الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 7الرجوع إلى "الفكر"

انت الجانى

Share

ثم تدر ما أصابها فى هذه الساعة . . إنها تشعر بقلق مرير . . وبكآبة خرساء . . جسمها ثقيل لا تحس به إلا من خلال قطرات العرق . . كانت صديقاتها بهزجن ويمرحن . . فوق أخاديد الرمل الذهبية . . وبين أمواج البحر المتلاطمة . . وقد اعجبن بانفسهن . . بجمالهن . . ببروز النهود . . وعبثا حاولت أن تندفع فى تيارهن . . علها تتناسى ما يحيط بها . . وبدون أن تشعر غادرتهن . . وظلت قدماها تجرها الى حيث لا تعلم . . ولم تفطن إلا وهي أمام منزلها . .

ترى ما الذي جعلها تأتي الى هنا ؟ . . لا بد أن يكون خبر هام ينتظرها . .

الساعة تشير الى الثانية بعد الزوال . . سكون رهيب مخيم على كامل الدار . . حاولت أن تتسلل الى غرفتها بكل سكون وهدوء . . وفجأة سمعت ضجة بالبيت . . ضجة انسان قلق يترقب شيئا وقد أعياه الانتظار . . فأخذ يطوى الغرفة جيئة وذهابا . .

ويا لذهولها عندما انكشف لها أنه والدها . . ذلك الشيخ الذى وهن العظم منه . . واشتعل رأسه شيبا . . فأحست لسع الجمر . . وتصاعدت دماء الخوف الى وجهها . .

- رباه كيف العمل ؟ . . كيف الخلاص وكل ملابسى هناك . .

طال بوالدها الانتظار . . الوقت يمر بطيئا متثاقلا . . واخيرا هم بالخروج . . ووقع بصره عليها . .

- اغربي عني . . اغربى عنى . . " لا سامحك الله " . .

دخلت الى الغرفة مهرولة . . ورمت بثيابها فوق جسمها العارى . . وقبعت فى زاوية من زوايا البيت . . . وبقيت تنتظر هبوب العاصفة . . لكنها سمعت صوت أبيها يناديها من حجرته . . ذهبت اليه وقد خلا ذهنها مما حدث . . أو

مما يوشك انه يحدث . . فأدهشها تجهمه البادى ووقفته فى تحفز . . ولكن لم تكد تلقي نظرة على ما فى يده . . حتى جلا الامر كله . . وأصبحت عاجزة عن التلفظ بأى مقطع من مقاطع الكلام . . ومد الشيخ بالرسالة . .

- وكانت رسالة غرام - وهو يصيح :

-ما هذه . .

نظرت اليه فى غيظ مكبوت . . وحاولت ان تتكلم إلا أنها غصت بالبكاء . .

وسكت الرجل برهة من الزمن . . ثم أخذ يتمتم . . ويغالي في التمتمة . . حتى عثر على مبتغاه وإذا هو يردد : " فاجلدوا كل واحد منهم مائة جلدة" وتحركت كفه الغليظة لتصفعها صفعات متتالية بدون انقطاع . . حتى طرحها ارضا . . وأقسم ان يجعلها رهينة المنزل وشواغله . .

كانت الفتاة فى غيابة سجنها الجديد تقضي حياة " روتينية " ثقيلة . . تبعث فى النفس الملل واليأس . . فلا تتكلم بغير بكاء . . ولا تصمت بغير شرود . . فتلاشت أمانيها فوق عتبة العدم . . ولم يعد لديها أى بصيص من الامل فى الانفراج . . والخروج من هذه الاجواء المخنقة . . التى تشمها يوما بعد يوم . .

وذات مساء استلقت على فراشها وفتحت النافذة لتتمتع ببهاء الحديقة . . وقد بعثت الشمس بأشعتها الناصعة على الكون . . فكشفت عن ملامح الالم فى وجهها اذ بعصفورين يحطان على فنن من أفنان شجرة . . فما كادت تراهما حتى أحست بشعور غريب . . واجتاحتها موجة الذكريات . . وتمنت لو كانت حرة طليقة مثلهما . . فاغرورقت عيناها بالدموع . . واجهشت بالبكاء . . ثم أسبلت جفنيها كأنها لا تريد ان تتدخل المرئيات بينها وبين ما تتذكر حتى لا تمحو شيئا . . وكأن هذين العصفورين إنما بعثهما اليها القدر ليوقظا فى نفسها الشعور بالامل . . فبقى عنقها مشرئبا اليهما . . وقد ولدت على شفتيها ابتسامة العذارى . .

قضت الفتاة مساءها وليلتها وكأنها جالسة على شوك القتاد . . لا تكاد تمتد على الفراش حتى كأنها تحس وخز الابر . . فتنهض . . وتجلس لتقضم أظافرها . . ولتزيح ذوائب شعرها الاسود القاتم عن جبينها الناصع . . فعلت كل ما يمكن من حركات القلق والحيرة . .

وينطلق الفجر جريئا يريد أن يمحو سقم الليل . . وتشرق شمس الصباح . . ويخرج الشيخ يبحث عن الفتاة . .

