"الظل" تحت هذا العنوان وافتنا الآنسة صالحة بن ونيس بهذه المحاولة القصصية ننشرها تشجيعا لها لمواصلة درب الخلق القصصى .
كان يجر رجليه متنقلا من زقاق الى زقاق ومن شارع الى آخر ومن بيت الى أخرى .
الاشجار أمامه باسقة . والشوارع تمتد طويلة وظله طويل . وطويل .
نظر حواليه . نظر الى طوله . آ ! إنه قصير ولكن ما بال ظله طويل . أيعقل أن يكون قصيرا ويكون ظله طويلا .؟ غريب أمر هذه الدنيا ! أجسادنا قصيرة مثل قوارير الغاز أو مثل الدودة . أو مثل مسافة تقاس بخطوة ولكن ظلالنا طويلة . خطر له أن يكلف أحد المارة بقيس ظله . رفع رأسه عالية ونفخ بدخان لفافته فى وجه الفراغ . وتراجع فى آخر لحظة .
قد يتهمونه بالجنون . والجنون . والجنون
وقف فجأة . بصق وضحك حين شعر بأنه مثل الرصيف تدوسه كل لاقدام وتتجمع فوقه نفايات هذه المدينة . ولكن ظله يظل طويلا . خطوة . خطوة . الاشجار تتبعه . والقطط تتبعه . وظله يتبعه . فآه لو يصبح مرة واحدة بلا ظل مثل فانوس يضئ على كل الجهات . فكم من مرة خدعه . وكم من مرة خانه . بل كان السبب فى وقوفه بين عمالقه أقزام حين سيق يوما الى مكان لا يعرفه وحاور السياط بجسمه النحيل .
آه يا جسدى القصير . أذكر أنك أصبحت مرة كخريطة العالم ، تمتزج فيك خطوط زرقاء . وخضراء . وحمراء . وصفراء . وسوداء .
مسح بيده المتخشبة دمعتين وصاح برجليه : الى أين ؟ إنه أحيانا يفقد السيطرة على رجليه اللتين تقودانه الى حيث لا يدرى لولا عيناه اللتان تلتقطان صورة بعد أخرى :
هذه شجرة ، هذه سيارة ، هذا قط ، هذا حائط ، هذه امرأة ... ولكن ما هذا الجاثم أمامه ؟
إنه ظله . أوف .
منذ زمن بعيد . بعيد يغيم فى ذاكرته امتلكه ظله مثلما يمتلك البعض قصرا أو سيارة أو ناطحة من ناطحات السحاب . فتعلم المشى كثيرا وتعلم الخط على الجدران فى أعقاب الليل . وأتقن حديث المجانين العقلاء :
- ماذا تفعل فى آخر هذا الليل ؟ - أحقق ظلى وأجمع عظامى وأدق الابواب وأزرع العقول . - أتمزح يا ابن الكلب أم تتباله ؟ !
- للمزاح مبادئ وقوانين لا اعرفها . ما زلت فى الدرجة الصفر ولعلى سأعرف المزاح حين اصل الى الدرجة الواحدة على الاقل .
- أنت أبله يتعاقل أو عاقل يتباله . كنت تسرق ؟
- آه . أسرق . السارق هو الوحيد الذى يعرف انه باستطاعته قلب العالم وتفجيره . بل وجعل كل الانظار تحوم حوله . انه القادر على سرقة العقول القابعة داخل جماجم ذهبية .
- اذن أنت سارق . انك تحب السرقة وجلوسك حذو الحائط دليل على ذلك .
لحظة بعد لحظة وتدفق الاحمر القانى من فمه وأنفه وقفاه .
قال : - نعم أنا سارق . أنا سارق لا يسرق شيئا ولكن يمتلكنى ظلى حتى السرقة .
وفى مكان لا يعرفه ولا نعرفه كانت الظلمة الداكنة تلفه والروائح النتنة تسد خيشومه .
تجمد جسمه تحت وطأة برد أحمر غير أن ظله كان يتمدد . يتمدد الى الخارج ويكبر فى كل الاتجاهات ليمشى كثيرا ويخط على الجدران فى اعقاب الليل : هل فهمتم السر فى عمرى المتجدد ؟
