قد
لا ينتبه شباب الجيل الى ان الشاذلى خزنة دار كان همزة وصل بين القدامى والمحدثين من شعراء الخضراء ولا يعرفون الكثير عنه لا لانه لم يرزق الحظوة فى ادبه ، ولا لانه غير مجيد فيما حاك من القصيد لا هذا ولا ذاك وانما صاحبة الحرف الذى يصاحب النوابغ المجيدين احيانا فيطغى عليهم ويكسف اشعة بيانهم فترة من الدهر الى ان ينكشف الغطاء
ولا تظنن ان أدباء الخضراء هازلون فى بيعة أمير القوافى فكلهم بايعه لا ملقا ولا تزلفا كما سياتي البيان وانما بايعه من يايعه لشاعريته المتدفقة وخاطره الفياض . والشاعرية الهام وفيض اكثر منها تعلما وتثقيفا . بايعه ادباء الخضراء لانه نبغ فى بيئة لا تقيم وزنا للشاعر ولا تحفل بشعور . ومن سوء الحظ انه شعر فى جو موبوء ، وغرد على افنان لا يحرك حفيفها اللطيف افراد تلكم البيئة التى كانت تكفر بالادب وتزهد فى الاديب وتعده شحاذا منحطا فلم ينفق له شعر ببلاط البايات كما نفق شعر ابى فراس الحمداني فى بلاط سيف الدولة بن حمدان لان ابا فراس عاش تحت وارف ظلال ملك عربي شجع الادباء واعلى مقامهم ، واغدق عليهم من وابل الخير والعطف ماهم جديرون به وبذلك عرفوا لقريبهم ابي فراس مكانته الادبية فأكرموه ، واكرموا في شخصه موهبته الشعرية وعلى العكس من ذلك شاعر الخضراء وامير شعرائها فقد عاش مرهقا ، مبعدا محروما من عطف البايات فكان بمعزل عنهم وهو القريب منهم وغاية ما ناله على عهودهم ( خطة وظيف ضابط شرفى ) بالرغم عنه . فلم يتمالك عن الاصداع بالحقيقة فقال :
ها اننى بالرغم عنى قائد ما بينهم لكن بدون عساكر
ما لى بها الا الحسام علامة وتحية جبرا اجل بالخاطر
لو بت تسألني على احوالها لشفيت قلبك بالجواب الحاضر
قد كنت احمل ذلة لا خطة حتى ترانى خاجلا من ناظرى
تلك النجوم حقيقة فى نفسها كبرى وتصغر فى عيون الباصر
ذلكم هو المنصب الخطير الذى تقلده الشاذلى خزنة دار من اصهاره البايات ومن الكذب على التاريخ والتلاعب بالحقائق ، والتحكم فى سير الرجال
بدون اطلاع على آثارهم أن تكون مبايعة الاديب الفائز وغيره من رجالات الادب بتونس للشاذلى خزنة دار كأمير للشعراء منبعثة عن الزلفى او يكون الحامل عليها الملق . ومتى كان الناس يتملقون ضابطا شرفيا لا يقود رعيلا ولا يسوق جيشا عرمرما ، او يتقربون لصاحب خطة هو بدوره يلعنها ويتبرأ منها ، ويحمد الله على الخروج منها ومن بيئتها الموبوءة فيقول فى ألم ممض وحسرة بالغة :
لكن خرجت ولى عليهم حسرة اذ لم يفز فى القصر غير الغادر ؟ . . .
وساكتفى بوظيف شعري عائشا ما بين اقلامى وبين محابرى
هذى الحياة شريفة وتلذ لي ولها خلقت وطار فيها طائرى
ان شئت كان الشعر سيفا قاطعا او كان ان احببت كنز جواهر
احمى به وطني وانصر امتى قل هكذا والله فخر الظافر
طابت مغارس روضتى قد اينعت افنان دوحتها لطيب عناصرى
فى حب تونس قد اصبت ولم يزل قلبي غريقا فى الغرام الطاهر
يقول خزنة دار هذا القول والباى آنذاك موظف فرنسى لا يحرك ساكنا الا اذا حركه اسياده ولا يعمل عملا الا اذا اوعزوا اليه ان يعمله والاستعمار راسخ القدم والبلاد التونسية تئن من ادناها الى اقصاها تحت نيره الثقيل واضطهاداته المرهقة .
