للجمال عصمة ومنعة لعل من آياتها البينات انتفاء (( السخف )) عنه وبراءته منه براءة مطلقة . صفة من صفاته اللازمة وحجة من حججه البالغات .
قد يكون فى الجمال الشاحب الذابل لذة ونكهة ، كما ان من الجمال ما هو شهوانى لا يكاد يخاطب غير الحيوان فينا ، ومنه الرائع المشبوب ما ان تثبت له فزعا منه وتضاؤلا وحسرة . . .
كذا يتعدد الحسين ويتفرع ويتلون الى درجة الشذوذ والتناقض ولكنه لن يكون بحال من الاحوال زريا ، ولن يتسع ولو لذرة من السخافة .
تستطيع ان تسخر من القوة وقد تكفر بالعظمة وتجحدها ولكنك لا تقدر ابدا ان تضحك من الجمال .
ذلك لان من ميزاته الجوهرية استواءه وتماسك طبقته تمكنا فى سلم الجودة وتساميا كشأن تلك الآثار يسرح الذهن فيها لا ينى يلتهمها متزايد المرح والنشاط ، متجدد اللذة والطرب حتى يبلغ قمة روعتها ويستشرف ظمآن متحرقا ما هو اسمى واكمل .
فانت ، عل هذا ، لا تزال مع الحسن الاصيل كل لحظة فى حال مد وجزر ، ياخذك قبضا وضما ، ويجذبك بفتنته يغلك شدا ثم فى عين الوقت يحررك من نفسه ويدفعك بعيدا . فاذا هو كالداء يتداوى منه به واذا انت مأسور طليق مفتتن مستزيد .
وهذه مزية نادرة ومرتبة رفيعة قلما تتفق للحسن الآدمى . انها لا تتوفر جلية باهرة الا فى حال سكرة الفن وجنون الحب ذلك العبقرى الفذ الذى لا يفتأ يزيد فى حمال مخلوقه وصنع يده الى غير غاية . يولد الملاحة ويفجرها تفجيرا . صقلا وتهذيبا ، تفننا وابداعا .
قليلة هى الوجوه التى برئت من كل شائبة نقص او غثاثة . تتحداك ان تجد اى مغمز فيها دقة صنع وبراعة . صفاء وانسجاما .
وان الكثير مما يروعنا ويستهوينا من الصور والملامح لهو قصير السحر مقطوع الاجل سريع الابتذال يبهرنا ويخادعنا مدة ثم لا نلبث ان نقف على دسه وتمويهه ومكان العيب والنقصان فيه فاذا سحره يتضاءل بين ايدينا ويتلاشى رتابة وجمودا .
هى اشبه بتلك (( الازياء المبتدعة )) التى ما ان تولد حتى تموت لا تجاوز الموسم الواحد حظوة وقبولا ثم تبلى على جدتها وتمسى اشكالا يتندر بها لغوا هزؤا . . .
او كبعض الاغانى يكلف الناس بها زمنا يترنم بها الصغير والكبير فى ضرب من العدوى وحمى من التقليد ثم تسمعها بعد مدة فاذا هى قد ذبلت وطفئت الوانها وذهبت روعتها وعادت لفظا بلا معنى شيئا زائدا لا مبرر له .
واذا انت تستشعر فيها برد الموت وخواءه وعبثه وحماقته فتنفر منها وتضيق بها حرجا واستثقالا بعد الفتنة البالغة والشهرة المستطيرة .
لقد شاخت وهرمت وهى تتثاءب تفاهة وسخفا . وهيهات ان يشيب الجمال الحق ويبلى !
وميزة اخرى للحسن لا مناص له منها ولا قوام له الا بها هى الحرية .
الجمال حرية محض . جوهر قائم بنفسه يفرض وجوده عفوا . فى ضرب من الضرورة والبداهة لا نملك لها دفعا . اشعاعا من صميم الذات وعين الجود . ولا فرق - فى حقيقة الجمال - بين الذات والوجود .
واحد احد . فى قوة اكتنازه ومنتهى تركيزه . فى تناسقه والتئامه . ولا ثغرة فى هيكله حتى ولا كوة تكشف لنا عن عورة او يتجسس منها على ما فى الغيب والسريرة .
هكذا الجمال أو هكذا يبدو للعيان والفكر . فالمهم ان يبرع فى القيام بالدور وان تتم الخدعة وتجوز علينا الحيلة فاذا بنا نحس احساسا قاهرا لا ريب فيه بروعة (( المطلق )) وسلطانه وعزته وامتناعه ، وقد تجسد بين ايدينا وأسلس قياده وسكن جموحه وامكنت النجوى وسنح الحوار .
واحد أحد فى بالغ تكتله وهندسته (( الكلية )) . .
وما العبرة - ازاء الجمال البشرى - الا فى غض الطرف عن (( احشائه )) وما فيها من كثرة وشتات وحتمية قاهرة وطاعة عمياء فنذهل تماما عن (( المصنع
الداخلى )) بآلاته ووظائفه واعضائه وخلاياه ونسرح فى عالم من الصفاء لا قرار له (( لنشاهد من هو منزه عن كل نقص )) (1) .
وما سحر الفن وتوفيقه الا فى ان يصرفنا عما وراء وحدته الظاهرة وتماسكه الجبار من حيرة وتردد . وسعى وكدح . من صنعة ورصف ومزج وتلفيق وحيل ودسائس . . .
(( الجمال ينتهى عند البشرة . الجمال محض صورة (2) )) هيهات ! ان معجزته الباهرة فى اقناعنا بانه اشرف من ان يكون مجرد صورة . انه حقيقة واقعة وقيمة خالدة . انه فكرة متأصلة فى اعماق الانسان تكيف وجوده وتكسبه معناه وتفرض على وجه الدهر بقاءه .
الجمال ثورة وجنون . ونظام وانسحام . قوة تتحدى الزمان والمكان . هو خفة وبداهة . وهو ظرف وسماحة . نفى لكل ثقل وكثافة . وليس ما يغض من الانسان وينفر منه كبعض الوجوه البغيضة جمدت وقارا وزماتة . عريت من كل معنى وتعبير . والجمال معنى او لا يكون .
(( خاتم الإنسانية )) تلك هى السمة التى يتميز بها الحسن البشرى ويشرف ويكتمل . ههنا الفرق جليا ساطعا بين (( البشرية )) و (( الحيوانية )) . بين وجه البشر وخلقة الحيوان .
فمهما يكن الحيوان ظريفا لطيف الصورة رقيق الملامح فان وجهه يظل حتما اعجم عييا قاصرا . لا يتسع الا لليسير من المعانى والاحاسيس التى لا تكاد تختلف فى حدود الفصيلة .
وما اغنى وجه الانسان وما اغزر معانيه وادق احاسيسه ! وما اشد اختلافها وتنوعها ! إذ لا تشابه مطلقا بين الوجوه حتى فى محيط البيئة والاسرة الواحدة .
لكأن بعض الوجوه تشف فتطفو عليها اشعة الفكر وترفرف اطياف الروح فاذا هى الطف وارق تنطق بآيات الذكاء . ولمحات السمو والتهذيب . وحتى كان الوجه ظل للروح او هو تصوير و(( تجسيد )) له ، وسمة الوحدانية المطلقة فيه .
هى (( فردية )) الانسان . كل انسان . وقوة الاصالة والطرافة فيه . تتأكد وتشتد على قدر تاصله فى الانسانية ورسوخ جذوره فيها .
انه عناق الواحد والكل . طريقه الى الكون . الى المطلق . الى الله . فتبارك الانسان فى (( وحدانيته )) و(( كليته )) .
