" ما يحول بيني وبينها اذن ؟ الزمن ؟ نعم محوناه . . ولكن ها هو ذا يمحونا ، الزمن ينتقم . . انه يطردنا الآن كاشباح مخيفة ويعلن أنه لا يعرفنا ويحكم علينا بالنفي بعيدا عن مملكته . . " - توفيق الحكيم -
الساعة الخامسة مساء . . وعشية شتائية وأنا وماض يجر اذياله وامرأة على حافة الطريق تنتظر قدوم الحافلة لتسافر . . . نسيم بارد رطب ، نسيم قابس الرابضة على البحر ، ورذاذ لين خفيف سرعان ما أمسى مطرا تنزل قطراته ثقيلة على قلبي . . ما أتعس الانتظار . . انني اكره الانتظار . . الخامسة والربع والحافلة بعد لم تأت . . . حركت شفتى بهذه الكلمات ولم ادر كيف تكلمت . . وأحسست بالبرد ثقيلا على كتفى فتململت من مكانى ولكنى لم اتحرك . . امرأة واقفة على بعد خطوات ، تشد اليها طفلة صغيرة . . تبدو جميلة رائعة . . . قطرات المطر تنزل على خديها ، فتزيدها روعة وجمالا . . وبقيت في مكاني انتظر . . آه كم امقت الانتظار . . وتصورت حياتى حياتى كلها انتظار . . ولكن من انتظر أو ما انتظر . . سؤال غريب . . لست أدري لماذا وقفت في هذا المكان . . شئ غريب يجذبنى الى هذه الطفلة ٠٠٠ آه لو استطيع أن ألقى " برنسى " فوق كتفيها . . فالبرد شديد ولكن الحياء يقتلني هذه المرأة الواقفة الملتفة . . من عساها تكون ؟ أخاف ان تقذف هذا البرنس فى وجهى . . ماذا يكون موقفى . . طبعا سأموت . . اننى امقت كل امرأة . . لا . لا يمكن أن أتحمل اهانة امرأة . . وأخرجت علبة السجاير وأخذت عود ثقاب وثانيا ثم ثالثا آه كم اكره الانتظار . . لم استطع ان اشعل سيجارتى وأرجعت علبة السجاير الى جيبت افرك يدى . وانظر الى هذه الصغيرة التى ما انفكت توجه الى نظراتها البريئة الهادئة . . ثم التفتت الى أمها وكأنها قد فهمت ما كانت تجهله نفسي .
- أماه . . من هذا الرجل ؟
التفتت المرأة ونظرت الى ٠٠ امرأة جميلة . . ولكنها تنتظر الحافلة لتسافر ٠٠
كنت فى حقلنا الصغير . . أساعد والدى فى بعض اعماله . . كنت أحمل منجلا صغيرا اشتراه لى والدى لتكون آلتي الخاصة التى الهو بها ، وأساعده بها فى بعض اعماله فى حقلنا الصغير . . وكان الصيف جميلا . . صيف واحتنا السمراء . . ومرت سعاد ابنة العم صالح كعادتها تحمل قلة متوجهة الى الساقية القريبة . . التفت الى والدى فوجدنى اتابعها بنظراتى ، فابتسم يداعبنى قائلا :
- يا حلوف تعلمت . . وعاد الى عمله . .
وشعرت بخدى يلتهبان من فرط الحياء . . ولكنى قذفت المنجل جانبا واسرعت الى الممر المؤدى الى الساقية وعلى بعد امتار لاحت لى سعاد وبصوتى الصغير صحت بها . .
سعاد . . انتظرينى
وانتظرتني فلما وصلت اليها أخذتني من يدى وسرنا الى الساقية . .
كانت سعاد تكبرنى بأربع سنوات ، فكان والدي والعم صالح لا يجدان حرجا من مصاحبة سعاد . . وجلست فوق جذع نخلة كنا نستعمله جسرا تمر عليه الى الضفة الاخرى من الساقية . . ونظرت اليها فكانت جميلة رائعة . . ارتسمت على وجهها سمرة واحتنا . . وأحسست بشئ غريب يداعب نفسي . . ونظرت الى صفحة الماء التى تعكس صورتها وقلت بكل هدوء .
- سعاد . . هل ستنتظريننى فابتسمت ابتسامة عذبة رقيقة . . وقالت
- انت صغير . . ولكن اذا أردت . . نلتقى اللية من هذا المكان . . عند العشاء .
ولكنى لم ادر كيف أجيبها . . فأنا لم أتعود الخروج من كوخنا بعد صلاة المغرب ثم الغول . . فلطالما حدثتني والدتي عن الغول . . الغول الذى يبتلع الصيان بعد العشاء . . ولكنى حاولت أن ابرز رجولتى فقلت محاولا أن أتظاهر بالهدوء
- طيب . . إذا شئت . . نلتقى بعد العشاء لم ادر لماذا أجبتها ذلك الجواب . فقد كان جوابي مثل سؤالى خاليا من كل
معنى أو قل لم أفهم معناه . . ماذا سنصنع فى الليل ، وفي ذلك المكان وعند العشاء . . كل هذه الاسئلة أخذت تخامر نفسي وأنا مستلق على فراشي انتظر موعد العشاء . ومن بعيد بدأ القمر يجلو بأشعته الحمراء ستار الظلام الرقيق ، ونهضت من فراشى وأخذت أمشى على أطراف أصابعي ، أخاف من حين الى آخر أن يستيقظ والدى ، ، وصرت خارج - السقيفة - وشعرت بمفاصلي ترتعد وأسناني تصطك ماذا عسانى أفعل لو يخرج الغول ، غير أن صوتا رقيقا ايقظني من خيالاتي المفزعة فاذا هي " سعاد " وهمست :
سعاد . . سعاد . . انتظرينى
وانتظرتني وأخذتني من يدى المرتعشة وغصنا فى الممر الملتوى . . وصرنا الى الساقية ، ووقفنا فسألتها مستريبا
- سعاد . . انني خائف . . أخاف لو يرانا والدك . . فأجابتني وهى تلثم خدى
- لا تخف . . لا تخف . . ان والدى قد ذهب الى البلد منذ ساعة .
