ساعة تدق ، قطرات ماء تنقر الأرض ، صرير النوافذ والابواب على إثر هب الريح ، وقطة تموء مواء متقطعاً .
- هكذا تبدأ الحكاية . .
- إنها حكاية تبعث على الندم ككل الخطايا . . . الغرفة الاولى مربعة الشكل ، جدانها بيضاء ، لها نافذة كبيرة مفتوحة على الشارع ، تحجبها ستائر شفافة ، في الوسط طاولة عليها أسطوانات مكدسة ، حول الطاولة أرائك قديمة ، على إحداها معطف أسود ، خلف المقاعد طاولة صغيرة عليها ساعة وبجانب الساعة إطار لصورة تمثل إمرأة ورجلاً ، المرأة تعانق الرجل متسمة والرجل يقبل جبينها . . أصوات متداخلة واضحة تارة وغامضة تارة أخرى تتسرب من الشارع :
- يجب أن نعود.. - ومع ذلك انتهى الموعد .. - لكن يجب أن نذهب..
- انتهى الموعد . . هل تفهم ؟ هل تظن أنه سيكون لحضورك معنى بعد فوات الأوان ؟ ..
- إننى لا أتحمل ذلك ...
على جدران الغرفة صورة زيتية لطفل يأكل تفاحة وتقابلها صورة أخرى لغروب الشمس على البحر الشاسع . باب الغرفة يفتح داخل رواق يؤدى إلى بقية الغرف . . أبواب الغرف مفتوحة . . الساعة لا تنفك عن الدق وقطرات الماء تتزايد شيئاً فشيئاً وتحدث موسيقى عنيفة متواصلة ، خشب النوافذ يصرصر ، وتئن القطة فجأة فى انزعاج ، الريح المتدفقة من النافدة تعبث بوريقات أخذت تتسرب للرواق . . .
- هل شبعت البارحة من البطاطا ؟ - إنى لم آكل ولو قطعة واحدة . - لماذا ؟ هل تشاجرت مع زوجتك ؟ - لا ... بل لأن ...
الغرفة الثانية مستطيلة الشكل ، فى جانب منها سرير نوم لشخصين ، تغطى السرير ملحفة بيضاء مزخرفه بورود مختلفة الألوان ، حول السرير منضدة عليها أدوات زينة وعلب مساحيق ، إنتصبت خلفها مرآة عريضة .. مقابل السرير إطار يحوى صورة لامرأة ورجل ببدلة الزواج وخلف الغرفة كرسى عليه ثياب إمرأة مكدسة ...
القطة تموء ، والماء المتساقط من السقف لا ينفك عن الانصباب ويتسرب الى الرواق ويغشى الارض . . الريح تشتد ، حفيف الاوراق المبعثرة يشتد وتتطاير الاوراق فى الرواق ...
الغرفة الثالثة قاعة أكل ، فى وسطها طاولة مستديرة ، يحيط بها ثلاثة مقاعد ، فوق الطاولة صحنان وفى كأس زهور ذابلة ، فى القاعة خزانة اصطفت فوقها آنية للأكل وكؤوس . . على الجدران بعض صور لفواكه متنوعة ...
- لن نبقى تحت رحمة هؤلاء السادة الذين يحكمون العالم ...
- أجل . . إن مصيرنا مرتبط بمصيرهم . . ليت التاريخ يصير للجماعة لا للأفراد . . .
فى نهاية الرواق درج . . الدرج مبلل بالماء ، يؤدى الدرج إلى الطابق الاعلى ، الطابق الاعلى يحوى ثلاث غرف ...
الغرفه الاولى مربعة الشكل ، واسعة ، فيها مكتب وحول المكتب رفوف اصطفت عليها كتب ومجلات ، أوراق مبعثرة فوق المكتب ، نافذة المكتبة تفتح على الجانب الخلفي للشارع ، فى الجانب الخلفي للشارع وقف رجل وامرأة يتبادلان القبل فى ركن مظلم ...
- سنبقى دائماً معاً . . . - سنعيش للحب.. وسنقول إننا أحببنا الحياة.. - أجل أحببنا الحياة . . .
يصرصر خشب النوافذ ، ويتقاطر الماء بعنف على الزليج والخشب ، وتعصف الريح ، ويتكاثر حفيف الاوراق . . وتموء القطة تحت الدرج في ركن مظلم..
الغرفة الثالثة ضيقة ، جدرانها مزخرفة بأشكال هندسية باللون الاسود ، متشابكة ، غامضة . . فى وسط الغرفة كرسى . . وفي نهاية الرواق الاعلى غرفة استحمام ، مفتوحة الباب ، يتصاعد منها البخار ، الماء يتسرب خارج الغرفة بتدفق ويسطو على سطح الرواق والدرج ، بجانب حوض الاستحمام علبة صغرة مفتوحة ، فى وسط الحوض امرأة مستلقاة ، عارية الجسم ، فاغرة فاها ، عيناها تحدقان للسقف بلا إنقطاع ، يداها متدليتان على جنبى الحوض وبالقرب من الحوض ورقة مبللة كتب عليها باللون الاحمر :
" إنني لا استطيع تحمل الحياة . . فضلت أن أنسحب . . أحبك جداً . . "
الماء بلا انقطاع . . تموء القطة مواء حادا ، تتناثر الاوراق في الرواق ، تصفع الريح النوافذ المفتوحة ، ينصب الماء على الزليج ، على الورق ، على الأثاث . . وتموء القطة مرات متوالية . . تموء فى ثلاث غرف بالطابق الاسفل وثلاث غرف بالطابق الاعلى وجثة إمرأة عارية تحدق إلى السقف . . .
ى . ح . جندوبة 16-10-1970
