عندما توفى ليو السادس امبراطور الدولة البيزنطية سنة 912 م ، خلفه ابنه الوحيد قنسطنطين السابع ، وكان عندئذ طفلا فى الخامسة من عمره ، فوضع تحت وصاية عمه الذى كانت السلطة الفعلية بيده ، ولم يستطع قنسطنطين أن ينفرد بالحكم الا سنة 945م بعد أن بلغ الاربعين من عمره ، ومع ذلك فقد انصرف كأبيه الى الادب ورسم التصاوير وتخطيط الكنائس وتأليف الكتب في الزراعة والتاريخ والجغرافيا والسياسة (1) !! وعندما توفى سنة 959م خلفه ابنه الامبراطور رومانوس الثانى .
فى ذلك الوقت كانت الدولة العباسية قد دخلت طور الانحلال والسقوط وظهر ضعفها جليا بعد أن اضمحل نفوذ بني العباس واصبحت الكلمة العليا فى العراق وفارس لامراء بني بويه ، فى حين قامت الخلافة الفاطمية فى القيروان بشمال افريقيا ، ودولة الاخشيديين فى مصر وجنوب الشام ، وظهرت وحدات سياسية مستقلة عن الخلافة العباسية ببغداد ، مثل الدولة السامانية والدولة الزيارية والدولة الغزنوية والدولة الحمدانية ، فى حين أقام العبيديون دولتهم فى شمال افريقيا على انقاض دولة الاغالبة .
وقد استغل أباطرة الدولة البيزنطية هذه الاوضاع التى تردت فيها الدولة الاسلامية وانتهزوا فرصة التفكك والتفسخ الذى اعترى وحدتها ، فوقفوا موقفا أكثر عزما وجرأة من جيرانهم المسلمين ونجحوا فعلا فى انتزاع أجزاء عظيمة من جسم الدولة الاسلامية فى أعالي العراق والشام ، وبدأت حدود الدولة البيزنطية تأخذ فى الامتداد شرقا لاول مرة منذ حركة الفتوح الاسلامية حتى
بلغت جيوش الامبراطورية ميافارقين من جهة وحلبا من جهة اخرى (2) ، كما استرد البيزنطيون جزيرة قبرص وأحرزوا انتصارات بحرية على سفن المسلمين بكريت وشمال افريقيا ، واستولوا على بارى وانتزعوا مدن أبوليا الواحدة تلو الاخرى حتى استولوا على تارنتو معقل المسلمين فى جنوب ايطاليا ، واجتاح القائد البيزنطي نقفور فوقاس - جد الامبراطور البيزنطى وسميه نقفور الثاني فوقاس - اقليم كالبريا ولم يترك معقلا واحدا فى أيدى المسلمين فى الجزء الجنوبي الشرق من ايطاليا (3) .
فى هذا الوقت المضطرب بالاحداث والانقسامات السياسية والخلافات المذهبية والحركات الثورية كالحركة الخرمية التى تزعمها بابك الخرمي وحركة المعتزلة ، وثورة صاحب الزنج في جنوب العراق وثورة القرامطة قرب واسط بالعراق ، لم توجد قوة تعترض أطماع الامبراطورية البيزنطية وزحفها من حدودها الشرقية نحو أعالي الشام سوى قوة الحمدانيين الذين أقاموا دولتهم في النصف الاول من القرن العاشر فى أعالي بلاد ما بين النهرين ثم مدوا نفوذهم وبسطوا سلطانهم على أعالي الشام وقيليقية .
وعندما اعتلى الامبراطور رومانوس الثاني العرش سنة 959م أرسل قائده نقفور فوقاس سنة 960م ، لاسترداد جزيرة كريت من المسلمين فنجح هذا القائد البيزنطى فى مهمته واتبع انتصاراته بمهاجمة الحمدانيين والاستيلاء على بعض المعاقل ذات الاهمية الاستيراتيجية في قيليقية .
وعندما توفى هذا الامبراطور سنة 963م تاركا ولديه الصغيرين باسل الثانى وقنسطنطين الثامن تحت وصاية أمهما ثيوانو - اعتبر نقفور فوقاس نفسه ، نتيجة لانتصاراته الحربية - شريكا لهذين الغلامين فى حكم الامبراطورية وخاصه بعد أن تزوج من أمها وظل يحكم الامبراطورية باسم الولدين القاصرين ست سنوات من 963-969 م تحت اسم الامبراطور نقفور الثاني فوقاس .
وقد خاض نقفور فوقاس هذا حروبا طاحنة ضد المسلمين فأتم غزو قيليقية كما أرسل أحد قواده واسمه نقتاس لغزو قبرص سنة 965م (4) ، ثم عاد الى تهديد أعالى الشام فاستولى على انطاكيه وامارة حلب معقل الحمدانيين وتعهدت له دمشق بدفع الجزية !
على أن خشونة هذا القائد البيزنطى الذى اغتصب السلطة وأعلن نفسه امبراطورا ، وكذلك سياسته المالية التى أدت الى صدام بينه وبين التجار من جهة والكنيسة من جهة أخرى ، واحتكاره بيع الغلات والنبيذ والزيوت والمغالاة فى فرض الضرائب والتلاعب فى قيمة العملة بسبب حاجته الشديدة الى المال لتقوية الجيش (5) ، وكذلك مسلكه تجاه شريكيه الصغيرين فى الحكم ، كل هذا أخاف أمهما ثيوفانو وجعلها تتوجس منه خيفة ، فتآمرت ضده مع عشيقها حنا شميشق John Zimisces ونجح المتآمرون فى قتله أثناء نومه (6) وكما يقول المؤرخ ابن كثير " سلط الله عليه زوجته فقتلته بجواريها فى وسط مسكنه " (7) ! وأعلن حنا الاول شميشق نفسه امبراطورا للدولة البيزنطية .
