القارئ في هذا العصر تمر على مخيلته مئات الموضوعات ، فيتببدد اكثرها بعاملين هما طول الزمن وعرضة ذهن الانسان للنسيان ولهذا ندر ان تجد ذلك الموضوع الذى يبقى محفوظا فى خزانة هذا الذهن المكدود . واتذكر ان من هذا النادر الذى احتفظت به مخيلة كاتب هذه السطور مقالتين قيمتين ، كنت طالعتهما على التتابع فى مجلة (( المقتطف )) منذ سنوات عديدة حبر أولاهما الاستاد عباس محمود العقاد وجمل عنوانها وموضوعها : ( أومن بالعلم ) وحرر ثانيتهما الاستاذ المرحوم مصطفى صادق الرافعى ، وجعل عنوانها وموضوعها : ( أومن بالدين ) وكنت وما زلت ارى ان غرض الكاتبين شريف ونزيه واتجاه كل منهما عال حميد فالذي حداهما كليهما الى امتشاق اليراعة هو الباعث النفسي الكريم لانهاض هذه الامة من اغفاءتها كل من الناحية التى يهيم بها ويجيد فيها فالعقاد كاتب اجتماعى يتعشق العلم وتشوقه مباحثه ويرى ان السموفيه هو وسيلة الوسائل لاقتناص نسر )) المجد المحلق فى الاجواء والرافعي كاتب دينى موهب يرى فى الدين اكمل الوسائط للتقدم والارتقاء وهو مغرم بمباحثه لذلك وداعية مجيد لورود حياضه العذبة السلسبيل والحق يقال انه متى استضاء الشعب بمصباح الدين والعلم فهناك استعد الاستعداد الناجح لتسنم ذرى الكمال
وها انا اليوم جئت لاقول للقراء اني اصبحت أومن بالصناعة بعد الايمان بالدين فمتى كانت الامة دينية راشدة ذات اخلاق سامية وعقول ناضجة ، ونالت من الصناعة الحديثة الحظ الوافر واعنى بهذه الصناعة الحديثة ان تكفي الامة نفسها مؤنة نفسها فتستغنى عن الخارج بقدر الامكان بما تنتجه من الصناعات الضرورية والكمالية التى تكرس لها جهود افرادها وجماعاتها كانت الامة صناعية هكذا
فان عرنين المجد يتطامن لهيبتها وان اباء العلا يذل لرغبتها . . اما هذه العلوم النظرية البحتة من ادبية وفلسفية فهى من الكماليات بمعنى انها لا تقدم الامة التقدم الفعلى فى هذا العصر ولا يجديها نفعا إذا حزب الامر او تنافر الاقران بحق لقد بدت لى هذه الفنون حواشي جميلة على هوامش الحياة الخاملة الناعسة وبحق بدت لى الصناعة لب النهوض الفعلى والتقدم الواقعى الذى لا يدفع بالقيل والقال ب بك قل لى هل فى مقدرة خطرات الادب المرفرفة ان تحرك (( موتور )) الحياة الهائل ؟
وهل فى مكنة نسمات الخيال الخصب اللطيفة ان تسير (( دولاب )) المجد الضخم العملاق ؟ ! لا ريب ان تخلف من تخلف من الامم المتباهية بشيوع الآداب القولية في مضمار الحياة اليوم يرجع الى هذا الهيام بعالم الادب الخيالى الجذاب ولا ريب ان تقدم من تقدم من الامم المتقلدة باوسمة المجد الصناعي الحديث الزاخر بالابتكار والاختراع وكثرة الانتاج يعود الى هذا الفكر العاقل الذى ادرك بثقوب نظره فى اغوار الحياة الحاضرة والماضية أن العصر اليوم عصر صناعى آلي لا يبرز فيه المرء الا بمقدار ما عملت قريحته وادواته من صناعات هائلة تدعو للاندهاش وتذلل مرافق الحياة .
فالامة اليوم مهما كان ماضيها العلمى متلألئا بنجوم الادب والفلسفة ، فانها اذا اكتفت بذلك ولم تقدر الحقائق الاجتماعية حق قدرها فان مآل حالها الى تعاسة ، وان مصير مجدها الى افول وسقوط . والامة اليوم مهما كان ماضيها صفرا من كواكب الخيال اللامعة وشموس العلوم النظرية الساطعة فان هذا غير ضائرها قطميرا اذا هبت من سنة النوم والخمول واشرأبت باعناقها الى الصناعه تنميها بين مواطنيها وتحييها وتذيعها فى مدنها واقاليمها .
وأنت ترى بعينى رأسك تأخر الأمم العربية في هذا العصر ، وانت تعلم مع ذلك من تاريخها الذهى الناصع انها امة العلم والحضارة والرقي الفكرى البالغ وترى
يعيني رأسك أيضا ضمور أمة اليونان مع عراقتها فى المجد الادبى والعلمى ومع خصب تربتها وانتاجها فى غابر القرون لاساطين الفلسفة والادب والخيال ، كما تشاهد بنفسك عن كثب ، تسنم امة اليابان ذرى المجد فى حضارة العصر الحاضر بسبب نهضتها الصناعية الباهرة ، برغم خلو سمائها من ألماسات الادب الذائع والفكر الخيالى السيار !
