ما أغرب أمر الانسان وما أعجب شأنه ، وما أقدره على المعرفة والبحث ، وما أقل حكمته ! . عظيم ما وصل اليه من اكتشافات لأسرار الطبيعة ومخبآتها وحقائقها ، ومدهشة حقا هذه القدرة التى أصبح يسيطر بها على شىء غير قليل من قوى الكون ، ولكنه لم يستطع بعد ويا للعجب أن يكتشف أسرار نفسه ويهتدى الى مخبآتها . فما أغرب أمره يستطيع أن يكتشف أبعد الأبعاد ويفهم أعوص الأشياء ، ولا يستطيع أن يعرف أقربها اليه وأدناها منه وأعلقها به ، ويستطيع أن يسيطر على قوى الطبيعة وليس فى قدرته أن يسيطر على نفسه . اكتشف الآفاق ولم يكتشف قلبه ، وأمسك بزمام الكثير من الأمور ولم يعرف كيف يمسك بزمام نفسه . أضاء الكثير من الفجاج والأعماق ولم يجد المشعل الذى يضىء أعماق نفسه وأغوار قلبه وهو الذى ميزته الطبيعة بالقدرة على التعبير ، هذه القدرة التى يمكن أن نعدها من أكبر الوسائل التى تساعدنا على الوصول الى حقائق ما بداخلنا وجوهرنا .
الا أن هذه القدرة على التعبير تختلف باختلاف الناس ، فليس كلنا يستطيع أن يعبر عما يختلج فى نفسه من أحاسيس ، وما ينبض به قلبه من شعور ، وما يجول في خاطره من مختلف الأفكار . نعم ليس كلنا يملك هذه القدرة التى تتمثل في صوغ نبضات القلب ، وابراز الفكر ، وتصوير الأحلام . أتألم أنا فلا أستطيع الا أن أقول " آه " ، وأودع هذه الصيحة كل ما يعذب قلبي ويمزق أوتار لبى . وتتألم أنت فيهتز كيانك العظيم ويتحرك قلبك الكبير . وفى حين أعبر أنا عن ألمى بالدموع والعبرات التى تجرح الوجنات ، تعمد أنت الى قلمك أو ريشتك أو آلتك الموسيقية لتودعها آلام قلبك وأنغام حيرتك وألحان عذابك فتخرج لنا شيئا من قلبك الباكى وينبع شىء من نفسك الشاكية ، ويسيل شىء من " الماء الحي " على الورق من دمائك الحائرة ! . وأفرح أنا فأعبر عن فرحتى بالبسمات والحركات ، وتفرح أنت
فيرقص قلبك وتهتز جوانحك ويتفتح عقلك ، وقد يسيل ماء الفرحة من مقلتيك . ولكنك لا ترضى عن هذه الفرحة التى لم تتم ! ان طبيعتك الغنية تريد أن تكمل هذه الفرحة . انها تريد أن تخرج شيئا جديدا للحياة . ان قلبك يدعوك ، وان شيئا يناديك من داخلك ويملك عليك أمرك . ان شيئا لا تحققه يريد أن يخرج من أعماق أعماق قلبك . هناك شىء يريد أن يولد . هناك نور يريد أن يسطع وهناك أشياء تريد منك أن تستجيب لهذا النداء الداخلي وتسير بوحى منه ، فتنعدم ارادتك ويسيطر عليك هذا الجو الالهامى فاذا أنت تستجيب لأنه ليس لك الا أن تستجيب ، واذا أنت تقول شيئا واذا أنت تعبر . وفي حين لا أستطيع أنا أن أفارق الواقع الذي أعيشه صباح مساء ، وفى حين لا أستطيع أنا أن أخرج من جسمى الخبيث ، وأتنصل من المادة التى تخنق أنفاسى وتعذب روحى وتقيد مشاعرى وحركاتي ، وتفرض على أساليب من الحياة بغيضة لتشابهها ، كريهة لضيق قيودها .
