كان كتلة من الحزم والعزم تسعى فوق وجه الارض ، فالحياة عنده اقدس شئ خلقه الله ، واجمل شىء فى الوجود . . . كنت تسأله عن الجديد فيجيبك والابتسامة العذبة لا تفارق شفتيه : ان الجديد فى كل لحظة لا يكاد بعد . . . وتمضى معه فى الحديث فتشعر بالسعادة تغمر قلبك وتحس بانك شئ جديد . . شىء ثمين ثم تحس بوخزة الم لان لانك قد علمت واقررت بانك لم تعرف من الحياة جوهرها . . ! كنت سعيدا به ، كصديق لازمته طويلا فحبب الى نفسى المثابرة . . والعمل . . وعلمنى التمرد . .
وقد كان صديقى بادىء ذى بدء " موضوعيا " فى حياته الاجتماعية يتغنى بتلك القول الجميلة للفيلسوف " هيقل " اذا لم تكن لنفسك فلمن تكن ؟ واذا كنت لنفسك فلم تكون " ! كان يرددها كثيرا ويذكرها في كل مناسبة يجتمع فيها ولفيفا من صحبه فتراه يشرحها لهم شرحا مفصلا ضافيا حتى تخاله ذلك الفيلسوف نفسه ويعيدها على مسامعهم بلهجة مؤثرة وصوت جميل ونطق سليم كما يعيد العاشق الولهان قول معشوقته على اعز صديق عنده . .
وقد ثارت فى نفسى رغبة الاستطلاع على حياته الخاصة وعلى هذه العوامل التى جعلته ينظر الى الحياة بمنظار اخضر . . . ورغبت فى سبر اغوار نفسه وسعيت وعملت كل جهدى فى ذلك فلم اظفر بغير شئ واحد وقفت عنده ولم اعد آلى البحث من جديد لانه شىء غريب فى حد ذاته . فالحق يقال انى كنت اجزم بانه " محب " ، وانه سعيد بهذا الحب . . كنت احسب ذلك واعتقد ان له ملاكا يعيش له ويزرع فى نفسه بذور السعادة . . ولكنه على عكس ما كنت اظنه . . لما سالته : هل انت عاشق يا شفيق ؟ أجابني والابتسامة الحلوة ترتسم على ثغره : نعم
قلت : حقا انك لسعيد بهذا الحب قال : وهو كذلك . . . اننى اول عاشق سعيد فى الحياة . .
قالها وهو ينظر الى نظرة مبهمة فازداد يقينى بصحة قوله وبادرته اقول بتودد : - : حدثني ايها السعيد . . تفضل على ببعض الاخبار عن هذا " الملاك " الذي سيجعل منك عبقرية فذة حقا لقد صدق من قال " اذا رأيت رجلا ناجحا في حياته فاعلم ان وراءه امرأة يحبها وتحبه " . .
ورأيته يصغى الى هذه العبارة الاخيرة بانتباه ورأيته يحملق فى وجهى وقد غادرت الابتسامة فاه ولاول مرة اشاهد فيها صديقى فى مظهر الجامد المبهوت
ولكنه سرعان ما اطلق ضحكة عريضة حيرتنى ثم قال : انه لكاذب . . انها اكبر كذبة فى تاريخ الانسانية . وقفز فجأة من مكانه ليجلس على كرسى حول منضدة تناثرت عليها اوراق كثيرة وروايات صغيرة . ورأيته يأخذ من بينها ورقة وبهم بالكتابة وقبل ان يفعل التفت الى يقول : هل تريد ان اطلعك على اسم معشوقتى ايها الزميل . . ؟ فارتبكت فى الجواب ثم قلت : نعم اني ارغب في ذلك وقبل ان اتم الجملة رأيته يخط على الورقة بسرعة البرق كلمة موجزة ثم ناولني اياها وهو يقول : اقرا الاسم المقدس . . اقرأه فى خشوع . واخذت الورقة وقرأت الاسم فاذا هو " المعرفة " ورفعت اليه عينى وقد اشتدت حيرتى فقابلني يقول : نعم . . نعم مالك تبهت انها معشوقتى الوحيدة انها " المعرفة " الحبيبة . .
وهكذا انتهى هذا المجلس الذي عرفت فيه من امر صديقى اهم شىء وقد هنأته بهذا الحب وفى داخلى تمر غيوم الابهام والغموض . .