وما قدم أمم الغرب حين جد الجد ؛ وما اجدى على اليونان حين دوى صوت النذير ، وما اغاث الصين حين وقعت الواقعة ، اسفار ماضيها النظري ، الجميلة وما أخر اليابانين ، وما أوقف تقدم الامريكانيين ؛ اقفار تاريخهم القديم من الاسماء اللامعة فى علوم الادب والفلسفة والخيال . . فانت اذا دققت النظر فى كل هذا ، واعملت الفكرة فى كل هذا ، ونظرت الى الحقائق المجردة من خلال (( مجهر )) الانصاف والتقرير للواقع الذى ليس له من دافع ، انساقت امامك البراهين ، تلو البراهين ، على (( شاشة )) المحسوس ناطقة لك بصوت واحد : -
(( المجد للصنع ليس المجد للقلم وانما القول للمصنوع كالخدم
واذا اصغيت لهذه الحكمة الرائعة من فم الزمان ؛ فحينئذ تؤمن ايمانا حسيا بالصناعة وتعترف لها بالتقدم على اليراعة ، وتعلن على الاشهاد بان الامة اذا ازمعت بنيان بروجها المجدية الشامخة فلتحتضن الصناعة احتضانا كليا ؛ مزيحة عن خلايا أدمغة ابنائها تقديس (( الادب )) وما يمت الى الادب بصلة من الاقوال الجوفاء التى تثير البغضاء والشحناء وتدعو فيما تدعو اليه الى الاعجاب الفارغ والادعاء الفارغ والاعتداء الفارغ بالنفس ، والفكر والرأى ، وانا لهذا قد صرت أومن بان لهذا الادب حدودا مرسومة فى نهضات الشعوب ، فادا وقف الادب عند هذه الحدود ولم يندفع الى ما وراءها فهو نعمة من نعم الله ، يوقظ بها أفكارا نائمة ، ويسمع بها قلوبا غلفا ويفتح بها ابصارا عميا ، واذا تخطاها واندفع بجامليه الى ما وراءها فقد ورطهم فى اسلاك شائكة ؛ اذ أدخل نفسه فى دائرة غير دائرة
اختصاصه ، ولذا لا غرو إذا تخبط بهم تخبط عشواء فى ليلة ظلماء ، وكان لهم حاطب ليل وجالب ويل . . . اما هذه الحدود فتتلخص فى وقف الادب نفسه على توجيه الامة الصالح فى بدء النهضة ووضع مواهبه تحت تصرف هذا المبدأ حتى اذا هيأ الافكار اخلى الميدان للعاملين ووقف من بعيد يعزف لهم بقيثارته مشجعا لهم ومخلدا جهودهم وباعثا روح التضامن فى صدورهم . هذه حدود الادب الطبيعية فاذا تجاوزها اصبح أدب الشغب والتعب والمشاكل . . فالادب على هذا وسيلة لا غاية ، ومقدمة لا نتيجة ، ومبتدأ لا خبر ، ومتى نصب الاديب نفسه هكذا فقد أفلح وانجح ؛
ومتى ترفع وتنصل عن هذا المبدأ فقد ضل سواء السبيل وضاعت عليه معالم السمو والسداد ، وسبب من الاختلافات وخلق من المشاكل التى تعقب انحطاطا وتولد هبوطا وسقوطا فى العزائم ؛ ما لا يستطيع العدو الماكر اللدود ان يناله من خصمه الذى يتربص به الدوائر . . . لعل هذا الداء الادبى القديم فى هذا الشرق العظيم هو الذى جر عليه ادوار القهقرى التى هدت من كيانه فى تاريخه القديم والحديث ، ولعل هذا الداء الوبيل المتغلغل فى هذا الشرق هو الذى أوحى الى الاستاذ بقطر ذلك المقال النارى الملتهب الذى نشرته له مجلة الهلال منذاعوام بعنوان ( الشرق نكبته الادب ) فبحق انما عنى الاستاذ هذا اللون من الادب الغث المهلهل الاجوف الشاغل عن مطالب الحياة بطنينه ورنينه . . قل لي بربك اية أمة ناهضة من أمم البشر فى تاريخه القديم والحديث جعلت الادب غاية وأفلحت ؟ ! أو نهاية ونهضت انك اذا قلبت اسفار حضارة البشر تجد الجواب سلبا ، فغاية الادب بداية النهوض ورسالته التى يزهو بها تهيئة الافكار للاعمال مع الاحتفاظ بالوحدة والاخلاق الفاضلة ، عرف هذا الغربيون فتفوقوا وحلقوا ، ونريد ان يعرفه بنو قومنا لئلا يضيعوا اوقاتهم سدى فى استجداء كهام الادب . اننا بحاجة ملحة قبل كل شئ الى الصناعة الحديثة الجبارة التي تستند فى حياتها على الآلات الجبارة والتى تديرها الشركات
الوطنية والأيدى العاملة المخلصة والتى تستثمر لنفع البلاد ورخائها وهنائها ؛ وانعاشها واسعادها ؛ فبالاقتصاد ، يشاد مجد البلاد ، ولنا فى الشعوب المعاصرة التى بنت هياكل مجدها العظيمة على اسس شيقة من الصناعة اكبر برهان وأصدق دليل .
وانا اكتب هذا المقال ، وقد سرى الى القلب رسيس من بشاشة الامل والتفاؤل بمستقبلنا الصناعي الباهر فقد زرت بالامس ( ١ ) دار ( شركة التوفير والاقتصاد ) بمكة المكرمة فرأيت فيها من الآلات الفنية المرصوصة ؛ والانتاج الاقتصادى الجذاب ، والنظام الحسن المحمود ما اطلق لسانى بالثناء العاطر على هذه الزمرة من الشباب الحجازي الطموح الذى اضطلع - وفى طليعته سعادة الاستاذ محمد سرور الصبان - بهذه المهمة الاقتصادية النبيلة التى تعد بحق لبنة طيبة من لبن صرحنا الاقتصادى فى المستقبل ، معتمدا هذا الشباب بعد الله سبحانه وتعالى على سواعده وكفاحه ، متطلبا بكليته الى تشييد المجد الاقتصادى فى هذه البلاد المقدسة على اسس رصينة من الصناعة الحية والتوفير والاقتصاد .