تستطيع أنت أن تهرب من الواقع البغيض متى شئت ، وتستطيع أن تتنصل من المادة متى أرادت لك طبيعتك الخصبة وأرضك الطيبة لتحلق بخيالك العريض في عوالم روحية جديدة حالة لا قيود فيها ولا سدود ، ولا منطق فيها الا منطقك الفنى الجميل . وتنظر الى من سمائك المزهرة فترانى أتخبط في جسمى وألاصق التراب وأصارع الغبار فيعشى بصرى ويعبث بي كيفما شاء . وأنظر اليك فلا أكاد أحققك . أنت فى السحاب وأنا فوق التراب ! وتصور أحلامك ولا استطيع أن أقول شيئا . أنت حالم كالاطفال وأنا أصارع الأهوال . أنت تحيا بجسمك وبروحك ، وبجسمى فقط أستطيع الحياة . أنت الفنان ، ولست أدرى من أنا . أنت تعبر و" التعبير بالنسبة للفنان كالتنفس بالنسبة للانسان " . أنا فى حاجة اليك لأنك تعبر عن آلامى وأفراحى التى هى آلامك وأفراحك . وتخلد أحاسيسى وأفكارى لأنها ليست الا أحاسيسك وأفكارك . وتصوغ أحلامك وآمالك فاذا هى أحلامي وآمالى بعينها . أنت وأمثالك لستم الا لسانى ولسان أمثالى . وأنتم - يا رجال الفن والفكر - رغم قلتكم فى كل عصر ، استطعتم منذ القديم أن تخلدوا عواطفنا وأفكارنا الى ما شاء الله فكان فضلكم كل الفضل ، وكانت مهنتكم وما زالت أجل مهنة على الاطلاق . وكان عالمكم ولن يزال خير العوالم . كنتم ولن تزالوا أكبر الناس لأنكم استطعتم أن ترضوا طموح الانسان ورغبته الشديدة فى شىء من الخلود والبقاء ، ولأنكم استطعتم أن
تكشفوا بعض أسرار القلب الانسانى الذى لا يتغير مهما تغيرت الأزمان ومهما بعدت المسافات فصورتم جوانب خالدة ونواحى ثابتة وأسرارا الاهية باقية من النفس الانسانية التى لا تتغير . وكان التعبير أكبر مساعد لكم على مهمة التخليد هذه فالتعبير اذن من أكبر عوامل خلود الانسان ان لم يكن أكبرها على الاطلاق . وأدوات التعبير كثيرة متعددة بتعدد جوانب الانسان لأنها ليست فى الحقيقة الا رموزا لأشياء أكبر منها وأبعد غورا .
فالموسيقى يبرز أحاسيسه بالألحان والنغمات ، والمصور بريشته الرقيقة يخلق لنا لوحات جميلة يعكس عليها خيوط عقله وخياله ، وخلجات نفسه .
والنحات كذلك ينتج لنا من الصخر من الهياكل والمناظر ما يمتع العقل والقلب والذوق .
والأديب أخيرا بقلمه يصوع لنا ما تنبض به القلوب وما يختلج فى النفوس من عوامل الحياة . يصور لنا بذلك القلم النحيف ما يهز جوانحه وتتفتح له نفسه ويحيا به عقله المتحرك دائما الباحث أبدا . أما نحن فلا نستطيع الا أن نصغى الى هذا ونطلع ذاك فنقف مشدوهين سكارى نمتع عقولنا وقلوبنا وأذواقنا ، ونشعر بشئ من الراحة والرضى لأننا لم نجد الا نفوسنا فيما أصغينا له ونظرنا اليه . ولم نجد مصورا الا بعض لحظات عشناها كلنا وتمتعنا بها كلنا فلا نملك الا أن نطرب تارة ونرقص تارة أخرى ونبتسم أو نبكى اذا كان الموقف يدعو لذلك . فكيف لا ننحنى بكل خشوع واكبار أمامكم - يا رجال الفن والفكر - وأنتم الذين ترعون نفوسنا وتعملون على تخليد أحاسيسنا وتحريك سواكننا وبعث الحياة فى كياننا . .!
