اللغة العربية خالدة ، وعناصر خلودها قائمة في ذاتها ، وكل الذين يحاولون هدمها ، انما يهدمون انفسهم ، فهى أبقى من الدهر واثبت من الجبال .. ومثل الذين يحاولون أن يحلوا اللغة العامية محلها كمثل الذى يحسب انه قادر ان يزيل الشمس ، ويضع بدلا عنها شمعة عجزت ان تضئ ما يقطن فيه من رحم ، وفي زعمه انها اسطع من الشمس ، وأشدمنها اشراقا ..
ونحن هنا نوالى نشر الكلمات التى جاءت في الردعلى امثال هذا الكاتب وكشف خفايا السطحية التى تدفعه الى اذاعة ما يذيع ..
التطور المفلت هو تطور أصوات العامة بالكلمات وتراكيبها ، دون قيد أو شرط ، ودون مراعاة الاصلح ، والتزام مخارج الاصوات واصول قواعدها أى هو تطور متروك للانقلابات السياسية ، والاحداث الاجتماعية ، وتسرب رطانات اللغــــــــات الاعجمية من هنا ومن هناك الى أوساط العامة .
هذا هــــو التطور المفلت ، وأقرب صوره وأوضحها لمرآة أفكارنا هو تيارات الميــــاه المفلتة التي تتحكم مجاريها عـــــلى طبيعة الارض ، دون مراعاة الاصلح للافادة ..
ولكن لما تقدمت الامم بالمعــــــــارف والحضارات لم تترك الميـــــاه تجرى مفلتة سبلها .. بل أقامت في وجهها السدود
والخزانات ، وحفرت لها الترع ، وعينـــت لها اتجاهات الرى .
فعلت ذلك طلبا لنمو الافادة منهـــا ، وايثارا لازدهار حياتها الاقتصادية ، وتامينا لرخاء العيش للجميع ..
ومثل هذا : تجد الفارق بين اللغات العامية المتروكة تطوراتهــــا لمجارى لهجات العامة المفلتة .. وبين اللغات الفصحى المقيدة تطوراتها باصول المصلحة والنظام ومعارف الحضارة الصاعدة .
انظر كيف طغت تطورات اللهجات العامية المفلتة عــــلى اللغة اللاتينية الفصحى التي كانت تشمل : فرنسا وايطاليا واسبانيـــــــا ورومانيا والبرتغال ، بمقتضى وحدة الحكم الروماني الجامع ..
أى كانت اللغة اللاتينية هي لغة العلم والادب والفن والتعليم لاوروبا قبل طغيان تطورات اللهجات العامية المحلية المفلتة من اصول اللغة اللاتينية الفصحى وقواعدها .
وكان من نتائج طغيان اللهجات العامية السيئ عليها ، انهدام الوحدة اللغوية في أوروبا بين شعوبها ، وتبعها انهدام كــــل الوحدات التى كانت مرتكزة عليها ، والتى من أجل اعادتها ، كان يعمل المصلح الفرنسى الكبير (( ديكون )) ..
وكان ضياع الوحدة اللغوية أكبر خسارة خسرتها أوروبا على الاطلاق ..
ولو كانت التطورات التى دخلت عـــــــــلى اللهجات العامية في أوروبا في حدود القواعد والاصول التى تفرضها المصلحة الجماعية العليا ، والتقدم اللغوى العام في اعراض
اللغة الفصحى ، لا في اصولها بالذات ، لما كان ذلك الانهدام الفادح ، الذى نـــزل بالوحدة اللغوية الاوروبية ولا كانت تلك الخسارة المميتة التى يستحيل أن تعوض بثمن ، والتى كان من أثرهــا تفاقم نفوذ العالم الجديد عليها ، وتحكمه في اقتصادياتها واتجاهاتها السياسية .
