من الاشياء التى تدعو الى التعجب والاندهاش (*) اني مع صلة الصداقة المتينة التى ربطتني بابى القاسم وهى صداقة اكدتها امور طبيعية كاتفاق السن والمواطنة وتعارف الاسلاف ، ومع امتداد المعاشرة بيننا بدون انقطاع ولا فتور ، ومع تقديري الذي لا يحد لعبقريته ونبوغه ، وشعورى بانه يبادلني العطف والحب مع هذا كله ، مضافا اليه انتحالى الشعر ومقدرتى على نظمه . لم ارثه بقصيدة ، لا فى حفلة الاربعين التى كنت انا القائم على اعدادها واخراجها ولا بعد مرور عام على وفاته ولا عامين ولا ثلاثة ... بل لم ارثه الا بعد مرور سبع سنوات بقصيدة تليت فى حفلة تذكاره ثم نشرت .
ويستطيع الباحث فى هذه الظاهرة الغريبة ان يعللها مثلا بشدة وقع المصاب او بالشعور بالغربة والانفراد وفقدان النصير ، فقد كنا معشر صحابته المصريين على الوفاء له نعد على الاصابع ، وكنا نرمى بتلك الصحبة كما يرمي الرجل بالشر والمروق عن المجتمع لقوة الدعية وخبثها وتوفر اسبابها ضدنا . ولقد كان المرحوم محمد البشروش وهو من خواص بطانة الشابى ولازمه عند مقامه بتوزر يحدثني عن وقائع ومثل لاتقاد الفتنة ضدهما فى مدن الجريد ، منها ان بعض المتحمسين للديانة كان يتقرب الى الله بوضع نخامته فوق المقعد الذي يجلسان عليه خفية ، ثم يفاخر بعد ذلك بهذه الماثرة ...
وهذا مثال يسجل الحالة النفسية التى كان يعيشها انصار الشابى واصدقاؤه ، فكاننا نحن الاجدر بالرثاء والتعزية منه ومن عائلته ، ولقد كان الاستاذ محمد الحليوى معبرا اصدق تعبير عن احساسنا جميعا حينما افتتح
رسالته الى اثر اطلاعه على الفصل الذى نضرته لى جريدة " النهضة" فى نعى ابى القاسم وفى وصف اخر حديث لى معه وهو يحتضر فقال : " اعزيك ولا اتعزى "
نعم ، يستطيع الباحث ان يعلل حالة الافصاء (1) تلك بما يريد ، او بتركها بدون تعليل ، فهذا هو الواقع ، غير ان مرادى من هذا ان تلك السنوات السبع كانت طويلة جافة وصفت فيها ضجرى بابيات من تلك القصيدة :
ايه ابو القاسم المتوج بالمجد اما طال عندك الامد ؟
هل اتصلت الغداة بالملا الاعلى وبالمورد الذى ترد ؟
وهل اتخذت الرياح اجنحة طليقة لا يعوقها الجسد ؟ ...
...تمطت السبع بيننا فمضت مملة ، كالقرون ، تتئد....
كانها حملت صبابتنا وآدها من فراقك الكمد ...
فاعبر مداها ، فانت طيف رؤى لم تحوه حقبة ولا بلد
اشرق علينا -كما عهدتك - والا كليل فوق الجبين منعقد
وانشر ضياء على شبيبتنا وليأتها من نبوغك المدد
ولئن كانت السنوات السبع طويلة مملة عجفاء ، فقد تضاعفت اليوم ثلاث مرات وصار يفصلنا عنه ربع قرن من الزمان ، وتلك فترة كافية لانشاء جيل كامل من بني الدنيا وفناء جيل اخر منهم ، ولقد وقع هذا بالفعل كما لا احتاج الى التاكيد ... فقد تغير المجتمع بذهاب جيل وقدوم جيل مكانه ، وتجلى لمن يرى مبلغ التحول الذي طرا على الافكار والنزعات والميول .
ولعل ذكرى صديقى الغابر قد نالت وسعها من مظاهر التكريم والتمجيد وضربت شخصيته القوية فى انحاء دنيا العرب واقتحمت مكانها بين اهل الفكر الخالدين الابرار ، فلعل عواصف الانفعال والانبهار قد هدأت لتترك المجال للبحث التاريخي الخصيب عن مدى الاثر الذى تركه الشاعر فى الشعب الذى انبثق منه .
والسؤال عن تاثير الشابي على التيار الادبى وعلى اتجاهات الشعر الحديث هو الموضوع الذي يصادمنا اول شئ بعد الفراغ من حركات التمجيد والذكريات العاطفية المحضة .