ومن أهم ميزات رجال الفن والفكر أنهم لرهافة فى حسهم ودقة فى شعورهم وصفاء فى أذهانهم ، ونقاوة فى قلوبهم ، ويقظة فى أرواحهم يستطيعون أن يشعروا بالحياة أكثر مما نشعر بها نحن فلا تخدعهم المظاهر والأزياء والقوالب ، ولا يقف بهم نظرهم عند السطحيات . بل انهم يبحثون عن جوهر الأشياء ولبها ويغوصون فى أعمق أعماقها فيهتدون الى ما لا نستطيع أن نهتدى اليه نحن بحال . ان لهم عينا نافذة ترى الحقيقة الكاملة في حياة الانسانية وتبصر العجلة فى كل دورانها . انهم يغمضون جفونها ليبصروا الجوهر فهم الحكماء ! انهم لا يكتفون باللعب عند " شاطىء الحياة " لأنهم يجدون اللذة كل اللذة فى البحث والغوص والتنقيب . ولا يرضيهم
ابدا أن ينتجوا ويثمروا لأنفسهم فقط بل هم يريدون أن يتمتعوا أيضا بمشاركة الناس لهم فيما يحسون به ويفكرون فيه ويهتدون اليه . انهم أكبر منا وقد يحدثوننا عن أشياء نعدها من الغرائب فى كثير من الأحيان ، وقد يخاطبون عقولنا وقلوبنا بلغة لا تفهمها لأن وقت فهمها بالنسبة لنا لم يحن بعد . ثم تأتي الأيام بما يصدق ما حسبناه أوهاما ويبعث الى عالم الحقيقة والواقع ما خلناه جنونا ، فهم أنبياء الحياة بحق أوهم أناس يسبقون عصورهم على أقل تقدير مهما ارتقت تلك العصور . فلنعترف لهم بالفضل ولنجلهم ففي اجلالهم اجلال للحياة ، ولنصغ لهم ففى اصغائنا اليهم اصغاء لصوت الوجود وناموس الحياة . ولعل هذا ما يبرر ما نلاحظه من أن رجال الفن والفكر هم الذين يغرسون الجذور الاولى لجميع الثورات ويهيئون لها كل الأسباب ويرسمون خطوطها العريضة ويتحدثون عن أهدافها البعيدة ثم يأتي بعد ذلك من يسير على ضوء تلك الخطوط ويحقق تلك الأهداف التى رمى أهلها بالجنون عندما تحدثوا عنها ، وما ذاك الا لأنهم يحسون بالحياة أكثر مما نحس بها نحن فيستوحون من صميمها وجوهرها ما ستتمخض عنه الأيام الحبلى بالغرائب والأحداث ، فهم اذ يتحدثون عنها فانما يتحدثون بلسان الحياة ، وصوتهم اذ يدوى خارجا من أعماق قلوبهم فانما يفعل ذلك استجابة لنداء الحياة داخل نفوسهم الحية المستيقظة . ان ثورتهم هى الثورة التى لا تقهر أبدا .
هذه بعض جوانب من رسالتكم - يا رجال الفن والفكر - وأنعم بها من رسالة سامية خالدة . انكم تخرجون من " آبار نفوسكم " الماء الحى الذى يروى غلتنا ." ان عندكم فاكهة الذهن والقلب وعصارة الذوق والعقل " وأن زيتكم هو الذى لا ينضب وان جذوتكم هى التى لا تنطفىء ابدا " .
أما بعد ، فان كان لكم أن تطلبوا منا شيئا فلن يكون سوى الحرية التى هى قوام ما تنتجون ، وأساس ما تبنون ، والنور الذى على هديه تسيرون ...
وان كان لنا أن ننتظر منكم شيئا فهو الاخلاص الذي هو روح ما تنتجون ورحيق ما تخرجون ...!
