. للجوع حرقة نفسية لذيذة في كل نفس يسمها الله به ، رضي عنها او رحمة بها او اشفاقا عليها .
والجوع يلوع كل نفس ، حتى نفوس الاغنياء والعظماء عندما يضربهم السفر بوعثائه ، او يتأخر عنهم الطعام لاسباب اضطرارية ، فأي انسان لم يذق فى حياته - ولو مرة واحدة - تلك الحرقة النفسية اللذيذة .
وافضل مخلوق نفخ الله فيه من روحه ، وبرأه بيده هم الانبياء والرسل ، وقد انعم الله عليهم بضروب شتى من الجوع على مختلف شكوله ، وكان من اهون ما الم بهم وخامرهم جوع البطون !
وجوع البطون عند اهل العقل الكامل من الرجال ، هو احقر الاجوأع واتفهها واجدرها بعدم المبالاة وان افضى الى الموت الوشيك
ويا رحمتا لأولئك الضعفاء المترفين الذين بتناولون وجبات طعامهم في مواعيد محدودة فى صنوف معينة . يا رحمتا لهم ، فانهم ضفاء مترفرن ، لا يدركون حلاوة اللذة التى منها يحرمون ! والاجواع انواع
فمنها - بالقياس الى الافراد - الجوع النفسي ، والجوع الذهنى ، والجوع القلبى ، والجوع العصبى ، ومنها - بالنسبة الى الحواس - الجوع النظري والسمعي الخ .
ذلك غير الجوع في الشعوب والامم ، وهو جوع يتحدر اليها من اعمق اعماق جذورها ، ويتغلغل في دمائها على كر العصور ، وما احسب ان هناك انقلابا تاريخيا او حدثا ذهنيا ، او فتحا علميا او انسياحا من اقليم الى اقليم
او موجة بشرية من شعب الى آخر الا وهو يصدر فى اخفى ينابيعه وادق اسبابه عن جوع عميق عميق .
والجوع فردى بالنسبة الى الفرد ، ولكنه بالنسبة الى الامة مجموعات من الاجواع ذوات انواع ، تختلف وتأتلف ، وتتباعد وتتقارب ، وتتضاد وتتحد ، حتى تتغلب على الجميع اغلبها سمة ، واقواها عنصرا وابرزها اثرا ، وامضاها الى ما تريد قدما فاذا بتلك الامة تهدر بفيوض من الحيوية وتحبيش بضروب من القوة التى تمليها الحاجة الملحة ، واذا هي تنساب او تندفع الى ما حولها . . كذلك فعل الهكسوس واليونان والرومان والعرب والغال والتيوتون والسلاف ، وغيرهم من الامم التى اسبغ عليها الجوع نعمة القوة ، ودفعها الى بلوغ الحاجة والتزود بادسم الازواد واغناها فى الحياة .
ولما كانت الحياة تدافعا وتنازعا ، احلت السرقة للجائع في اغلب الاديان والقوانين بما يكفى لاشباع شهوته الصحيحة ، ما لم يبلغ به جوعه الى التهالك والاعياء .
انظر الى الجوع الذهنى تالله ما اعجبه وأروعه من جوع جميل ! ذلك لانه جوع القرائح والاذهان ، جوع العقل الفياض ، الذي ينشد الاحتكاك بالعقول الفياضة ، ولا يشبع ولا يمل المزيد .
لسنا ندرك سر هذا العقل جرما او جوهرا ، ولا نعرف اين يتبوا عرشه من رؤوسنا او قلوبنا ؟ ولكنا نعرفه اتم المعرفة باثره الذي لا ينقطع ، ومعينه الذي لا يغيض .
ان الانسان ) الكامل ( ليقرأ ويقرأ ، ولا يجد من نفسه منصرفا عن القراءة ، فكلما تفتح له افق جديد طمحت عينه الى ما هو اجد وأفسح وكلما بلغ ذروة من العلم تشوف الى ما هو اعلى وارفع ، وما يزال يسعى ويسعى . وضروب المعرفة امامه تتسع وتتنادح ، فما اشبهه - لله دره - بمطارد الخيال او مسابق الظلال ، لولا ما يجد من انفساح نفسه وامتداد افقه ، واكتظاظ ذهنه بالاذهان ، وارتفاد عقله بالعقول . العقول القديمة والحديثة التى سعت مثله
والحت فى الانصلات ، وافرطت فى جوعها ونهمها ، الى ان انقطعت بها خبال الآجال . ماذا بلغ ارسطو ؟ وماذا ادرك فاوست ؟
كل شىء لا العلم وحده - محيط لا تتلاقي عليه العيون ولا ترتوى منه النفوس ، ولا تحد منه الافاق . " ان استطعتم ان تنفذوا من اقطار السموات والارض فانفذوا لا تنفذون الا بسلطان " .
صدق الله العظيم ! ان الانسان لا يستطيع ان ينفذ من اقطار نفسه ومطامعها وآرابها ، فما بالك باقطار السموات والأرض ؟ هذه النفس الانسانية الجائعة المنهومة دائما وابدا .
تجوع الى الرخيص والى الغالى ، وتتشوف الى الحقير والعظيم ، وتريد اقبح الاشياء كما تطلب اجملها ، ولا تشبع من كل ذلك على السواء . لا تشبع الا من التراب ، وصدق الصادق المصدوق الذي قالها ، فما اعظم هذه النفس ، وما احقر مآلها

