الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 5الرجوع إلى "الفكر"

بريد القراء , المعذبون في الحب

Share

انها تعلم جيدا من ان شفيق عبد الجواد لم يرسل اليها رسالة ابدا ، ولكن رغم ذلك فقد علمت فى قرارة نفسها ، ان الرسالة التى قدمها إليها موزع البريد منذ لحظة كانت منه .

- اليك يا سعاد ... - احسنت ! ...

هذا احد المعجبين بك ولا شك ؟ على كل ، فانا سأتركك لقراءتها على انفراد ...

- اوه لا . انها انها رسالة من احدى صديقاتي ... قالت ذلك ، وأسرعت بإخفاء الرسالة في جيبها .

في بلدة " قربص " السكان على اتصال دائم . فقد كانوا مثل عائلة كبيرة ، يجمعون كل صفات الود ومقومات الجوار . . من اجل ذلك ارادت سعاد ان تخفى الحقيقة عن موزع البريد .

واصلت سعاد سيرها تريد العودة الى البيت ، فإذا بها تلتقي وجها لوجه مع سيدة متقدمة فى السن .

- صباح الخير يا خالة ... - صباح الخير يا ابنتى ... أين أنت ذاهبة ؟ ...

- الى البيت ... لقد رأيت موزع البريد يسلم اليك رسالة ... أهي لك ؟

فالتفتت سعاد نحو المرأة وقد تغيرت ملامح وجهها وقالت لها فى شيء من الغضب المكتوم :

نعم ... انها ... لي ! ... فتقدمت المرأة منها أكثر وقالت :

- لم أكن اعلم ان لك اصدقاء خارج البلدة فنظرت سعاد الى الارض قليلا ثم شدت على فمها ابتسامة ذابلة وقالت :

هذا صحيح ... ولكن تعرفت عليه حديثا ... منذ اسابيع فقط ... فغشت وجه العجوز سحابة صفراء من الوجوم والحزن ، ونظرت الى اللاشئ ثم قالت في مرارة :

ايه ... لو تعلمين يا ابنتى ، عندما رأيت موزع البريد يسلم لك الرسالة ، مدى الحزن الذى ألم بقلبي . اجل ، لقد تذكرت ابني حسن .

قالت ذلك وصمتت لحظات ثم همست : - هل تذكرين عندما كان يرسل اليك كل يوم رسالة ؟

نعم ثم اننى لا ازال احتفظ برسائله حتى الآن ... فابتسمت العجوز ابتسامة ذابلة وقالت :

- اعرف . اعرف ذلك يا ابنتى انك لا تزالين مخلصة وفية للحب الذى جمعكما . لذلك انا احبك كما لو كنت ابنتى الحقيقية

فنظرت الفتاة الى العجوز ، وقالت تطمئنها - وأنا ايضا احبك يا خالتى ...

واغرورقت عينا العجوز بالدموع حين قالت فى حزن : - آه . يا سعاد عندما أعود الى الماضى لارى الذكريات . آتمنى على السماء ان تعيد لى ابنى الراحل ، حتى أراه زوجا لك ، وحتى اصبح جدة . ولكن ... ايه ....

- لا تقلقي نفسك يا خالة بالذكريات الاليمة . لان ذلك يقلقك من جهة ، ويعكر صفو أفراح الشباب المتطلع الى الحياة من جهة اخرى

كان لصدى كلمات سعاد في عيني العجوز الاثر البالغ ، فقد شعرت المرأة بالام في عروقها وبالدموع تراود أجفانها من جديد . وغشت وجهها الشاحب الهزيل مسحة من الاسى والحرمان . ولم تتكلم وأحست سعاد ذلك ، فندمت على ما قالت أشد الندم . وزادت فغمرتها موجة من الاسف حين سمعت العجوز تخاطبها بعد صمت طويل قائلة

- ماذا تقصدين يا سعاد ؟

- أوه . لا شئ لا شئ ثم ان موت حسن لهو من الاشياء المزعجة والخسارة الفادحة من دون شك .

قالت ذلك في حيرة كبيرة ، وودعت المرأة وعادت الى البيت كما لو كان شيطان يطاردها .

