الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

بيان حول استعمال الفضاء المسرحى فى هذا الديوان،

Share

يقترح المؤلف ان يقع استعمال اركاح متعددة لاخراج هذا الديوان المسرحي ، وذات احجام وارتفاعات متعددة ومختلفة ، وان تكون - قدر الامكان مندمجة فى الجمهور حتى تلائم ما جاء فى هذا الديوان المسرحي من عمل درامي .

لقد سبق للمؤلف ان استعمل فى اثر ادبى سابق عنوانه " الحمال والبنات " بعض الخصائص الجمالية التى وردت في الكتب الادبية العريبة القديمة ، " كالاغاني " لابى الفرج الاصبهاني ، و"الحيوان " للجاحظ و" الامتاع والمؤانسة " لابى حيان التوحيدى ، و" كليلة ودمنة" لابن المقفع ، و"التوابع والزوابع " لابن شهيد الاندلسي .... وهو يعيد استعمال هذه الخصائص بأكثر دقة فى هذا الديوان المسرحي .

وهذه الخصائص الجمالية التى لا ندعى ان الكتب العربية القديمة قد انفردت بها ، وانما كانت دعامة في الانشاء الادبي العربى القديم ، فضلا عن كونها رائجة فى اداب الشرق المتوارى فى القدم . وهي تتلخص في مفهوم " الاستطراد " الذي جعل منه مؤلف هذا الديوان مبدأ جماليا اساسيا ساعده فى " الحمال والبنات " وفى هذا الديوان المسرحي بالذات على اكتساب شكل مسرحي مبتكر ، ومكنه من تركيب العمل الدرامي تركيبا مرنا ، حركيا ، متفاعلا جدا ، بله جدليا ، واعانه فى الانصراف او يكاد عن فنيات المسرح الغربي - الكلاسيكى منه والحديث الطلائعي - ودفعه بفضل ذلك كله الى الاقتراب اكثر فأكثر من الارضية الذهنية ، ان لم يقم عليها عمدا ،

لا سيما فى الماضى الحضارى ، وبالتالى فى الواقع الشعبى الحالى ، ليكون فى نهاية المطاف الضمير النابض للمستقبل ، كيما ينصهر فيها جميعا ، ويتزوج منها ، وينطق باسمائها .

ويرى المؤلف - فى هذا السياق من المعاني - انه كان خليقا بالعرب المعاصرين ، لما تبنوا منه الا النوع الغربى ، واعطوه الصدارة فى آدابهم وفنونهم ، الا يتبنوا منه الا النوع فقط ، وان يتركوا جانبا الفنيات ، والاشكال ، والاتجاهات التى رافقت النوع ، والتصقت به ، وكادت تمتزج باصوله . وانه كان ضروريا بالنسبة اليهم ان ينظروا في جوهر المسرح ، وان يمعنوا النظر فى ادواته ، وان يتأملوا فى اتجاهاته . ولئن شرع البعض منهم - فى السنوات الاخيرة الماضية - فى تغيير ملامح المسرح في العالم العربى ، بادخال فنية " المداح والحلقة ، او باستعمال فنية " الكراكوز" أو بتحوير التركيب الدرامي شيئا ما ، على نمط المقامات مثلا ، فانهم ما زالوا لم يتعمقوا التعمق الكافى فى المجتمع العربى : كالمجتمع التونسي او المجتمع الجزائرى ، الذى هو ليس الا تضاريس لحضارة الفية لها خصائصها ، ومميزاتها ، واصباغها ، ونظرتها وباختصار علاماتها الحضارية التى لا تزال فى أشد الحاجة القصوى الى سبر مجهولها . وموؤودها ، واقتفاء آثار ثورتها ومتابعة منعرجات صعودها وهبوطها .