ومن هو الذى يتجاسر على التفوه بحب تونس فضلا عن ان يعلن انه سيخدمها بادبه ويكرس لها شعره ؟ ومن هنا كان لهذا الرجل فضل السبق على ادباء عصره وفضل السبق على كل شاعر تقدمه او عاصره فى اوائل الحماية الفرنسية بل هو اول شاعر تونسى نادى بترقية الشعور وارهافه وتحريكه في الجماهير لتتهيا للاندفاع وتضطلع بهمة المقاومة وتسهل على قائدها مهمة القيادة فيصل بها الى شاطىء الانقاذ والنجاة كما وقع .
وحسبك بالشعور اذا ترقى واجرى سلسبيله فى المجارى
فكم بعث الحياة الى نفوس فارجعها وكانت فى احتضار
وقلدها شريط العز فخرا فبات الشان مرفوع المنار
وكم نفثت به الالباب سحرا وكم اجرى ببحره من جوار
وكم رضعت لبانه من شعوب صغار فارتقت به للكبار
وكم رفعوا به للحق صوتا فاصبح لابسا تاج الوقار
وكم نهضت به همم وهبت على الضعفاء ارواح انتصار
الى التاريخ في الامم اللواتي طواها الدهر نظرة ذى اعتبار
ودونك من دنانه كاس راح تنوب لديك عن كاس العقار
" ولا تشرب بأقداح صغار فقد ضاق الزمان عن الصغار "
وشنف بالمكارم كل سمع ورددها بسجعات الكنارى
وخصص من بنات الفكر جوقا فعشاق الرواية فى انتظار
وحافظ على كيانك فى وجود ولا تنظر له نظر احتقار
وبادر فى الرياض لقطف زهر فان العود اصبح فى اخضرار
او ليس من الغبن الفاحش ان يقال لشاعر الشعور انه ملفق او ناظم والتلفيق والنظم لا تحلهما روح الشعور السامى المنحدر من آفاق سحرية شعرية بعيدة المدى ، عميقة الغور عبر عنها أمير الشعراء بقوله :
انا مظهر للشعر والشعر مظهرى اذا ما تجلى فى المشاعر منبرى
اجر ورائى من قوافيه عسكرا فمن قمة الاجواء او قعر ابحر
وما النصف قرن فى امتلاك زمامه سوى قطعة من قبض روحى لمعشرى
خدمت به الخضراء والحق والهدى وصنته عما بالفضيلة يزدرى
رفعت به ايام لا صوت سوطه وشددت بالتفريع عن كل منكر
وافعمت بالاحساس ابناء جلدتى ووقعت انغامى بمضراب مزهرى
ولعل عبقرية الامير تبدو فى نشأته فى طموحه فهو الاديب العصامى والشاعر الذى لم تضمه الجامعات ولم تسبه الالقاب فاستمد بيانه من وحى ذكائه الوقاد وغرد فوق دوحة الادب الفينانة الخضراء ينفق مما اتاه الله ويستغني بوجده عمن سواه ... فنشأ مجددا فى الروح محافظا فى القالب والمحافظون مجددون في معانيهم وان آثروا التمسك بالقالب الاصيل وأبو التنازل عن ذرى الفصاحة العربية الحصيفة .
انصت لساجعة القريض ويال صوتا شجيا من نشيد جميله
رفعت عقبرته على وتر النهى واسترسل الحفاظ فى ترتيله
لو شاء ربك للكتاب زيادة لاضاف آياتى الى تنزيله
للنحل اوحى والقريض كشهده للفحل فى الشعراء شفاء غليله
هولى كنانه اسهم اعددتها فى كل سهم مصرع لقتيله
البسته حلل البيان سوابغا ونشرت راياتى على اكليله
ورسمت بالاحساس ما استنتجته من مذكرات لم تحن لمثيله
وتلوته بلسان صدق فى العلا ما بين حاذق رهطهم ونبيله
والحقيقة ان أمير شعراء الخضراء حلق فى سائر الاجواء وكان شعره شعر الفضيلة والوطنية ، والحكم ، والرصانة ، والعذوبة ، والسلاسة ، والرقة والروعة . وقد ظل كما قال خمسين عاما يزجى القوافى الى ابناء العروبة محركا هممهم مستفزا شعورهم فكان الحكيم المدره والمؤمن الصادق الذى بز المتقدمين من شيوخ الادب فى التوجيه الصالح فى الاسلوب الفاتن لا يترك اى فرصة تعنو بدون ان يندفع فيها اعتاده من التوجيه
وما زلت احتفظ له بغأنية من شعره لم تنشر بعد قد كتبها لى بخط يده وملأها حكمة وبلاغة وما راء كمن سمع .