وعشت مع صديقى زمانا كانت الحياة فيه ربيعا لا يتقضى فصله ولا تعصف الرياح الهوج فى غاباته ومروجه . . ويمضى الزمان الى غايته كما يمضى الانسان الى حتفه ويشعر صديقى بالم ينتابه هو ذلك الالم الذى يصيب الفلاسفة فى كثير من الاحيان ثم رأيته بعد ذلك يغير مجرى حياته تغييرا يثير الانتباه بأن يرتدى واقع الحياة حلة فيكثر من مخالطة الناس ويحاول ان يكون ماهرا فى كل موضوع مهما كانت بساطته وتفاهته حتى مع " الحمال " و " الشيات " و " القصاب " وتاجر فقير فى حى حقير ، ومع كل انسان مهما كانت قيمته وضيعة او مرتفعة . . . .
انه انقلاب مدهش حقا ابقانى اسبح فى خضم من التساؤلات الغريبة ولكننى خبرت السكوت عنه والنظر اليه من بعيد . . . . وقد توصلت بعد محاولات كثيرة الى سر اعراضه عن المرأة واعتبرت نفسى بذلك قد انتصرت انتصارا باهرا فقد قال لى صديقى ذات يوم : " انك يا فؤاد
اعز الاصدقاء عندى واخلقهم بالوفاء وقد اسىء اليك فى هذه المرة اذا لم اجبك عن سؤالك المتكرر " لماذا لا اعد للمرأة حسابا . . ؟ "
صديقى اننى سأجيبك بأختصار لاننى بدأت اشعر بخطورة هذا السؤال وأخاف الخوض فى الحديث عنه . . اننى احب المرأة كمظهر من مظاهر الطبيعة الناطقة واعدها نصف الحياة الجميل وهى عندى مخلوق محترم ولكن وجوده يندر فى هذا العصر . واصارحك باننى دائب فى البحث عنه والى حد الآن لم اعثر له على اثر " !
وعند ما قلت له : انك " رومانتيكى " النظرة الى المرأة يا شفيق وقد كنت حسب الوجودية " لفظا انت معناه " لم يرد على بغير ابتسامة غريبة ورأيته يصرفني الى الحديث فى موضوع آخر . . . . . .
وها هو يجلس الى اليوم وكل شىء فيه يدعو الى العجب فشعره الاسود المفروق على رأسه قد لعبت به العاصفة فأحالته منفوشا ومغبرا ووجهه المستطيل الذي يزينه حاجبان كثيفان وعينان سوداوان قد اعتراه قطوب ووجوم فيبست شفتاه وانزوى ما بين حاجبيه ونظر بعينين تشيع فيهما الحمرة . .
ان كل شىء فيه ينطق بحزن قاتل ويصرخ بألم شديد ولم اطق الصبر لحظة اخرى فبادرته اقول : مالك يا شفيق . . . انك فى حالة سيئة ولم يجبنى فهممت باعادة السؤال ولكن عينى اكتشفنا شيئا آخر : لقد رأيته يبكى . نعم يبكى وان الدمعتين اللتين تحدرتا على خديه تدلان دلالة واضحة على فداحة المصيبة التى حلت به . . وعدت اساله فى الحاح : - شفيق ما بك قل لى نسيت اننى صديقك . . وسكت لاسمعه يقول : انها دموع الفرح . . " لا " . . نعم . . نعم لا يجب ان تدخل " لا " هنا انها دموع الفرح ايها الصديق
- الفرح بماذا...... ؟ - بدرس جديد تلقنتنه فى حياتى - اذن احك لى . . شرفنى بهذا الدرس . اننى عرفت فيك الايثار لا الاثرة - نعم . . نعم سأحدثك . . سأفيدك لاول مرة بمعلومات قيمة . . انصت الى وسكت قليلا وقد مد يده الى رأسه تعبث بذلك الشعر فى كل الاتجاهات . وبدأ يقول :
أطل طيفها فى افق حياتى منذ اسبوعين فقط فابتسمت له وتقدمت لاركع فى هالة ذلك النور الذى يحيط به . . وانحنيت له فى خشوع ثم تعانقت منا الارواح........ هكذا خيل الى .........!
