القصيدة الاولى التى تحتل صدارة العدد الثالث لهذه السنة هي لأحمد المختار الوزير " الفراشة الخرطيط والوردة الحمراء " . لقد جاءت هذه القصيدة نابعة من أعماق الطبيعة الخاصة التى عودنا بها الشاعر فى أغلب انتاجه ، فقد استطاع التوفيق بين الالفاظ الرومنسية الجذابة ودقة التصوير ، وهذا هو الشئ الوحيد الذى جعل من القصيد روحا شفافة وعالما مسحورا ممزوجا باليقظة التامة والحلم المفرط وخصوصا هذا العنصر الاخير الذى جمع بين جميع أجزاء القصيدة ، وجعل منها وحدة كاملة ، بحيث لا نستطيع تقسيمها إلى أجزاء معينة ، رغم أنها مكتوبة بشكل تقليدى يعتمد على السرد وتوالى الاحداث والتقاط الصور
ثم يأتي منور صمادح فى قصيد " حكاية شعب " ليعبر لنا عن وجهة نظره تجاه تلك الآلام التاريخية وذلك المستقبل الباهر الذي يترقبه كل فرد وسط أى مجتمع ، وقد حاول أن يفتح كوة على هذه الحقائق بأسلوب عهدناه دائما فى شعره ، فهو يستعمل لغة سهلة تحمل معانى غزيرة وأفكارا هامة ، وفعلا فقد وضعنا الشاعر فى اطار الموضوع مباشرة محطما بذلك الاساليب التقليدية التى تستدعي المقدمات الطوال والبكاء على الأطلال
وصمادح قد نجح بهذه القصيدة فى الخلط بين الشكل والمضمون ، حيث انه لم يفرق بينهما متبعا بذلك الطريقة العلمية التى لا تفصل من هذين العنصرين ، ومن هنا جاء مجددا فى الصورة واللفظ وطريقة النظم
أما قصيدة عبد المجيد بن جدو فقد جاءت لتبين ناحية اخرى من شخصية بن جدو الذى طغت على مجمل انتاجه سمة الشعبية والكتابة فى الشعر الملحون ،
ولكن ها هو يرفض أن تستمر هذه الحقيقة الكاذبة فى الاذهان ، ويؤكد أنه ما زال يريد الرجوع الى اللغة العربية الأم ، وما زال يجيد الكتابة فى موضوع أصبح من أخطر المواضيع لما يتطلبه من تجديد فى الرؤيا الشعرية وفي المضمون وفي الأسلوب وهو الحب
وفي حقيقة الامر ورغم تساؤل الشاعر المستمر عن امكانية وجود بعض بقايا الحب في نفسه فانه وفق الى حد ما فى بعث تلك المشاعر الشابة القديمة إلى الحياة من جديد ، وفي طبعها بمزاجه الكهلى ، والتأثير فيها بمخيلته الرحبة . ولكن ومع ذلك فقد ظهر فى القصيدة بعض الاجترار لمعان قديمة طالما عهدناها عند الشعراء القدامى الذين يعالجون هذا المفهوم على أسس تمت الى الخيال والتصور أكثر منها الى الواقع والتجربة ، هكذا برزت صفة المبالغة عند بن جدو عادية عهدناها عند أغلب الشعراء فى جميع الالوان الشعرية من مديح وهجاء ورثاء وخصوصا فى ميدان الغزل :
فما زال عندى قلب يحب وفيه لهيب الهوى يشرق
به يستضئ المحبون ليلا واني به دونهم أحرق
ومن ناحية أخرى فالشاعر لم يسلم من براثن الأسلوب التقليدى أيضا ، فهو قد كتب هذه القصيدة على النمط القديم فى معانى تغلب عليها الاجمالية والمشاعر العامة التى يحس بها كل انسان بسيط عادى ، مع أن الحب من بين المواضيع التى تتطلب مزيدا من التمعن وعمق الرؤيا ، والثورة على الاساليب المبتذلة الجاهزة التى مللنا سماعها وقراءتها ، وأصبح من الأجدر وضعها فى الأرشيف حتى لا تؤثر في عقولنا أثناء الكتابة ، وحتى لا نرجع أيضا الى الدوران فى حلقة مفرغة
أما الشاعر رياض المرزوقى فقد كتب " رسائل مضمونة الوصول " بحث فيها مواضيع متنوعة لكن جاءت هذه الخواطر مفعمة بالانانية المفرطة خصوصا تلك الرسالة التى افتتح بها القصيدة ، والتى حرص على أن تكون بداية لطريق واسع من الافكار التى طالما عانت من الكبت والحرمان داخل قرار الشاعر الاحساسي . فقد أخذ فى ارجاع شريط ذكرياته محاولا أن يتحدى ذلك النسيان التام الذى فرضته الطبيعة على مخيلته ، وجعلت من حبيبته نقطة سوداء بعيدة لا تمت بصلة الى الحاضر ، بل هى بقايا خطوط " قرمزية " قضت فى الحب والهيام والوداعة والصفاء ، وقد جاءت كلمات الشاعر مؤثرة رغم تقلصها التام حيث أنه أبى الا أن يستمر فى حب هذه المرأة رغم زواجها ورغم مرور الزمن بدون توقف !