ولكنها لم تترك لى الوقت حتى أجيبها ، ، فقد وضعت شفتيها على فمي وضمتني إلى صدرها بكل عنف . . وسقطنا على الارض ولم تمض دقيقه واحدة حتى نهضت حانقة غاضبة .
وصحت : سعاد ، انتظرينى . . انتظرينى
ولكن قد طواها الظلام . . . فرجعت مرتعدا . التمس طريقا الى فراشى وأنا أفكر فيما جرى لى . .
كان ذلك قيل دخول الى المدرسة الثانوية . . واستفقت يوما فاذا بي أجد نفسي في احد المعاهد الكبرى من المدينة ، ، وشعرت بأن كل شئ قد تغير تغيرت حياتي الساذجة البسيطة ، ، تغيرت حياتى الريفية ، تغير كل شئ لكنى لم أتغير غير أنى فهمت لماذا صاحت بى سعاد تلك الليلة وعلمتني التجربة كل شي ، ، ووضعت يدى فوق ذقني ، ، شعرات كثيفة بدأت تثقب جلدتي الرقيقة ، ، ورجعت الى الواحة ، ، رجعت الى بيتنا الصغير ، ، ورجعت إلى حقلنا الصغير ، واستقبلتني والدتي بكل ما تكتسبه الام من رقة وحنان . ثم التفتت الى " الكسوة " التى ارتديها والى الشعيرات البارزة فوق لحيتى فابتسمت قائلة :
- ها قد تغيرت يا ولدى ، ها قد أصبحت رجلا .
وتذكرت تلك الليلة ، تذكرت سعادا ، ، تذكرت القبلة وتذكرت صيحتها فى وجهى ، ، وكدت اسأل والدتي ولكن الحياء يقتلنى . . يقتلنى
ورجعت أرسم خطواتى فوق الممر المنعرج المؤدى الى الساقية وأنا أردد لحنا جميلا ، ، لحن أغنية جميلة حفظتها منذ سنوات ، ، سعاد - انتظريني . . لحن صداه لا يزال يرن بين حنايا قلبي . . . وكانت فى انتظارى .
واعترتني مسحة من الحياء . . وصمت ولكنها لم تصمت . .
محمد - ها أنت قد عدت رجلا . .
نعم لقد لاحظت هى أيضا هذه الشعيرات البارزة التى بدأت تمزق جلدة ذقني . . . ولكن لم أدر كيف كان وقع هذه الكلمات ، ، فقد نزلت باردة مثلجة على قلبي . . ونظرت الى صدرها . . فقد تغير كل شئ فى هذه السنوات القليلة . . حتى هي قد تغيرت . . سعاد لم تعد سعاد الامس - لم تعد تلك الطفلة التى عرفتها . . نعم لقد تغيرت ، ، فكل شئ فيها قد تكور ، ، برز نهداها وطغت انوثتها ، ، فغدت امرأة جميلة . . تحمل جمال واحتنا السمراء . وشعرت عندها بوطأة الزمن ، ، الزمان أكول جراف . ، لكن تمنيت أن يقف الزمان . . وتقف معه أربع سنوات فقط ويمضى بى حتى أقف معها على نقطة واحدة من الزمن . . ولكنها مضت تسابق الزمان . . فاذا نحن نتغير ، فبرزت فوق ذقني شعيرات وبرز فوق صدرها نهدان ، ، ولكن السنوات الاربع لم تتغير ، ، فقد بقى نفس الامتداد الذى يفصلنا فوق شريط الزمان .
والتفتت خلفها وجسة خائفة وبعد دقائق صامتة ، قالت فى ابتسامة مريرة : - الأحسن أن أعود الى البيت ، أخشى أن يرانى خطيبى الذى يزورنا الليلة . .
وكدت لا أصدق أذني ولكنها غابت بين النخيل ، فعدت ادراجى الى بيتنا الصغير . .
الماضى شريط زمني يعود اليه الانسان انتقاما من الواقع ، هو سلاحه الحاد الذى يقاتل به الواقع ، ولكن الانسان سرعان ما ينظر الى نفسه ، فاذا هو
جريح هذا السلاح الحاد . وهذه المرأة الواقفة أمامي قد اعادت أمام ناظرى هذا الشريط . ولكن هذا الشريط قد فصل عن الزمن
زارت الحافلة ، فاذا بها تطوى الارض طيا . . فأحسست بشئ غريب فى نفسى وصرخت وصرخت . . سعاد . . انتظرينى .
ولكنها لم تعد ، فلن تنتظرنى هذه المرة ، فقد طواها الزمان والمكان
قابس - سبتمبر 1968
