الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 10الرجوع إلى "الفكر"

بوادر الثورة فى الأدب التونسي ، على عهد البايات

Share

اذا كتبنا عن تاريخ الادب التونسى واطوار اتجاهاته فاننا نكتب عن حقبة من تاريخ بلادنا طوى بساطها الزمن كعادته فى طى كل بساط

ومؤرخو الاحقاب والاجيال والعلوم والفنون والاداب يستخرجون زبدة المخيض منها ويبرزون العبرة من بين مطاويها لتكون درسا للناس سواء منهم الذين يدبون على الارض اليوم ويفكرون فيما هو احسن وافضل للانسان فى حياته التى هى نتيجة الشعور والتفكير والتامل والبحث للتخلص من كل ما من شانه ان يقف سدا منيعا دون المطامح والآمال او يرجع بالقافلة الى الوراء او يلقى بها فى قعر سحيق او الاجيال الآتية التى يتمخض عنها الزمن دواليك فيتفطن الناشئون منهم بسهولة وبادنى تامل الى اسباب التتعتع في ميادين الحياة فيجتنبونها ويحيدون عنها وذلكم هو الغرض الاول من الدراسات الادبية والتاريخية والاجتماعية وعلى ضوء هذا التمهيد نتجه بدراستنا لاطوار اتجاهات الادب التونسى على عهد البايات منذ تبنك عرش البلاد مؤسس الدولة الحسينية حسين بن على المتوفى سنة 1153 فنقول :

لما انعش الادب التونسى اثر ابلاله من نكبة الاحتلال الاسبانى والاستيلاء التركى على تونس التى غادرها العلم والادب وانطفا فيها مصباح المعرفة زمنا ليس بالقليل وجد هذا الادب نفسه فى عزلة عن الحياة لا حانيا يحنو عليه ولا عاطفا يرق لحاله ويمد له يد التشجيع فظل حيث هو ضعيفا هزيلا ضئيلا لان البايات وهم اجهل الناس بكل شىء كانوا لا يقيمون ، للادب وزنا ولاعجب ان ضيعته الاعاجم وبالرغم عن ذلك فقد كان فى هذا الطور يتجه الى المديح والاطراء والمغالاة اكثر مما يتجه لشىء آخر . وقد نبغ فى الطور الاول للدولة الحسينية اديب عبقرى ذلكم هو ابو عبدالله حمودة بن عبد العزيز المتوفى سنة 1202 ه فالف كتابه ( الباشى ) فى ماثر على باشا بن حسين مؤسس

الدولة فحاء كتابا بليغا رائعا فاتنا جذابا يعرب عن ادب غزير واطلاع جم وتقليد طريف للفنون الادبية فى نماقتها وزخرفتها وفنها الجميل اللطيف الا انه ركز هذا الادب على قاعدة الاطراء والمغالاة فاصبح كتاب تقريض يوقع فيه الاديب على قيثارته بانغام تطرب مواليه وظل يحدو لهم حداء منعشا وينسج لهم نسجا رقيقا وعلى رقته هجره الادباء ونبذه الفهماء وان خدم به مؤلفه الادب التونسى خدمة مثلى وجلب فيه اثارا ادبية تونسية اقحمها فى كتابه اقحاما ونبذ منها ما لايروق لاسياده البايات ؟ ثم تلاه الاديب التونسى الشهير ابو عبد الله محمد الباجي المسعودى المتوفى سنة 1207 فكتب فيما كتب الخلاصة النقية فى تاريخ افريقية مقتصدا فى المديح مقتصرا على ما لابد منه فى ميدان الاطراء والتقريظ بحيث ان مطالعه يشعر باتجاه جديد فى التحبير ابتعد به كاتبه عن اساليب ( قرة العين فى مئاثر الملك حسين )  واعتزل طريقة الباشى الحافل بالثناء والناسج على منوال المداحين من الشعراء فيشعر بتحول ما عن الاتجاه الاول وهو وان كان بطيئا وضئيلا الا انه اتجاه جديد على كل حال يمكن القارى من استيعاب دراسته بدون ضجر او تبرم ؟ وما ذلك الا لان الادب بتونس لم يصل بعد الى دور النضوج والاستقلال عن السلطان ليشق لنفسه طريقا ملائما ويؤدى رسالته كادب يعبر عن شعور صادق وواقع حقيقى لا مناص منه فينقد ما ينقد ويذم ما يذم ويمدح ما يستحق المدح . وفجأة يظهر كاتب اديب تونسى مقتدر ذلكم هو احمد ابن الحاج بالضياف المتوفى سنة 1291 فيكتب بلسان الادب تاريخه ( حرا ) ولكن فى قعر بيته وينقد فيه ما ينقد ويقظ ما يستحق تقريظا فيشعر الدارس لاطوار الادب واتجاهاته بتونس فى هذه العهود بشئ طريف فى الحياة الادبية التونسية لاعهد له بمثله فى اوائل واواسط العصر الحسينى الذى امعن فى عبودية الادب والادباء والعلم والعلماء : اجل يجد اديبا محررا من كل القيود التى اعتاد الناس النزول على حكمها فهو يكتب حسب شعوره وما يمليه عليه وجدانه اخطأ ام اصاب فيقول فى صراحة غير ما لوفة فى عهد الارهاق والاستبعاد والاستبداد عهد الحكم المطلق والملوكية الطاغية العنيدة :

وفن التاريخ وان كان من الفنون الادبية فهو من وسائل علوم شرعية يكسب الناظر برهان التجريب ويشحذ فكر الاديب الاريب ليقيس على مامضى مواقع الانتقاد والرضى ويرى الاسباب وما تولد منها والحوادث وما نشا عنها ولولاه ماتت الفضائل بموت اهلها وادى ذلك الى جهلها ولا ينكر النفع اذا كانت الاخبار منقولة والشوارد بقيد الكتابة معقولة والاثار ماثورة والاعمال

تشين لست ادرى ما الذى ستنفلق عنه الشفاه . . والذى اعلم ان الجذع لن يسكت . . . سيطالبك براسه المقطوع . . والراس . . اين الرأس ؟ ! اين تركته ؟ . .