- نعم . انه شئ مزعج . ان هاته المرأة الحزينة لا ترى في سوى صورة الارملة الباكية . فى حين ان من الحق ان أعيش شبابى واكون سعيدة . آه . يا الهى .

وصمت فجأة عن الهمس بهاته الكلمات حين سمعت أباها يخاطبها - وقد وصلت الى المنزل وأغلقت الباب بقوة وجنون - قائلا

- ماذا حدث يا ابنتى ؟ اراك تلطمين الابواب بقوة عجيبة . . ماذا حدث ؟ آسفة يا ابي . ان اعصابي متوترة .

- ماذا حدث ؟ - لقد اصبحت خالتى جميلة تراقب جميع اعمالى ، بدعوى اننى كنت خطيبة ابنها الراحل أوه . هذا لا يطاق . هذا لا يطاق

فقاطعها ابوها قائلا : - هذا شيء طبيعي . ان حسن - رحمه الله - ابنها الوحيد . ولهذا فأنت تعتبرين بالنسبة لها ، ذكرى حية للميت .

فنظرت سعاد الى ابيها طويلا وقالت :

- انا احب حسنا ، ولقد تألمت كثيرا لموته ! ولكن لا اريد ان اعيش وسط احزان الماضى كامل حياتى ، فتقدم الاب وضم ابنته بكل قواه الى صدره فى حنان وقال لها :

- اوه . ماذا حدث لك يا عزيزتى . ؟ قال ذلك واشار الى رأسها الجميل وقال

- لا شك ان وراء هذا الرأس الصغير ، اشياء غريبة . أليس كذلك ؟ انا لا أخفى عنك شيئا يا أبي . ولكن

- ولكن ماذا ؟ - ولكن أشعر بصداع فى رأسي وبألم في أعصابي .

- اذن ، أنت فى حاجة الى الراحة يا سعاد . ثم الى بعض الملاهي . - أوه . أبي أنت تسخر مني .

- أبدا . أبدا أبدا - تصبح على خير . - تصبحين على خير .

وصعدت سعاد الى غرفتها ، فارتمت على الفراش . ومكثت ، كذلك لحظات ، ثم أخرجت الرسالة من جيبها وبدأت تقرأها .

" عزيزتى سعاد ...

بالرغم من عدم رغبتك في قبول رسالة منى ، لم أستطع ان امنع نفسى من الكتابة اليك ...

انت تحبينني وانا احبك ... ونحن ننعم بالحرية والشباب ... فلا شئ يستطيع ان يمنعنا من السعادة ... ان الماضى ليس سوى كلمة فارغة لا معنى لها بالنسبة الينا ... انه لا يهمنا سوى الحاضر وحده ... أنا وانت ...

محبك المخلص : شفيق "

قرأت سعاد الرسالة ، فإذا بالدموع تنحدر على وجنتيها واذا بها تهمس حالمة :

- " نعم . . انا وانت . . ولكن ، هل مات الماضى حقيقة ؟.. .

فوقفت ، ونظرت مليا فى اللاشئ ، ولم تتكلم

ان ما تحملته سعاد في هاته اللحظة الحاسمة قد بعثرته الرياح رغم الظنون ورغم كل شئ .

فإذا بقلبها يتفتح بدون وعى الى الحياة من جديد .

وسمعته يهمس وقد شد على يدها فى دفء وحب قائلا لها : - سنبنى مسكننا هناك . فوق تلك الهضبة الخضراء

قال لها ذلك واقترب منها اكثر ثم شد على ذراعيها وقال لها : ما رأيك يا عزيزتى ؟ أتريدين ان اطلب يدك اليوم من أبيك ؟ فحركت رأسها يمينا وشمالا وقالت :

- لا ... لا تفعل هذا الآن يا شفيق ، يجب ان تترك لى شيئا من الوقت حتى افكر في الامر مليا ،

ومضت الايام ...

وآنتهي شفيق ورجاله من بناء الجسر ... فذهب ولم يحدد يوم عودته ...

وتآلمت سعاد لذلك كثيرا وكادت تجن . الى ان اتصلت ذات يوم برسالة . كانت منه . من شفيق .