لقد قرأت فى جبينها كل رغائبى حتى اعتقدت انها ذلك المخلوق الذى انتظرته وكدت أيأس من قدومه ورأيت فيها جمال الروح الذى يفوق جمال المادة . . . هكذا خيل الى . . فعشت يوما او بضع يوم وقد كدت اشفق على نفسى من هذه السعادة التى ملأت جوانبى وغمرت قلبى . . وأردت مكالمتها فاذا الظروف تعيننى على ذلك واذا كل شىء ميسر امامى الى درجة تبعث على الغرابة والتفكير . . ولما حادثتنى كدت انسى نفسى . . وانسى وجودى على الارض بل شعرت بتيار يحملنى واياها فوق ارجاس البسيطة ويسكننا سماء " النرفانا "
وكتبت الى فاذا كتابتها قطعة من روحها بل قطعة من تلك المثالية الحبيبة الى نفسها آه يا لها من طيف غريب . . لقد عشت فى ظلها سويعات ومن حين الى حين يعترينى شك فى حقيقة موقفى ازاءها . . فقد كنت احسب اننى فى حلم . . آه يا لها من طيف عجيب . . لقد حدثتنى نفسى بأنها ستجعل منى عبقرية لن يجود بمثلها الزمان . . سوف تفجر فى قلبى ينبوع الحياة وتغرس فيه ازهار النبوغ . . . نعم . . انها حدثتنى بكل هذا . . ووافقتها حقا لقد وافقتها وقلت اننى سأصبح عبقرية الزمان فياله من غرور ويا لها من سخرية القدر
آه من نفسي ما اضعفها . . لقد سولت لى حبها وبدأ ذلك اللفظ . . لفظ الحب يحتل فى قلبى مكانة عالية . . وكانت ساعة من هذا اليوم هى آخر عهدى بها وقد اعتبرتها ساعة حاسمة . .
خرجت من بيتي فتلقتنى العاصفة تصفع وجهى بالحصى وتعمى عينى بالتراب فتدمع المسكينة وكأنها تنبأت ببكاء حقيقى سوف تبكيه فى هذا المساء . . وسرت فى طريقى اليها دون ان اعبأ بالعاصفة لان نفسى تهزها عاصفة هوجاء اقوى من كل عاصفة وهى عاصفة الشوق والحنين لرؤية ذلك الوجه الملائكى
الصغير . . وتراءت لى على البعد تلك السهول الفسيحة تكلاها زربية من العشب الغض النضير . . فاحسست بأنى اقتربت من بيتها فاشتد خفقان قلبى واضطربت فى مشيتى حتى طرقت الباب برفق فاسرعت تفتحه واسرعت اجيبها فى ارتباك وبعد لحظات كانت تسير بجانبى وتحدثنى فى حياء وتنظر الى بخلسة واردت المضى معها فى الطريق فاذا المجتمع يصرخ . . يصرخ فجأة في اذني قائلا : ابتعد.... ابتعد عنها ايها الغبى انها " انسانة " وانك تسئ الى سمعتها لانك شخص غريب عن الحياة فهزت الصرخة اركان قلبي وقد كدت اذوب حياء . . ولكنها اسرعت لانقاذى لانها شعرت باستيائى وتألمى فازدادت مكانتها فى قلبى واحسست بقوة ترفدنى وتجعلنى لا اقيم وزنا لهذه الصرخة . . ولما التفت اليها لاحادثها . . وجدتها تبتعد عني يضعة امتار وما راعنى الا وهى بين ثلاثة من " ذئاب " يرقصون رقصة جنونية هى رقصة الفرح بهذا الحمل الوديع الذى سيضحى لهم بعد حين اكلة سائغة . . ورأيتها مهللة برؤيتهم ومعجبة برقصهم - وقد نسيتنى - وتمد يدها اليهم بوردة حمراء فى لون اللهب الذي يصهر كبدى . . وبقيت انظر اليها فى ذهول حتى رأيت الارض تنشق شيئا فشيئا ثم شاهدتها مع الذئاب الثلاثة تنزلق فى ذلك النفق المظلم الرهيب فانطلقت منى صيحة لا شعورية : لا تنزلى معهم انك ملاك . . . انك " مثالية " ايتها الفتاة . . وتبينت على ثغرها ابتسام اشفاق ورحمة ورايتها تلوح لى بيدها من بعيد . . . فاغمضت عينى عن المشهد الفظيع ثم طويت الشارع حتى وصلت الى هنا . . . ورأيت صديقى يعود الى البكاء ولكنه فى هذه المرة بكاء عنيف وسمعته يقول بصوت تخنقه الغصص " وداعا . . وداعا ايها الطيف الذى اشرق وانطفأ فى سرعة البرق وداعا انك استسلمت الى الهاوية عن رضى منك . . وتركت وراءك محراب الحب والسعادة . . . . "
ثم رأيته يقف ويهم بالانصراف فاستوقفته اقول : استمع الى ايها الصديق اننى سعيد بغروب الطيف كسعادتى ببقائه فى الافق وهى حالة طبيعية . . ستجعل منك انسانا يعيش على الارض