والظاهر ان مرور ربع القرن كاف للفراغ من قصائد الرثاء وخطب الاشادة والفخار لننظر : ماذا ترك لنا شعره الخالد نعم ، وترك معه غير الشعر من المقاطع النثرية البديعة التى سوف تجمع وتنشر ، وترك لنا مع هذا روحه الدافق بالحياة والشباب ، ولكنى لم اسال من هذا ، بل اسال عن الاثر الواضح او غير الواضح الذى يجب ان نجده فى مجموع المحصول الادبى لمدى ربع قرن بلادنا التى انجبت هذا المارد الجبار ، بل اسال عن تلك الموجة الكاسحه التى احدثها انطلاق ابي القاسم الشابي فوق عباب زاخر من ادب التقاليد القديمة وبقايا الاحقاب البالية ونفايات القرون .
هذا سؤال له اهمية علمية وعملية عظيمة ، وله اهمية انشائية وتوجيهية اعظم فهل آن لنا ان نستبدل " لجنة ذكرى الشابى " وهي لجنة وجدت وتكررت مدى ثلاثة وعشرين عاما في صورة واحدة . . " مملكة كالقرون تتئد.. " وقد تمرس بها الناس حتى صارت عادة وتقليدا متعارف معهودا ، بل الاعجب ان موادها وخطباءها وشعراءها وحضورها ، كل ذلك كان صورة طبق الاصل من حفلة الاربعين التى وقعت عام وفاته.. نسخة ذلك كذلك ، والحمد لله على ذلك . فهي " مناسبة تصاد وفرصة تغتنم " ليظهر هذا الشاعر وذلك الخطيب ، ويذاع الخبر والاسماء على الناس .
ولقد - والله - وقع في حفلة الاربعين التى كنت ناموسها ان اقتحم التخت شاعر - مرحوم - عرف بمناوأته للشابى فى حياته ، اقتحم الناس وطلب مجالا ليلقي قصيدة فى رثائه وتمجيده فارخي له العنان لينشد قصيدة افتتح اكثر ابياتها بقوله " يا زميل. . يا زميلي . ." ولا حاجة للقول بان هذا السيد بعمل عل توطيد اسمه ودعم عنوانه كشاعر ونابغة يدوى صوته ويذكر في كل ناد ...
هل آن لنا ان نعوض تلك " اللجنة " التقليدية بلجنة موضوعية صامتة ، اعني مفكرة ، قوامها رجال يدرسون الاثر التوجيهى الذى احدثه الشابى فى ادب الاجيال التى توالت بعده فى المجتمع التونسي والافريقي وفي الادب العربى بصفة عامة ؟
اما لهذا العمل الرصين الخصيب رجالا من ادبائنا المضطلعين اليوم بالحركة الادبية والمسؤولين عن تجديد الروح الفنية فى الشباب ، فذلك امر الواقع
لا شك فيه ، واما انا فحسبي ان احدث هؤلاء الرجال كما يقول لبيد " احاديث القرون التى مضت " ... احدثهم بصفتى معاصرا لانبثاق نجم ابى القاسم .. احدثهم حديث الماضى : كيف تلقى المجتمع الادبى اوائل شعر الشابى ، وكيف كان جيل الشابى يعرف الادب والشعر وينتج الادب والشعر ...
وحينما اتحدث عن الظروف المباشرة لظهور الشابي سيعذرنى القارىء اذا انا تحدثت عن نفسي قليلا ، فهذا الحديث الذي يتعلق بى مع كونه لا ينيلنى فخارا ولا تيها ، هو مفيد لتبين الوان الطموح التى تتراءى للشباب فى ذلك الزمن السحيق ...
ووضعا لحوادث التاريخ فى مكانها اذكر ان للصحفى الشهير السيد الطيب ابن عيسى صاحب جريدة " الوزير " دورا مهما وان لم يكن ذا اثر عميق ، فهو قد ملا فراغا وشغل اذهانا لا يستهان بعددها .
كما انه لكل شئ سبب ، فان سبب اضطلاع جريدة الوزير بزعامة الحركة الادبية ما بين سنة 1925 و 1930 كان سياسيا ، وذلك لاختلاف وقع بين رجال الحركة الدستورية بزعامة الشيخ الثعالبى رحمه الله وبعد الحرب العالمية الاولى ، فهذا الشقاق اوجد تشكيلة متفرعة عن الحزب سميت " الحزب الدستورى المستقل " كان من زعمائها صاحب الوزير وآخرون ، ولكن الحزب الاصلى اكتسح هذا الشق وضيق عليه الخناق ، فكانت جريدة الوزير من ضحايا ذلك الاكتساح وراى صاحبها ان يبعدها عن النطاق السياسي ووجد فى طريقه شابا صغير السن ذا نشاط ادبى وفنى كبير ، وكانت ميوله تطمح الى حضور حفلات الطرب والتمثيل فتبرع للجريدة بالقيام على اشغالها من طبع وتصحيح وتحرير فى مقابل منحه بطاقات الاستدعاء المجاني الذي تتلقاه الجريدة للجفلات ، وان يحرر لها القسم الادبي والمسرحي والفني ويكون لها مندوبا .