خاطبنى بها رحمه الله مهنئا بولادة طفل فابتكر المعانى وتفنن فى اشادة المبانى وأبدع فى ميدان التهانى ثم تخلص كعادته الى التوجيه ( ولكل امرى من دهره ما تعودا ) والحكمة طابع شعره . اصغوا اليه وهو ينفث السحر ويتلاعب باطراف البيان ويبدع فى الحكم ، ويهز النفوس هزا فى اسلوب رائع فتان وبيان سهل ممتنع قال رحمه الله .
ولادة طفل وعام جديد وهذا نعم قران سعيد
وللعامرى من الخزندارى تهانى الودود بهذا الوليد
شقيق " عياض " محمده وطالع يمن وعيش رغيد
و " هاديه " للخير والده له أمل فى الصبى وطيد
اقر العيون بميلاده فاصبح للشعر بيت القصيد
هو اليوم في الروض غصن رطيب وفيه من الزهر ثغر نضيد
هو اليوم في الدوح خشف ودييع وفى الغد ليث هصور عتيد
هو اليوم فى البيت عصفورة ويا لها زقزقة وغريد
وفى الغد بين جوارحه اشد العقابين عند المصيد
اليه مع الرقيات وصاتى خيار الذخائر بين العقود
بني ؟ بني ؟ تأمل مليا لتفقه بالعقل سر الوجود
وتعلم ان الحياة جهاد وحظك فيها بقدر الجهود
تعاليم شرع وتأثير صنع فسر سير هدى وقف بالحدود
خلقنا لنعمل فيها ونرى مع الكون بالروح مسرى الخلود
وفي الدهر للخلق مدرسة ومحكمة حكمها لن يحيد
وللحق اهل فكن من ذويه ولو قارعتك العدى بالحديد
فمر الحياة مع الحق حلو وبيض الوجوه مع البطل سود
وموقف عزك في المدلهم حميد وبالصبر فك القيود
وسيرك عشواء في ظلمة كتعطيله فى مهاوى الجحود
واخذ الجديد بلا نظر كصون القديم بما لا يفيد
هو الشئ في نفسه واحد طريفه ما بيننا والتليد
عليك المعارف فاسع لها وقل للجديدين هل من مزيد
وثب للرقى وسر افقا ومهما ارتقيت استزدفي الصعود
فعلمه اوسع من ملكه وفى كل كشف عليه شهيد
ومعرفة الله فى خلقه تثبته رغم انف الجحود
وحسبي وحسب بني اذن صحائف ذاك الكتاب المجيد
سيبقى مدى الدهر معجزة تخر الجباه بها للسجود
ولا بد للدين من عودة كما قال صاحبه سيعود
فكن لتلقيه يا ولدى على أهبة لاقتبال السعود
وجدد عهودا لارض الجدود وخير الشمائل حفظ العهود
تزين " منستير " مدرسة ابوك المدير لها والعميد
تعلم مبادى العلوم بها وعنه تثقف برأى سديد
وشرق وغرب بما احتسبت لك النفس منه بسعى حميد
وسره فيك بنسل كريم فلا بون بين ابنه والحفيد
ومطلع نجمك فى افقه تلقاه مني هذا النشيد
ونال ازديادك للرشد يوما يؤرخه لى طفل رشيد
انا فث هذا السحر وراقم هذا البرد وحادى ركب البلاغة العربية والغريد بين عرصات البيان المتلقى وحى الشعر من آفاق لا ينضب لها معين ( يقال له انه نظام بعيد عن الفن )
كلا ولكن النظرة العابرة والاطلاع الخاطف هو الذي اوحى بذلك الحكم الخاطئ والرأى القائل الصادر عن الدكتور السامرائى الذى ننصح له بمراجعة بيان شعر أمير شعراء الخضراء ليصلح خطاه فيما ادعاه من تملق الناس لهذا الوزير الخطير ؟ . واقل ما يقال عن هذا الخطأ الفادح انه ينم عن سوء نية ويعرب عن نقص في الاستقراء لا يشرف صاحبه بعد العلم بان أمير الشعراء لم يتقلد وزارة ولم يسم الى امارة ولم يتملقه الناس يوما ما وسنعود الى دراسة مستفيضة لبيان أمير الشعراء فيما بعد ان شاء الله .