ولا يعلم الا الله ما يكون الحال في المستقبل أمام نشوء الوحدات السياسية الكبرى في العـــالم ، اذا بلغت رشدها الحضارى ، واستوت على قواعد العلم ، وتسلحت بعدد الذرة والهيدروجين ، وخندقت على سطحى القمر والمريخ .. وردت أوروبا الى حافرتها ، واضطرت كل حكومة من حكوماتها الى أن تبذل كل امكاناتها من أجل الحفاظ على لغتها الفصحى التي حلــت محل اللغة اللاتينية ، وايقاف تطورات الاصوات المفلتة من ضوابط الاوساط المثقفة .
.. بذلا لو قدموا عشر معشـــــــاره ، للحفاظ على لغتهم اللاتينية الفصحى الاولى للتطور بها الى الحياة الحضارية الصاعدة ، لما أفضت بهم كوارث الاختلاف اللغوى الى ما أفضت اليه حتى غادرت أوروبا كسفينة ممزقة القلوع ، تطوح بهـــــا لجج الدول الكبرى الناشئة في العالـــــــم ، وتتحكم في مصايرها .
والآن وقد فطنت أوربا الى مشــــــــــاكل اختلاف اللغات في المجتمع الواحد ، وما يجر عليه من بلايـــــــا الانقسامات التى تقصمه قصما . فها هي ذي كل دولة من دولهـــــــا تحرص كل الحرص على وحدة لغتهــــــــــا الفصحى ، وحراستها من التمزيق والضياع بالاصول والقواعد التى تصنعها المجامع
اللغوية بتتابع ، وتفرضها وزارات المعارف في مناهج التعليم فرضا ..
ولو ترك الامر سهلا لكنت ترى لكل لغة من لغات أوربا الفصحى الحالية لهجات عامية عدة ، في استطاعتها أن تحل محلها ، وتميتها كما أماتت هي اللغة اللاتينية من قبل وحينئذ تصبح كل لهجة ، في كــل ناحية ، هي فيه اللغة الفصحى .. وهكذا دواليك ولا يستقر أمر الثقافة والادب ولا يثبت على مدى الاجيال ، وتضيع جهود الأدباء الفحول والعلماء الراسخين أدراج الرياح ، لأن التطور المفلت يجعل اللغة الواحدة غيرها من جيل الى جيل حتى يضطر الراغبون في دراسة أدبهم وعلومهم الى أن يترجموها الى لغتهم ذاتها ، كما تترجم الى لغة اخرى .. وحينئذ يفقد فن الاسلوب مجده الخــــــالد وتضيع جهود أهله في أعصار تطور اللغات المفلت ..
هذا الامر هو الذى يخيف الدول الأوربية المعاصرة ويجعلها تبذل الجهود الجبـــــارة والاموال الطائلة من أجل الحفاظ على لغاتها الفصحى .. خشية تمزيق التحويـــــــــل وافساده ..
خذ مثلا اللغة اللغة الفرنسية ، على ترامي أبعادها ، وسعة آفاقها ووفرة الشعوب التى تتكلم بها ، تحرسها المجامع اللغوية ، والثقافة الجامعية اللغوية وسواها بالقواعد والأصول والتمرين عــــلى مخارج الاصوات واطرادها خشية معاول التطور العــامي المفلت أن تهدمها ..
لذلك تجد تطورها في اطار الاصوات والقواعد المبوبة . وقل مثل ذلك في سواها
من اللغات التى اشتقت من اللغة اللاتينية . فالاهتمام هام ومطرد . وكل دولة تهتم بلغتها بمستطاع امكاناتها الواسعة .
ولعل اهتمام الانكليز بقواعـــــــــد لغتهم ومخارج حروفها (١) لدى كل الشعوب التى تتكلم بها في أمريكة وأفريقية يعزي إلى حذرهم أن يحل بلغتهم الفصحى ، ما حل باللغات الفصحى التى ماتت بتفـــــــــــاقم لهجاتها العامية المفلتة ، وطغيانها عليها دون أن تلاقي حراسا ايقاظا واعين يحافظون عليها في نطاق التطور العرضى النافع الحافظ لاصولها ، وهذا ما يصنعونه اليوم ..
