من كانت مدرسة الاستشراق الالمانية قد عرفت بالمسلمين والعرب والاسلام فى اوروبا قبل وأكثر من غيرها . ولئن عشنا فترة لا تخلو فيها دراسة أكاديمية أو جدية فى الادب العربى عن ذكر (كارل بروكلمان) كواضع لمرجع أساسى وهو كتاب ( تاريخ الادب العربي ) . . فان قارئ كتاب ( تاريخ الشعوب الاسلامية ) لنفس المستشرق ( كـ . بروكلمان ) يلاحظ فى عدة مواطن نوعا من التطاول المغرض على الاسلام ونظمه .... من ذلك ما سنبديه من ملاحظات فى خصوص تهجمه ان جهلا او عمدا على النظام الجزائى الاسلامى ( القانون العقابى ) معتمدين على الترجمة التى أنجزها كل من أمين فارس ومنير البعلبكى وقد راجع محتواها الدكتور عمر فروخ (دار العلم للملايين - بيروت - الطبعة الثامنة - مارس 1980 ) بعد ان صدرت النسخة الاصلية بالمانيا سنة 1939 .
يتحدث الكاتب عن تعاليم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ( وهو يعنى تعاليم الاسلام ، دون ميز بين ما جاء منها فى القرآن أو فى السنة أو الاجماع أو القياس ... ) فيتعرض باقتضاب لقواعده الحنيفة متوسعا فيها وفاحصا بعض المظاهر الحضارية مثل ما أطلق عليه ( نظام الزواج - الرق فى الاسلام - قانون الجزاء ... ) ولا يخصص لموضوع ظاهرة قانون الجزاء اكثر من احدى عشر سطرا بالرغم عن خطورة القضية وابعادها الاخلاقية ( بالمفهوم الفلسفى والحضارى ) سامحا لنفسه باصدار احكام تعتبر اجراما فى حق الحضارات وذلك فى قوله : " اما القانون الجزائى فى الاسلام فقد ظل على مستوى يقرب من السذاجة وهو لا يمثل الا تقدما ضئيلا بالنسبه الى مفاهيم القانون الوثنية القديمة . . . " (صفحة 82 ) هذا وقد سبق له
ان تعرض في الصفحات 69 و 70 و 71 الى ما أطلق عليه ( الناحية اللاهوتية ) وقصد به التوحيد او ما أطلق عليه المستشرق السوفياتى بيلياييف (الجنيفية ) وقيل بيان التناقض الذى وقع فيه بروكلمان يحسن بنا ان نبين الطريقة التى فسر بها الوثنية مع تعليق الدكتور عمر فروخ عليها . يفسر بروكلمان وثنية النظام الجزائى الاسلامى بما يلى : " فالقاتل عرضة للموت عن طريق الثأر . والقتل من غير تعمد يعوض عنه بالدية تدفع الى أهل القتيل وقد يقتص لضروب الاذى الجسمانى التى يلحقها شخص بآخر وفقا لمبادئ المقابلة بالمثل - عين بعين وسن بسن - ولكن المجرم يستطيع ان يفتدى نفسه بالتعويض على غريمه بالمال وعقاب السارق قطع يده اليمني حتى اذا عاود السرقة خضع لتشويه جسدى آخر ، وعقوبه الزنا مائة جلدة بالسيوط بيد انه اذا اغوى رجل غير مسلم امرأة مسلمة فعندئذ يصبح عرضة لعقوبة الموت اما من جدف على الله او على النبي واسلافه فيعاقب بالموت كالمرتد عن الاسلام اذا ما اصر على كفره ... " صفحة 82 وقد علق عمر فروخ على هذا بقوله : " الكلام على القانون يطلب تفنيدا اوسع أشير هنا اليه فقط . ان المؤلف قد جمع كل شئ فى القانون الجزائي الاسلامي في بضعة أسطر كثيرة الخطأ . ان القاتل فى الاسلام تقتله الدولة كما تفعل الدول اليوم اما التجديف ففكرة مسيحية وليست اسلامية قد حشرها المؤلف هنا حشرا . ان القتل عقاب المرتد والارتداد عن الاسلام لا يكون الا بشيئين ؛ جحد الله وانكار نبوة محمد وكل ما عدا ذلك لا يخرج عن الاسلام كما قال الغزالي " صفحة 82 ويبين الدكتور فروخ سبب ضعف الكاتب فى هذه المسألة بقوله : " وهذا غير مستغرب فالرجل لغوى فى الدرجة الاولى " صفحة 69 ويتضح مما تقدم ان نقطة التناقض الذي وقع فيه بروكلمان تتمحور حول ( الوثنية ) من جهة و ( التوحيد ) من جهه ثانية .
فما هو التوحيد ؟ .
لم نعد لمراجع التوحيديين من علماء الدين بل اكتفينا بهذا التفسير المبسط والواضح الوارد في كتاب ( تاريخ الفكر العربى الى ايام ابن خلدون - الدكتور عمر فروخ - دار العلم للملايين ببيروت - الطبعة الثانية ماي 1979 ) حيث جاء أركان الايمان فى الاسلام التوحيد ، للتوحيد فى الاسلام شرطان ، الايمان بان الله واحد بالعدد ، وتنزيه الله عن كل صفة يتصف بها خلقه وعن أن ننسب الى خلقه شيئا من صفاته ، الا مع التأويل الصحيح " صفحة 147 .
فكيف يمكن ان نعتبر ان النظام الجزائى الاسلامى - ولو بالشكل الذى شرحه به بروكلمان وهو شكل غير صحيح - يتنافى وشرطى التوحيد كيفما شرحهما عمر فروخ باعتبار ان هذا النظام قريب من الوثنية وان الوثنية هى كالشرك تخالف التوحيد ؟
لنرى الجواب بقلم بروكلمان نفسه وفى نفس الكتاب حيث اورد فى باب ( الالاهيات ) قوله : " واله محمد هو الرب اولا وآخرا ...
