- قليبات سخان . . . ما تلقاش سخون ما تدفعش فلوس . . . راهو يوشوش !
يد صغيرة تحرك بخفة ونشاط حبات " القلوب " السوداء ، الاصابع الماهرة تملأ غطاء قارورة - فى شكل كأس - من قعر قفة قديمة - بتلك الحبات _ لتوزعها على المتجولين المسرعين . . الفم الصغير اليابس يصيح مبتسما والحركة والازدحام كأعنف ما يكونان .
يداه متعبتان بين القفة والكأس والوجوه . . . ذهنه منتبه لطرفي الشارع العريض والمليمات الممدودة . . . وفى عينيه ينام التعب والارهاق والالم والخوف .
بدأت الاضواء النهارية تهرب وراء الافق الاحمر ولفت الفوانيس العمومية الشارع والمغازات والمتجولين بضوئها الابيض الساطع . وتضاءلت - شيئا فشيئا - بضاعة الصبى حتى لم يبق منها الا حبات قليلة ممزوحة بذرات بيضاء من الملح .
احتضن القفة مبتعدا عن الازدحام ، وقصد قفة الخبز الكبيرة فاشترى من صاحبها خبيرة وقطعة من الشكلاطة ، واتجه الى نهج صغير فجلس على عتبة احدى العمارات وتعشى . . . ثم أخرج من جيبه عقب سيجارة كريستال واشعلها فأضاء ركنا من النهج المقفر . "بقيت مشردا مدة طويلة آكل من فواضل المزابل وها انى قد صورت مصروفى بعرق الجبين . . اننى " خشين " فى أول يوم من عملى .. "
نفث الدخان بقوة من فمه وانفه - فى آن واحد - وتحركت شفتاه تتر نمان بصوت متكسر النبرات ، واضاء وجهه فى الظلام بالرضا والسعادة . . . وفرك
اصابعه ونفخ فيها استعدادا لعد (( مصوار )) يومه لكنه ما ان اخرج القطع البيضاء والصفراء من جيبه حتى امتدت يد غليظة الى عنق الصبى تهزه هزا . ودوت صفعة قوية تلتها اخرى .
- هات الفلوس يا فرخ . . . و رول
لم يتكلم الطفل . . . لم يصرخ . . . لم يستغث لان كل شئ كان ساكنا ، بل حاول بكل قوته ان يرجع ربح يومه الى مخبئه الاول . . اراد ان ينفلت من قبضة الجبار . . . لكن اليد العملاقة أمسكت معصمه وكادت تسحقها سحقا . وافتكت منه كل شئ .
انقض الطفل على اليد الغاصبة ونهشها . . .فضحك الصعلوك ، وتناثر بصاقه وتتالى سبه وصياحه عاليا . ولطمه لطمة الصقته الارض وابتعد شبحه فى الظلام الى ان ضاع فى الليل .
ورفع الطفل المنهزم راحته الى فمه . . . تأملها . . . انها حمراء . حاول الوقوف فشعر باعتبار ودوار واغماء . . . سقط على الارض ، اختنقت انفاسه . . . احتدم صدره . . اجهش بالبكاء ونزلت دموع ساخنة على وجنتيه الذابلتين ممزوجة بلون الدم .
النهج مظلم مقفر ساكن الا من بعض المارة واليأس يلفه من كل جانب . اخفى رأسه بين يديه . . . سحب القفة تحته وجمع عظامه الهزيلة كومة صغير والتصق بالجدار . . . وسرعان ما ناداه النعاس فاحتضنه بين ذراعيه فنام . . .
أفاق مذعورا فى الظلام ليرى يدا اخرى تلمس كتفه الا انه هدأ متسلما قطعة بيضاء من النقود .
ناداه النعاس من جديد فاغمض عينيه ولف رأسه الاشعث فى بحر من الاحلام فابتسم وجهه الاصفر الاحمر ابتسامة تائهة حزينة
وطلعت خيوط الصباح الوردية متسللة عبر الافق لتضئ الكون الناعم ، فجر الطفل جسمه الهزيل المرتعد جرا قاصدا الشارع الغنى واجتاز بابا حديديا كبيرا غص بالناس والعربات وشاحنات النقل الخفيف .
تعالت اصوات البائعين مادحة الخضر والغلال بكل النعوت وازدحمت السوق بالحمالين والهباطة وبائعى التفصيل فتسلل الطفل بين الارجل ضائعا حتى وصل امام حوض كبير من الماء . نزل الماء من الحنفية على رأسه غزيرا لذيذا دافئا وفركت اصابعه شعره الاسود الفاحم بخفة ومهارة . ونزلت المياه نحو الثقبة الكبيرة بيضاء - حمراء - سوداء . فى آن واحد . وفتح عينيه بعد ذلك فرأى الماء ينساب ثلجى اللون .
انتصبت امام عينيه الصافيتين قمم عالية من البرتقال واكداس من التفاح واهرام من الموز ففتح خياشيمه وسبح فى رائحة الحياة الصباحية وشعر بارتعاشة لذيذة تهز كامل جسمه الا انه وضع يديه على بطنه الخاوى وتذكر انه جائع .
حملقت عيناه فى كل جانب وناداه كدس التفاح فانقض على تفاحة كبيرة وردية شهية وخطفها . . . غرز فيها اسنانه . . . قضمها بقوة . . . تحرك لسانه . . . ارتعشت يداه وازدررد القضمة الاولى بلهفة غير مصدق انتصاره السريع .
رأى باستغراب تفاحته تفتك منه ولم يفق من غيبوبته الا على صفعة لمعت لها الاضواء ورقصت - امام عينيه - وتعالى السب والصياح : (( سارق . . تفاحة . . صباح . . ملقوط . . )) ورأى كما يرى النائم اجساما ضبابية حوله وايادى متشابكة ممسكة به . واختلطت الاصوات والالوان واضطر بت واخيرا سكت كل شئ حوله .