وفتحتها في شوق ولهفة . فوجدت هاته الكلمات :

" عزيزتي سعاد ...

يوم الاحد القادم ساتى اليكم لاعلن للجميع عن زفافنا . لن استطيع . لن اريد الانتظار أكثر ...

محبك المخلص شفيق "

ورفعت سعاد عينيها عن الرسالة ونظرت كعادتها الى اللاشئ في حلم ، ثم ضغطت على الورقة في شبه حقد وتحد وقالت تحدث نفسها

" فهمت . يجب ان اكافح لكي أحصل على السعادة . لقد قال لى شفيق ذات يوم ، من ان الجسور السيئة البناء لا تعمر طويلا . يجب ان يكون جسرنا صلب البناء حتى يبقى الى الابد . "

وجاء اليوم المنتظر ...

كان يوما من ايام الربيع المشرقة الفواحة ...

وكانت سعاد لا تعلم جيدا سر الشعور الذى تملكها خصوصا حين وجدت نفسها جالسة قرب والدها فى حديقة البيت . كانت ترغب فى خوف قدوم شفيق ...

كانت حائرة ...

وفي شيء من اللاوعي شعرت بنفسها تهمس

" كان من حقي اعلام أبي وأم حسن بقدوم شفيق . كان من واجببي اعلامهما .

وفي هاته اللحظة رأت من بعيد العجوز جميلة - ام حسن - وهى تسير مع ليلى عدوتها اللدودة . فاقتربت منهما وكأن قوة مجهولة تدفعها للحديث الى أى شخص كان...

وما ان وصلت اليهما حتى بادرتها ليلى بقولها :

- سعاد ، تعالى نجمع معا باقة من الزهور نضعها على قبر حسن . فنظرت سعاد الى الارض وصمتت قليلا قبل ان تقول فى تلعثم :

- سألحق بكما بعد قليل ...أنا ... انا أترقب الآن . . . صديقا . . فرفعت ليلى حاجبيها تعجبا وقالت تسألها :

- صديق ؟ . - نعم

- أليس المهندس الذي جاء مع رجال لبناء الجسر ؟ سمعت الناس في القرية يقولون اشياء كثيرة ... ولكننى لم اصدق ذلك طبعا ... ونظرت اليها سعاد نظرة عميقة ، وابتسمت ابتسامة ذابلة مليئة

بالاسرار وهمست تحدث نفسها : " صبرا يا سعاد . يجب ان تدافعى عن حبك . انها اللحظة الحاسمة ... " وخاطبت ليلى بقولها :

- اظن انك تعجبت خصوصا وان هذا المهندس هو خطيبى . وسنتزوج قريبا .

- أوه ... - تكلمي ... ما بالك لا تنطقين ؟ .

- فى الحقيقة ... يظهر لى أنك نسيت بسرعة عجيبة حسن المسكين فنظرت اليها سعاد وقد غشت وجهها سحابة من الحزن وقالت في صوت باك

- من يدرى لعل فرح الاموات لا يكون الا بسعادة الاحياء . قالت ذلك والتفتت الى العجوز وخاطبتها قائلة

- أليس كذلك يا خالة ؟

ولم تنبس العجوز ببنت شفة وادارت رأسها ورجعت الى بيتها وهى تبكى فى صمت . وتبعتها ليلى من خلف .

بينما بقيت سعاد واقفة تنظر اليهما فى حزن والدمع يملأ جفونها المتعبة ...

ومضت الايام ثقيلة مترعة ...

وتزوجت سعاد من شفيق ... وكان زواجا مرموقا . حضره كل من في البلدة من اصدقاء واحباب وأقارب . فكان الرقص والضحك

وفي نهاية الحفل ، وحين انتهى كل شئ وعاد كل شخص من حيث أتى ، نظر بعضهم فى منزل العجوز فإذا الظلام يغمرها ، والسكون يحف بها من كل مكان ...

فسرى الرعب والخوف فى قلوبهم . فاقتحموا الدار ... فإذا بها ميتة .

اشترك في نشرتنا البريدية