لقد كانت بثوبها المبتور . . وشعرها الغزير . . وصدرها الواضح النتوء . . كانت في هيئتها تلك أكثر أنوثة من مجرد صبية عادية . . وإن كانت ملامح الطهارة والبراءة قد بدت على وجهها . . قضت ساعات وهي تجوب الطرقات كمن أسقط به من السماء الى متاهات الدنيا الشاسعة . . كانت كالمخبولة . . ليس لها طريق مقصود تتجه اليه . . وبدأت تقف بين الفينة والأخرى وكأني بها تشكو علو كعب حذائها الذي يضايقها فى خطواتها . . وفجأة . . ما هذا ؟ . . لقد سمعت صرخة . . أحل صرخة حادة شقت مسامعها . . أتراها واهمة ؟ ! . . أهناك من يطاردها ويريد اللحاق بها ؟ . . وتكررت الصرخة ثانية وثالثة . . لكن المرة الاخيرة لم تكن مبهمة بل كان نداء واضحا . . كان نداء باسمها . . لقد أحست يقشعريرة . . أحست أن الصوت ينفذ فى مسام جلدها ويسرى فى دمها . . كأنه ضربات سياط تستحثها على الرجوع . لا بد أن يكون والدها ذلك الشيخ المتزمت خرج للبحث عنها . . ويحها لو يعثر عليها . . سوف يقطعها إربا إربا . .

وما هي إلا دقائق من الشرود والذهول . . حتى تنفست الصعداء . . وجرى الدم في وجهها الشاحب . . لقد لاح لها من الشارع الكبير حبيبها سمير .. ذلك الذى عرفت الحب على يديه . . بما فيه من لذة وشقاء . . فرح وألم . . دموع وضحكات . . فما كاد الحبيبان يصل بعضهما الى بعض حتى انقضا يتعانقان . . وأحست الفتاة بنشوة غامرة . . وهى تراه يسأل عنها . , ويذكرها بالماضى . . لكن سمير أحس بالكثير من الحرج والضيق . . وخيل اليه ان الانظار قد باتت تتطلع اليهما أكثر مما تتطلع الى أبطال المسرح لو كانوا من هواته . . فأمسك بيدها وراح يبحث عن خلوة ليناجيها فيها ويفضى اليها بأسرار الضمير . . لكن ليست كل مرة تسلم الجرة . . فها هو انسان يتبعهما وساقاه متثاقلتان كأنهما قد شدتا الى الارض بالاثقال . . ورغم ذلك فهو يسرع ويثابر فى السير . . ويجاهد فى التقدم جهاد المستميت . . كان لا يتلفت الى الوراء أبدا . . وبصره ممتد الى الامام كأنه سيدرك شيئا عزيزا . . انه يتبعهما بعينين مجنونتين . . وقدماه تكادان تخونانه . . ويكاد يقع على وجهه . . لكن مهما يكن الثمن فهو واصل . .

إن المطارد هو الشيخ! . .  أجل هو بلا ريب . .

وصل الشخصان الى الملهي . . وكان يعج بالناس عجا . . لكن ذلك لم يمنعهما من الدخول . . أما الشيخ فقد كاد يختنق . . وأحس أنه عاجز عن التنفس . ولشد ما اغتاظ وهو يرى ابنته تدخل ملهى مع رجل غريب يدا في يد . . وتمنى لو كان أسرع مما هو عليه . . غير أن السبعين عاما قد حالت

دونه ودون ما كان يتمنى . . وبقيت عيناه لا تفارقان المشهد ولو رمشة عين . . تسللت الفتاة وحبيبها الى دهليز حيث توجد بعض الغرف الخاصة . . ودخلا احداها آمنين . .

لم تنعم المسكينة فى طفولتها بحنان الأم . . إذ لم يكن القدر بوالدتها رحيما . . فقضت نحبها وتركتها فى الخامسة من عمرها . . فكانت طفولتها قاسية جافة . . تركت في نفسها عقدة نقص . . ورأت ان الفرصة سانحة لتعوض ما فقدته من الحنان . . الحنان الطاهر بالحنان السافل . . فارتمت بين أحضان سمير . .

وصل الشيخ الى الملهى وقد أضناه السير . . وأخذ يقتفى الأثر . . كانت الغرف كلها مفتوحة ما عدا واحدة علا جوانب بابها الصدأ . . حتى ليخيل للعيان أنها لم تفتح ولو مرة واحدة . . وبدون أن يشعر ركل الباب ركلة فتحته على مصراعيه . . ودخل . . دخول الموت بدون استئذان . .

- كلا . . كلا . . أبدا . .

وصاحت سلمى وقد أمسكت رأسها بكلتا يديها:

- آه من نفسي . . آه من أحلام اليقظة . .

وحاول الشيخ ان يجمع ما تبقى لديه من الرشد والشجاعة ليحدق فى وجهها . . وليتذكر أن سلمي هي وحيدته فى الحياة . . لكن ساعة البلاء كم يقولون لها غفلة . . فها هو قضيب سميك قد وضع خلف الباب . . فتناوله وقد اسودت الدنيا فى عينيه . . ولم يعد يفقه ما يفعل . . وانهال على سلمي بكل قوة وبذلك انتهى الفصل الاول . . وانتهى الفصل الثاني بأن تركهما جثتين هامدتين لا حراك ولا نفس لهما . .

عاد الرجل أدراجه الى المنزل . . وقد سيطرت عليه الأوهام والهواجس . . وفجأة انتابته اختلاجة ورعشة غير عاديتين . . حين سمع هتافا لم يعرف مصدره يردد له فى أذنيه . . أنت الجاني .

اشترك في نشرتنا البريدية