أما الجزء الثاني من القصيدة فقد خص الشاعر به الشعراء وأراد منهم أن يعوا مسؤولياتهم ، وأن يخرجوا بالشعر من دائرة الابتذال المميت ، والبورجازية المقيتة ، حتى يتسنى لهم بعد ذلك أن يثوروا على كل المتحكمين فى الكلمة وعلى كل الرجعيين الذين يعيشون فى نوم ويحرصون على الحلم فى الواقع المؤلم الذى يستدعى مزيدا من الوعى والعمل والنضال بالكلمة الهادفة وبالصورة الشعرية القيمة
وخاتمة القصيد مسك - كما يقول المثل - فالشاعر يريد أن " يحطم القمقم الذي فسد هواؤه " كما قال نزار فى " خبز وحشيش وقمر " ، وأن يستنشق الهواء بكل حرية وأن يتمتع بجمال الكون والتفكير والثورة !
نريد أن نستنشق الهواء
نريد أن نبصر ما وراء هذه السماء
بلا جواز
نريد أن نعرف ما يدور حولنا
طوقنا الابراز
وسيجتنا آخر الانباء
وقد يحن الانسان الى عادة أو هواية طالما عشقها وكافح من أجلها وأصر على أن تكون منوالا حقيقيا تسير عليه حياته مثلما فعل " محمد الشعبوني " عندما أعاد للاذهان حبه للادب وتأصل هذه الهواية فيه ، حيث انه قام بنقل مباشر لبعض المشاعر الداخلية التى يكنها تجاه هواة الادب ومؤتمرهم المنعقد بصفاقس . جاءت هذه القصيدة تقليدية لحما ودما إذ أن الشاعر بدأ بمقدمة ثم تخلص بعد ذلك الى جوهر الموضوع منتهيا بخاتمة مدح فيها صفاقس وكل المشاركين فى هذا الملتقى ، ولكن ورغم استمرار الشعبوني في الكتابة بهذا الاسلوب فانه استطاع أن يدخل على هذا الأثر الفني نوعا من التجديد ، وأن يخرج به عن دائرة الروتينية المملة والأفكار الاحتكارية التى نلاحظها فى أغلب قصائد المناسبات ، فهو قد أحب جميع الهواة حبا ممزوحا بالعاطفة الأبوية وأحب فيهم ثورتهم ، كل ذلك دون أن ينسى روح الشباب الموجودة عنده ودون أن يتكلم على لسان شيخ رجعى بل كان متفتحا فى انطباعاته على العاطفة ، مازجا بين الفكرة الرصينة والخيال المفرط ، وبين الماضى والحاضر وهكذا كانت القصيدة بأكملها تعبر عن وجهة نظره تجاه الأدب وعن نضاله وعمله المتواصل فى هذا الميدان
ثم هناك قصيدة أخرى لمحمد الشابى عالج فيها موضوع الحب برؤيا خارجة من نطاق سرد اللواعج والبكاء على الحبيبة ومحاولة التأثير على الغير باساليب شتى حتى يشاطر المنتج مشاعره ، وفي حين نراه قد استعمل أسلوبا جديدا وصورا جديدة فانا نجده يسقط في طريقة السرد مع الوصف حيث لم يستطع الايفاء بكل مشاعره ، وبقى مقيدا بالاساليب الجاهزة التى تكبل عقل الانسان وتحتل ذاكرته بمجرد أن يدخل عالم الحب ويمزجه مع الخيال . ولكنه استطاع فى بعض احيان التخلص من ذلك المزاج المقلق والخروج عن تلك الدائرة العادية ، والاتيان بصور شعرية تسمو عن الاسفاف ، وترتفع بهذا الشاعر الى مستويات عليا :
ما زلت ، يا
صديقتي
حبيبتى . . فى
مستوى الايمان
والصدق
ومستوى العذاب . . يا
متعبتى . . ومستوى الجنون
والشنق
فلا مني الا
وفيها
خاطر . . . . منك ومن
خواطر الحرق
هكذا نستطيع أن نقول أن هذه القصائد أتت من أعماق أناس احبوا الكلمة وأرادوا النضال بها فى جميع ميادين الحياة ، ورغم اختلاف طرق تفكيرهم ورغم اختلاف عصورهم ومناهجهم الحياتية فانهم يلتقون فى نقطة واحدة وهي الابداع والعمل من أجل دفع عجلة أدبنا التونسى الى الأمام