ولو ان الدول الاوروبية لـــــم تنهض ، بلغاتها في حدود التطور المحصن ، باصول الآداب الراقية ، وقواعد الثقافة الواعية ، وحراسة المجـــــامع اللغوية الواقية ، التي تحفظها من أعـــــاصير التطور .. المفلت ، وضربات معاوله الهدامة لحل بلغاتهم بكل تأكيد ما حل باللغة اللاتينية من قبل . وأصبح التفاهم بين الشعوب المتكلمة باللغة الواحدة منهـــــــا مستحيلا كالفرنسية أو الانكليزية أو سواهما .
والمجتمعات البشرية المتحضرة تجدهــــــــا تعمل جاهدة لازالة حاجز التمزيق اللغوى ، وتفاقمه بين أقاليمها .
ولن تجدها تعمل لخلقه واثارة ويلاته ، وتمكين حواجزه شأن بعض السطحيين المدفوعين على غير علم منهم ، لهدم وحدة لغتهم العربية الفصحى الجامعة .. والحمد لله لم يتجاوزوا الواحد في المليون ..
ويا ليتهم يعلمون أن الشعوب المتحضرة تبكى كثرة لغاتها ، ومتاعبها من جراء ذلك وتتمنى لو تقتصر على لغة واحدة .
وهنـــا يلقاك سطحى مأفون ويعترض قائلا :
والتطور طبيعى ، وليس في مقــــــــــدور الشعوب أن تصد تياراته العارمة الساحقة عن أية لغة . وقديما أتى على اللغة اللاتينية ، وسواها من اللغات القديمة المندثرة ، وهو آت حتما على اللغة العربية ، لانها لغــــــة قديمة وهى لا تخرج عن أمثالها وامتثالها لسنة التطور ، وان قلت ما قلتم ، وان فعلتم ما فعلتم ..
ولا ريب انك تلمس من اصرار هذا المأفون في قوله : انه يجهل حقيقة التطور وأثره التكوينى في الاشياء ..
ومنه التطور المقيد بحدود النواميس والخاضع لسنة البقاء : كتطور الشمس فهى متطورة في حدود فلكهـــــا ، ولا تخرج عن مستقر جريانها وخضوعها لنواميسه ولو خرجت لاضطرب النظام الشمسى وتداعت كواكبه ..
وهذا شأن اللغة العربية فان تطورهـــا كتطـــور الشمس داخـــــل في فلك نحوها وصرفهــــا ومخارج حروفهـــا واشتقاق كلماتها ، وأصول معاجمها . أضف الى ذلك معارف علمائهــا ، وآداب ادبائها وفنون فنانيها ، المتتابعة المتواصلة معا من جيل الى جيل ..
بل قل ان تطور اللغة العربية جـــــار في نطــــــــاق الحضارة الصاعدة . ومناهجها التقدمية المبتكرة . ومثلها العليا التى جاء بها وحي الله . جل وعز ..
وهكذا تمر القرون والاجيال ، واللغة العربية الفصحى تمد أجيالها المتتابعة بدفق قوة الروح ، ونماء جدة الحياة ، وحماسة شعلة المعرفة ، دون أن يمس كيانها تحوير وتخلف مفلتـــــان من عوامل سنة التطور الصاعد البناء .
هذا هـــو قوام اللغة العربية ، وفطرة كيانهــــا الطبيعي .. وكيف لا تكون اللغة العربية كذلك .. والقرآن المجيد الذى هو قمة قمم بلاغة اللغات على الاطلاق ، والمثل الاعلى العملاق المعجز الذى لا تخفت صرخات تحديه لمعــــــارف الحضارات ، حتى لو استطاعت أن تقيم عـــــــلى رأس كل كوكب مرصدا للأفلاك ، ومختبرا للأبحاث العلمية الفضائية الجديدة ..