وانه لا يكفى بالنسبة لرجل المسرح - سواء كان مؤلفا او مخرجا - ان يستعمل " المداح " مثلا فى عمله المسرحي حتى يكون عمله هذا عربي المشاغل والاطار ، تونسى الواقع والامال ، شعبى المشاكل والمطامح ، طلائعي النزعة والشكل والاخراج ، فلان "المداح " او " الكراكوز " او " اسماعيل باشا" ليس الا ظاهرة " فولكلورية " ذات اصباغ زاهية يرتاح اليها الصبى ، وينتعش بها الشيخ ، وتزهو فى عين الزائر ، كفولكلورية الاماكن السياحية .... لم تأخذ من العلامات الحضارية الا بعض القشور .

ونقصد بهذا كله انه يجب التعمق فى التفكير العربى ، والتشبع به ، والوقوف على خصائصه ، والرسوب في اغواره ، وتفهم رقائق مداركه . كان يتساءل الانسان :

- كيف هو سلوك الانسان التونسي ؟ - كيف هي ردود فعله على مجتمعه ؟ .

- علام يتخذ هذا الموقف من الاحداث ولا يسلك ذاك الموقف المنتظر منه ؟ .

لم يفكر بهذه الطريقة بالذات ولا يفكر بطريقة اخرى . - ما هى الركائز التى تقوم عليها اعماله ؟ .

الى غير ذلك من الاسئلة المحرجة التى لا يسويها " المداح " ، ولا يحلها " الكاراكوز " ولا يغوص عليها " اسماعيل باشا " فى اعتقادنا ، رغم أنها محاولات تجديدية طيبة لكنها ضيقة فى الآن نفسه .

ونحن حينما نعود الى التراث العربى الاسلامى ، وخصوصا الى فنياته الجمالية ، لا نريد بذلك ان نستدل على صحة مفهوم " الاصالة " (1) المزعوم ، وان نقدس هذا التراث اكثر مما يطيق من التقديس ، وان نجعله بالتالي صالحا لكل زمان ومكان ، وانما نعتبره مجموعة من القيم ، والافكار والاشكال ما زالت فى حاجة اكيدة الى التقصى ، لا سيما وانها لم تحظ بالدرس فى معظمها ، وانها قد اصيبت بداء التأويل الزائغ ، وانها دفنت بنظرة الاعجاب ، والقداسة والتقليد ... كما نعد هذه المجموعة من الاشياء جدلية مع حاضرنا ومستقبلنا رغم ان خيط الزمان قد تقطع لاسباب يعرفها العام والخاص مدة قرون طويلة .

ومتى ادركنا هذا الكلام حق الادراك ، فاننا سنمسك حتما عن تقليد ما نجم مكتملا فى التراث - سواء كان عروضا شعريا او صيغا صرفية او اجهزة فلسفية او اشكالا معمارية - وسنعمل حتما على تطويرها ، وتعصيرها ، وتثويرها حتى نربط من جديد خيط " التاريخية " بينها وبيننا بصفة حركية متفاعلة دائما .

فعلا ، لقد كان خليقا بالعرب المعاصرين ان لا يتبنوا من الفن المسرحي الا النوع ، لانهم بتقليدهم الفنيات الغربية ، ومجاراتهم الاشكال الفرنسية قد جعلوا من الفن المسرحي فنا مقصورا على الحضارة الاوربية ، فى حين

ان الشرق القديم قد عرفه حق المعرفة بتقنيات ، وأشكال أخرى لا تماثل تقنيات المسرح الغربى المعاصر وأشكاله . بسبب هذه النظرة الضيقة ، ثم يروا ان كل شكل فنى يرمز ويرمز الى ما ورائية معينة على حد تعبير سارتر . وتبعا لهذا ، ابتعد رجال المسرح العرب شططا عن اهتمامات الشعب ، وعن شواغل الانسان العربى ( مثلا )، وعن قضايا المجتمع فى بلادهم لأنهم لم يقيموا اى اعتبار للتراث ( 2 ) الذي يحتفظ به الشعب فى صدره ، والذي يصونه الانسان العربى فى حافظته ، فصار المسرح فى البلاد العربية - الا ما قل وندر منه - اما ضربا من التلهية واما عنوان المفارقة ( 3 ) على الرغم من ان هذا المسرح مكتوب بالعربية ...

