اذا امعنت النظر في الأمور المعنوية من حياة البشر ، وجدت اكثرها ( ينبوعا ) لكثير من محسوساتها ، فهى ناشئة عنه ، ومرتبطة به ارتباط النور بالتيار الكهربائي . . وفي هذا الباب قد يتباعد " الوصفان " وبندمح " الموصوفان " او ينسجمان فى النهاية على اقل تقدير .
خذ مثالا الحالة الاجتماعية للامم - وهي من الأمور المعنوية - وخذ بجانبها ، العمرانية - وهي من الامور المحسوسة - فانك تجدهما متلازمتين تلازم المقدمة والنتيجة ، والنهر بالينبوع . .
فمن الناس من سمت حياتهم الاجتماعية الاجتماعية ، وتوطدت ولامست السحاب ، فدفع بهم هذا السمو المعنوى الحافز الى ابتداع " ناطحات السحاب " وما ينسجم وناطحات السحاب من عمران فخم منسق جميل . وكذلك كان بروزهم الاجتماعى الخفى ، وسيلة مباشرة لبروزهم العمرانى الهائل الملموس .
ومن الناس من نهضت اجتماعياتهم ، ولكنهم لم يرتقوا الى تلك القمة ، فشادوا " القصور " ونظموا المدن وجملوها ، ونهضوا بالريف ، واستغلوا البر والبحر والجو لصالحهم وكانت مظاهر نهضتهم العمرانية خير معبر عن مستوى معنوياتهم الرفيع .
ومن الناس من هم دون هذا المستوى . إنهم يجيئون فى الفوج الثالث من موكب التقدم الاجتماعى ، ولذلك تراهم يستجيبون لينبوع حياتهم المستئتر فى نظام عمرانهم فهم يبنون من " الدور " وينظمون من مرافق الحياة المادية على قدر من وعيهم الروحى المكنون .
وآخرون جفت ينابعهم المعنوية ، وتقلصت ظلال اجتماعياتهم فاقاموا عمرانهم على غرار يتناسب وحالتهم المعنوية ، وكان فى ذلك دليل واضح على ما يعانونه من جدب روحى عميق . .
وبعد فهذا مثال واحد استخرجناه من مثل عديدة مشابهة فى حياة الامم لتقرير أن اغلب المحسوسات فى حياة الناس هى امتداد وفيضان لينابيعتها المستكنة ، فما يعتكر ليل داج من الانحطاط على امة من الأمم ، ولا يشع بينها قبس وضاء من اقباس التقدم الابتأثير مباشر او غير مباشر من عوامل خفية وطيدة حافزة .
فيحسن بمن يستهدفون النهوض ان يستصحبوا معهم ضوء هذه الحقيقة ليستنيروا به فى اصلاح الاجهزة المعنوية المسيطرة على اوضاعهم المحسوسة ، وبذلك يمهدون لينابيعها طريق الاندفاق فتقوى وتصفو ، وتفيض عليهم بعناصر الحق والخير والجمال . . وحينئذ . وحينئذ فقط يرتفع بهم " مصعد " الحياة الى قممها الشامخة العليا .