وصارت الوزير فى يوم من الايام مرآة للادب التونسي ، تظهر منها اعداد ممتازة يشارك فيها " امير الشعراء " خزنه دار وسعيد ابو بكر ومحمد الفائز القيروانى وصالح سويسى ، وهذه طبقة الكبار ، اما الصغار الناشئون فعلى راسهم المرحوم شاعر الشباب محمود بورقيبة وجلال الدين النقاش ومصطفى خريف ومحمد الدهماني والهادى العبيدى الخ ...
ويجدر بنا ان نتساءل : هل احدثت هذه الحركة تجديدا فى الاسلوب للشعر التونسي ؟ نجيب اولا بان مدارك مدير الجريدة لم تكن متعمقه فى الادب ومثال ذلك انه نشر اقتراحا ليجرى فيه مسابقة بين الشعراء ، ونشر ابياتا قديمة طلب من القراء تشطيرها وتخميسها وتسديسها وتسبيعها الى تعشيرها ... وثانيا ان الشاب المسيطر على تحرير الجريدة يشبه المدير سوى انه اصغر منه سنا ، فالاثر سلبى اذن ...
وبهم على ذكر ذلك الاقتراح - ان نثبت بان الشعر التونسى اذ ذاك كان لا يزال متاثرا فى طبقاته العلها بطرق شعراء النهضة الاولين كناصف اليازجى ومحمود قابادو ، وهي طريقة العناية بالزخرف اللفظى ، وكان ادب التشطير والتخميس والتطريز والتوريخ والمعارضة سائدا تلك الاجيال حتى ان امير الشعراء خزنه دار كان يترصد للقصائد العظيمة التى تدرجها صحافة الشرق فيخمسها او يشطرها مثل قصيدة فؤاد الخطيب" الله اكبر فالظلام قد علموا " وقصيدة حافظ ابراهيم " لا رعى الله عهدها من جدود " وقد ظل ذلك دابه رحمه الله حتى شطر " البردة " .
انا رجل مخضرم ، فلا تطلبوا مني السخرية بهذه المناهج ، واذا لم اشطر ولم اخمس فقد عارضت مرة او مرات ولكنى اذكر ان لتلك الالوان من الادب جوانب فنية لا ريب فيها ، وعندها مجال للابداع والاحسان يعرفها كل منصف الا ان الذين قاموا بها فى عهود جدتها كانوا يستظهرون عليها بقوة الثقافة الادبية وسعة الاطلاع على اساليب اللغة ومعرفة اسسها القديمة ، بينما كان صغار الشبان اذا هم يتطاولون إلى انتحالها لا يكادون يبدعون شيئا بسبب ضعف مداركهم فى اللغة والادب .
على ان التهافت على التلاعب بالالفاظ غير مامون العاقبة ، فقد عثر فيه فطاحل الادب كابي العلاء المعرى وابى القاسم الحريرى وصفى الدين الحلى وهم من هم في قوة الملكة والطبع الفنى ، فهل عجيب ان يخفق فيه من هم اقل منهم فضلا عن شبان صغار ضعاف المدارك والاطلاع ؟
الا انه من الانصاف للتاريخ ان نشير الى ان النزعة لتجديدية فى الشعر التونسي الحديث قد سبقت ابا القاسم الشابى ، وان محاولات سعيد ابى بكر
ومحمد الفائز القيروانى وان لم تكن جذرية تتناول روح القصيدة واتجاه نسقها ، فقد كانت نسمات الابداع والبحث عن الجديد تخفق على ابياتها .
وظهر ابو القاسم الشابى بقصيدتين احداهما من الشعر المنثور والاخرى من المنظوم ... فكان لصداهما دوى كبير .
ولقيته بمكتبة الخلدونية ، وكنا كثيرا ما نتلاقي هناك ونتصاحب عند الخروج من المطالعة ، وكان يسبقني في دروس الزيتونة .
والحديث يجرى بيننا عن قصائد شعراء المهجر الامريكى العرب .
واذا اسعفت الظروف فسيكون لى كلام آخر عن المجتمع الادبي بتونس اثر ظهور ابى القاسم الشابى سلام الله عليه وصلواته .