تونغ الرأس فى المخلاة . . للنمل والدود . . . . ويرتمى تشين على المخلاة ويخرج منها راسا مفتحتين عيناه . . تنظران ولا تبصران وعلى الوجه مسحة سخرية وانقطاع . . . ولا اثر للدم الرعاف . .

تشين ان لفى العينين انقطاعا . . وان لفيهما انذارا . . وان نفسى لتحدثنى بهول . . . ودمار . . .

تونغ انذار الميت ليس بانذار . . ان هو الا الوهم . .

تشين بل هو الانذار . . وانذار الميت اشد انذار . . ينصب فى غفلة ودوار . . . كانفتاق الارض تحت الانسان . . وهو الى السماء لمنصرف بفكره المخيال . . . ويطرق الباب . . . فينذهلان . . .

سادفن الرأس . . لا تنذهل . . ان لفى الدهليز لمخبأ حصينا . . ولن يفطن الى الراس الا الدود الموعود . .

ويعاود الباب طرق . . ويأخذه ارتجاف . . . ثم يطوف على نفسه وينخلع . . . ويدخل صاحب الراس وليس له رأس . . وجناحان على كتفيه . . كاذنى الفيلة يخفقان . . .

ويطوف بالغرفة كالاعمى يتحسس شيئا .. ويصادف خوانا فيجلس  امامه وعلى  الخوان  اصناف طعام .. دود وآذان مطروحة ...وسعف نخيل مرسومة عليها حروف لا تفقه يقال لها دستور .. وميزان يحمل خنجرا وعصا .. وقفص مذهب يقال له حرية مذهبة .. وغير هذا وذاك مما لا يفطن اليه ذو الراس المقطوع الا كما يفطن الاعمى الى هاوية في طريقه .. تصاعد منها رائحة بخور .. فيظن ذلك جنات عدن وحورا وينظر الرجلان الى بعضهما ساعة ثم يعاودان الكلام ....

تونغ قل اى شىء . . انه لن يسمع

تشین ماذا اقول ؟.. ربما يريد اكلا و نورا قدم له سعف النخيل .... ففيها مخدرات دستور وفيها عن محبور .. يستدرك .. ولكن ليس له اليها من سبيل وراسه مقطوع . حاول ان تلاطفه بوصف القفص المذهب ولكن لن يفقه ما تقول آه .. لم لم يخلق الله الاذنين فى غير الراس .. لم .. ؟

ويدركهما الغثيان ....والدوار وينقض تونغ في حدة وجنون ليقطع جناحى ذى الراس المقطوع فلا ينكسر الجناحان ويطير ذو الراس المقطوع ويطير ويخرج الرجلان في ذهول واجهاد وتبقى للفئران جنات ذاك الخوان يا للخوان !!..

ستار

بعداهلها مذكورة من ملك اثر على حظ النفس مراعاة الصلاح فغرس الخير واسباب الفلاح وسمت به همته الى ملك الارواح واخر قنع بظواهر الاشباح فاستباح منها ما استباح حتى استريح منه وليته استراح لم يبق حسنة تنفع ولا ذكرا جميلا يرفع ووزيرا اقتدت بسياسته الاكابر ولم ينس ذكره فى الزمن الغابر وآخر ذهب كامس الدابر غره لمع السراب فاعان على اسباب الخراب ). الخ اه

وهكذا نلمس فى هذه الكتابة التحول الحقيقى الى اتجاه ادبى جديد يبشر باستقلال فى هذا المجال وفجاة يتسع هذا النطاق فنصغي لاديب الخضراء وامير الشعراء فى ذلك العصر وناسج ذلك الفخر الشاعر الفنان محمود قبادو فاذا هو غريد صادح يدعو الى الاصلاح ويحبذه بلسان الادب ويقول في جد وحكمة

العدل عهد خلافة الانسان وموارد ظل الامن والامان

وتمدن البشر اقتضى ايلافهم

بتعاضد من دائن ومدان

ومطامح الخلطاء لاستبدادهم

بالقتل داعيهم الى العدوان

والعدل كل العدل يقصدونه

راي اللبيب وفطنة اليقظان

ولو انه . تبع لاهواء الورى

شق الخلاف عصاه بالعصيان

والنفس جامحة لعز رئاسة

طبعا وجامحة عن الاذهان

والرأى ان لم يصف من كدر الهوى

لم تبد فيه حقائق الاعيان

ونتابع دراسة هذا الادب الجديد فنجد انفسنا ازاء ادب يتجه اتجاها حكيما الى الاصلاح ويفيض بكل عبرة وينزع الى كل حكمة ويهتف الى كل تقدم وينعي على كل متخلف ويمتزج بالحياة الحديثة ويحدو بمجتمعها ويخوض كل معركة معها بعد ان كان فى طالعة امره منبوذا معزولا عن الحياة ولكنه مع هذه الروح الكريمة الشيقة الوثابة الحديثة المتطلعة لم يسلم من جناية البايات واجرامهم وآثامهم . .

اشترك في نشرتنا البريدية