... بل ان الوحدانية التجريدية التى كانت الى حد كبير أساس قوة الاسلام على غزو القلوب ... ... خطيئة عبادة الاوثان ... ... ولقد بعث محمد الى العرب قبل كل شئ ، ولكن كان على دينه الاسلام ان يعمل على احياء ملة ابراهيم الخالصة ... ... " صفحتا 69 و 70 اليس من التناقض ان يعتبر مرة عبادة الاوثان خطيئة وان يعتبر النظام الجزائى قريبا من الوثنية مرة أخرى ؟ وما هى ملة ابراهيم الخالصة ؟ وما هو مفهوم ( الخلوصة ) ....
ان ملة ابراهيم هى (الحنفية) على حد تعبير المستشرق السوفياتى بيلييايف والدين الحنيف هو الخالص من الشرك والوثثنية ، يقول بيلييايف فى كتابه ( العرب والاسلام والخلافة العربية - تعريب الدكتور أنيس فريحة - مراجعة الدكتور محمود زايد - الدار المتحدة للنشر - بيروت - لبنان ) يقول : " بدأت الحنيفية وهي شكل من أشكال التوحيد عند العرب صراعها ضد الشرك بمهاجمة عبادة الإصنام والقول بعبادة الرحمان ... لقد واكبت الحنيفية تطور المجتمع المكى وحاجاته وتطورت معه الى ان دخلت مرحلة جديدة يمكن اعتبارها المرحلة التى مهدت لظهور الاسلام ونجد لهذا التطور انعكاسا فى السور التشريعية التى تركز على الايمان باله واحد ..." واستشهادنا بكلام مستشرق آخر مقصود وان كان هو أيضا لم ينصف الحضارة الاسلامية لانه ركز تحاليلة على مفاهيم ماركسية لا علاقة لها بالمفاهيم الاسلامية القائمة على التوازن بين المادة والروح وعلى الدهر والآخرة ...." الخ ...
ورجوعا لموضوعنا تتساءل من جديد كيف يمكن للنظام الجزائى الاسلامى ان ينال من حنيفية الاسلام ملتحقا بالنظم الوثنيه ؟ وعلى سبيل الاستيفاء لا الاستطراد نضيف تفسيرا آخر لمفهوم وحدة الله هو أيضا غير صادر عن رجل دين حتى تضمن الموضوعية بل انه صادر عن فيلسوف وهو الصديق الدكتور محمد الحبيب المرزوقى الذى يقول : " كيف حرر محمد العرب من ادواء وضعيتهم الحانقة آنئذ ؛ اليهودية والمسيحية والوثثنية ؟ .. لنسم قيمة اسمى القيمة التى يعتقد
الانسان فى عصر ما انها هى التى : أ ) تفعل كل ما يفعل فى الوجود - ب ) من أجلها يقع كل ما يفعل في الوجود - ج ) باسمها يقع كل ما يفعل فى الوجود بحيث انها الفاعل والمفعول لاجله والمفعول باسمه ... " ( ابو يعرب المرزوقى - تجربة توحيد العرب الاولى - مجلة العلم والتعليم عدد 43 )
فالنظام الجزائى الاسلامى ابعد من ان ينال من معنى التوحيد ؛ ولذلك فهو بعيد عن الوثنية لان الوثنية ضد التوحيد بصورة آلية كما يفهم من التحاليل السابقة .
فعلى ماذا تنهض فلسفة القانون الجزائي الاسلامي ؟ .
لا ركيزة لفلسفة الفقه الجزائي في الاسلام الا التوحيد وعقاب القاتل بالقتل اذا توفرت شروط ذلك انما هو عين التوحيد ويمكن ان نفهم ذلك فى اطار ما نسميه اليوم فى لغة القانون بتوازى الاشكال Paralellime de Formes ومعناه ان الله الذى خلق الانسان ( اعطاه الحياة ) هو الوحيد الذي يميته ( يسلب منه تلك الحياة ) ويقول الدكتور عبد الجليل شلبي : " فالنفس لها احترامها ولها حق الحياة والله تعالى هو الذى منحها الحياة وألبسها روحها وهو وحده الذي يميتها - " ومعنى هذا ان القتل شرك بالله وان قتل القاتل ازالة للشرك وترسيخ لمعنى التوحيد ولو فتشنا عن اسباب عقاب كل جريمة على الشكل الذى هو عليه فى الفقه الجزائى الاسلامى لوجدنا انها تكريس للتوحيد ونفى للشرك والوثثنية او انها على الاقل لا تتنافى مع التوحيد ولا تكرس لا الشرك ولا الوثنية . ب ٣ ر - وب سجل ٣ س - س
فما ذنب النظام الجزائى الاسلامى اذا ما اتفقت عناصره مع عناصر أجنبية بما فى ذلك العادات التى كانت عند الوثنيين والمشركين ما دامت هذه العناصر او العادات او القيم او المؤسسات والنظم والتصورات لا تمت لقضية التوحيد بصلة ؟ .
انه من المفروض ان كارل بروكلمان كان يعلم بكل ذلك جيد العلم ولكنه قصد الصيد فى الماء الصافى بعد محاولة تعكيره ولكن ماء الاسلام لن يعرف الى التعكير سبيلا .
والمقصود من التعليق على اراء بروكلمان المغرضة والمفضوحة يتجاوز مجرد رفع الالتباس أو الرد الى التنبيه الى خطر الصليبيات الفكرية وهى أشد وأعتى من الصليبيات الحربية والعسكرية .
