتى بعد الدخل الخام للولايات المتحدة وألمانيا الفيدرالية ..

ويضيف الكاتب : ومع ذلك فانه يولد بفرنسا (( المزدهرة )) كل عشرين دقيقة مولود مشوه بعاهة بدنية أو عقلية ويؤكد انه يوجد ما يزيد على مليون معتوه من بينهم 700000 لم يبلغوا سن الرشد كما يوجد ما بين 3 و 4 ملايين من المنبتين الفاقدين للمؤالفة . وهناك من بين الأطفال الذين شملتهم الاعانة الاجتماعية سنة 1972 - وعددهم 650.000 -45000 طفل مهمل و 250000 طفل اخرجوا من عائلاتهم بقرار من القضاة أو المديرين الجهويين للعمل الصحى والاجتماعى ، وهناك أخيرا 160000 من الاحداث ينحدرون كل سنة الى بؤرة الاجرام .

والى كل ذلك فانه لا يمكن لأية اسرة مهما (( تبرجزت )) أو تمسكت - حسب قوله - بتقاليدها الدينية أو اللائيكية أن تتباهى يكون أحد أبنائها سوف لا ينحدر الى بؤرة الادمان على المخدرات أو الاجرام أو الثورة على الاوضاع .

ويعلق السيد لونوار على ذلك بقوله ان هذه الكوارث الاجتماعية لا تقل فداحة وتفاقما عن الكوارث المنجرة عن حوادث الطرقات ( 180000 مصاب كل سنة ) او المترتبة عن حوادث الشغل ( ما ينوف على 100000 سنويا )

ويضيف : في الواقع يتدهور المجتمع تدهورا باطنيا وبصفة بطيئة ولكنها ثابتة . ثم يتساءل : ما فائدة درع الاسلحة الذرية والكلاسيكية الموجهة صوب الخارج ما دام الخطر محدقا بنا من الداخل ؟

وهكذا لا تكفى بل يجب أن يقترن حرص الانسان على الزيادة فى مدخوله بالظفر بنعم أخرى لا تقل عن الرفاهية المادية شأنا . فاذا ما جنح الشباب مثلا الى مهنة باعتبار ما ستغدقه عليهم من أموال ولم يراعوا ما ستوفره لهم من ارتياح ورضا وما ستيسره لهم من اثبات ذات ونخوة بذل وروعة محبة وجلال سمر إنسانى فانهم سيلهثون وراء سعاده سراب وسيعبون من كأس الحيرة حتى الثمالة .

وليس معنى ما سبق أنه يجب الادبار عن معركة التنمية واهمال الاقتصاد ورفع مستوى الجماهير المادى والاجتماعى . ان ذلك ضرورى ومن دونه يجوع الشعب ويكفر وتنقرض كل طاقاته ويصيبه البلاء والبلى . ولا يمكن ان تنجح مخططاتنا - نحن شعوب العالم الثالث - من دون اعتماد العلم و الحسابات المضبوطة والتفكير السليم السديد . وانها للطفولة الحضارية والسذاجة الثقافية اذا نحن طالبنا بالعودة الى البساطة والطبيعة وعزفنا عن التصنيع يدعو التدرن او التلوث ..

غير أن العصر في أسلوبه العلمى الصارم لا تعنى الانطواء على الذات وكبت الوجدان واهمال تطلعات الفرد ونكران حقوقه المقدسة وتمرده على تهيمن التاريخ وعزوفه عن الذوبان في الجماعة . فلا هو بالصفر ولا هى بالنهاية . انما العمل المتكامل والشامل غايته الانسان بكل ابعاده المادية والاجتماعية والنفسية وخاصة الروحية.

ان السلطة الرومانسية تتمثل خاصة في التوق الى الحياة الحق ، التى لا يمكن استساغتها ولا معرفة معناها ولا الظفر بمغزاها من دون تلك الرؤية (( الرسولية ))  للكون ومعرفة منزلة الانسان فيه ومن دون تلك الوثبة المبدعة نحو غاية تتجاوز حدود الافراد المادية وتتخطى قيود الزمان والمكان فاذا هو الايمان بسمو الهدف ونبل الرسالة واذا هو العمل والتفانى والتضحية من أجل الغد المشرق وإذا الانسان فاعل يشقى بالعمل ويسعد به فهو يصنع التاريخ وهو بذلك خليفة الله فى الارض .

ان ما يجرى حولنا فى الشرق والغرب - على اختلاف الاوضاع وتباين الاهداف - يؤكد لنا مرة اخرى أن توق الشباب الى الجمال والحق والخير والعدل والسمو المعنوى لا يهادن بارضاء الحاجات المادية وأن البشر لم يزالوا منذ الازل يؤثرون نوع الحياة على الحياة نفسها .

بل سائل الاحرار المكافحين من أجل الحرية والكرامة والمثل العليا فى كل مكان : في فلسطين المجاهدة ، فى افريقيا المكافحة فى آسيا وأمريكا ... بل سائل أرواح شهداء الكفاح في تونس والجزائر والمغرب و . . وسيناء والجولان ... سائل أرواح حشاد والهادى بن جابالله وعلى طراد وعبد السلام تريمش ومصطفى بن جنات ومصباح الجربوع ، والدغباجى لماذا وفى سبيل أية غاية آثروا الموت على الحياة . بل لنتساءل لماذا آثر الحبيب بورقيبة المنافى والسجون على الدعة والرفاه والتمتع بنعم الحياة المادية مثل عدد كبير من زملائه ، بينما كان كل شئ يغريه بها ويدفعه اليها فى ذلك الوقت الذى كان فيه الاستقلال حلما بعيد المنال ، انه اختار هذه السلطة الرومانسية وجند لها كل طاقاته وهى التى يعمل دائما على تركيزها بكل فعالية ونجاعة .

وان شباب اليوم فى العالم المتقدم والعالم السائر فى طريق النمو ينشد الحياة وتتعلق همته بغابات سامية وقضايا عادلة تتجاوز الحاجات المادية ، يتحمس لها ويقف حياته فى سبيل نصرتها .

ألا فليتعظ الأولياء وأولو الامر ، فى بلداننا التائقة نحو التقدم الشامل ، بهذه العبر ولتدفعهم (( واقعيتهم )) الى اعتبار (( مثالية )) الشباب .

اشترك في نشرتنا البريدية