ورب مسرحية تونسية عربية تتحدث عن بلادنا ، وعن شعبنا ، وعن قضايانا ، وعن مطامحنا ، لا تقاسمنا خبزنا ولا ملحنا ، ولا تزاوج انفسنا ، ولا تتسلل الى كنه سلوكنا ، ولا تستجيب لرغائبنا ، ولا ترقباتنا البادية منها والملتبسة - لان المؤلف ( او المخرج ) لم يستطع تطويع الاداة التى بين يديه ، ، ولم يقدر بالتالي على ربط ذلك الخيط الخفى السرى الشفاف بين تعبيره الفنى والجمهور الذى يتحمل ذلك التراث فى صدره ويصونه فى حافظته ، ويضطلع بشواعل اليوم المرهقة ، ويحلم بالآمال العريضة ، ولم يكن في وسعه ان يلائم عمله الفنى مع تلك النظرة الشاملة الى الكون التى اكتسبها الانسان العربى فيظل عمله هذا معوجا بين يديه وكأنه من انتاج مؤلف اجنبى يكتب باللغة العربية رغم أن حوارها عربي كما قلت آنفا ، وديكورها " باب سويقة " واشخاصها عرب اسماؤهم : محمد وأحمد وصالح ... فلهذا كله ، يتجاوز الفن المسرحي في كثير من الاحيان اللغة والمضمون . " والاستطراد " فى القديم قد اتبع فى انواع الادب كالشعر والقصة والمقال ، وفي كتب اللغة ، والبلاغة والفقه ، والتفسير ، والتاريخ . وهو ما يعترى المحور الذى يقوم عليه التصنيف من الاحداث ، والاغراض ، والكلام ، والملح ، والهزل ، والجد والامثال والعبر التى تأتي - جميعها - حسب عفو الخاطر ، وسريان السليقة ، واختلاج الملكة ، بلا ربط ، ولا شمول ، ولا عمق ، بغية امتاع القارئ والسامع وافادتهما (4) .

ولعله ايضا ذاك الذي سمى " عيبا " فى التأليف العربى القديم وهو التداخل فى الاغراض ، والتراكب فى الاحداث ، والقاء الكلام على عواهنه وتكديسه على بعضه البعض .

ولعله ثانيا ايراد تحليلات متعددة ، وربما متناقضة ، لحدث واحد .(6) ولعله ثالثا ايراد تحليلات وتأويلات كثيرة تعليقا على ما غمض فى احدى جزئيات رواية من الروايات . (7) .

و " الاستطراد " عندى هو ذاك في خطوطه العريضة ، وفي مستوياته التى ذكرتها والتي لم اذكرها ، حيث تكون كل جزئية ترتبط بسائر الجزئيات المكونة له ، وتتفاعل معها ، بلا اعتباط ، ولا عفو ، ولا خلط ، وانما عمدا وقصدا ، من اجل استحواذ على الواقع المتشعب من معظم اوجهه .

لذلك اقترحت فى بداية هذا البيان ان تكون اركاح هذا الديوان المسرحي متعددة ، ومختلفة المستويات حتى تلائم ما جاء فيه من عمل درامي .

والملاحظة الاخيرة التى اريد التنبيه اليها هي ان " الزنج " ديوان مسرحي . واقصد بذلك ان " الزنج " ليست مسرحية فقط ، بل هي تضافر بين المسرح والموسيقى ، وتناصر بين التمثيل والنحت ، وتيامن بين المنظور ، والمسموع ، والمنطوق .

اشترك في نشرتنا البريدية