وهكذا كانت نهاية نقفور فوقاس على يد زوجته وعشيقها .
يذكر ابن الاثير فى كتابه " الكامل فى التاريخ " أن نقفور هذا كان من أبناء المسلمين ؛ كان أبوه من أهل طرسوس من خيار المسلمين يعرف بابن الفقاس ، فتنصر ولده هذا وحظى عند النصارى حتى صار من أمره ما صار . (8)
ولكننا نستبعد هذه الرواية ولا ندرى المصدر الذى استقاها ابن الاثير منه ، حيث أننا لم نجد لها أى صدى فيما بين أيدينا من المراجع الاجنبيلة ، بل على العكس فان الثابت أن جد هذا الامبراطور واسمه ايضا " نقفور فوقاس " كان
أحد قواد الدولة البيزنطية على عهد الامبراطور باسل مؤسس الاسرة المقدونية ( 881-867 م ) المعروفة فى تاريخ الامبراطورية البيزنطية .
لقد كان هذا الامبراطور - كما يقول ابن كثير - من أغلظ الملوك قلبا وأشدهم كفرا وأقواهم بأسا وأحدهم شوكة وأكثرهم قتلا وقتالا للمسلمين فى زمانه ، استحوذ فى أيامه على كثير من السواحل وأكثرها انتزعها من ايدى المسلمين قسرا واستمرت في يده قهرا وأضيفت الى مملكة الروم قدرا وكان لا يدخل فى بلد الا قتل المقاتلة وبقية الرجال وسبى النساء والاطفال ، وجعل جامعها اصطبلا لخيوله وكسر منبرها (9) .
فى هذا الوقت الذى ظهر فيه نقفور كان الخليفة العباسى هو المطيع لله بن المقتدر ( 334 ه / 945م -363 ه / 973 م ) ، فأرسل اليه نقفور قصيدة كتبها له بعض كتابه ممن استمالهم الى جانبه من الخونة والعملاء يفتخر فيها الناظم بامبراطوره نقفور ويتعرض فيها للمسلمين ويتوعدهم بأنه سيمتلك ما في حوزتهم من البلدان ، وقد نقل ابن كثير فى تاريخه " البداية والنهاية " هذه القصيدة عن خط ابن عساكر الذي نقلها بدوره عن كتاب صلة الصلة للفرغانى .
يقول ناظم هذه القصيدة على لسان نقفور فوقاس :
الى الملك الفضل المطيع أخى العلا ومن يرتجى للمعضلات العظائم !!
أما سمعت أذناك ما أنا صانع ؟ ولكن دهاك الوهن عن فعل حازم
فان تكما قد تقلدت نائما فانى عما همنى غير نائم
ثغور كمو لم يبق فيها لوهنكم وضعفكمو - الا رسوم المعالم
فتحنا الثغور الارمنية كلها بفتيان صدق كالليوث الضراغم
-
-
ثم يعدد الناظم أسماء البلاد التى افتتحها البيزنطيون مثل قنسرين وملطية وسميساط وكركر وميافارقين وكريت وعين زربة وحلب وطرسوس ، كما يذكر أسماء البلاد التى ينوى الامبراطور فتحها مثل انطاكيه ودمشق ومصر ويتوعد بني حمدان فيقول :
ألا شمروا يا أهل حمدان شمروا أتتكم جيوش الروم مثل الغمائم
كذلك يذكر من البلاد التى ينوى فتحها نصيبين والموصل وسامرا وكوثا وعكبرا وتكريت وماردين وبغداد ، ويقول عن أهل بغداد :
ألا شمروا يا أهل بغداد ويحكم فكلكم مستضعف غير رائم
رضيتم بحكم الديلمى ورفضه فصرتم عبيدا للعبيد الديالم
سألقى جيوشا نحو بغداد سائرا الى باب طاق حيث دار القماقم !
كذلك يذكر من البلاد التى ينوى فتحها الاهواز وشيراز والرى وخراسان وانباس وبلغ وفرغانة ومرو وسابور وكرمان وسجستان وكابل والبصرة وواسط والكوفة واليمن وزبيد وصنعاء وصعدة والقدس !!
وواضح أن ما جاء بهذه القصيدة عن البلدان التى انتوى نقفور فتحها لا يعدو أن يكون من قبيل أحلام اليقظة وهذيان الواهمين .. وربمان يكون من قبيل التهديد والوعيد الاجوف الذى نقرأه كثيرا فى رسائل الشعوب المجاورة للمسلمين كالرومان والبيزنطيين والتتار . (10)
على أن الذى يدعو الى الدهشة حقا أن أحدا من الشعراء المعاصرين لتاريخ نظم هذه القصيدة - على كثرتهم - لم ينهض للرد عليها ، وقد علل ابن كثير ذلك تعليلا مقبولا حيث قال " لم يبلغني عن أحد من أهل ذلك العصر انه رد على ناظمها جوابه ، أما لانها لم تشتهر واما لانه أقل من أن يردوا خطابه " (11)
وتمضى على هذه القصيدة أعوام طويلة حتى يصل نبأها الى أبى محمد بن حزم الظاهرى الاندلسى ، فتأخذه النخوة والغيرة على الاسلام والمسليمين وينبرى للرد عليها بقصيدة رائعة من نفس الوزن ونفس الروى .
وابن حزم الاندلسى غنى عن التعريف ، فهو صاحب المؤلفات والرسائل العديدة التى بلغت نحوا من اربعمائة كتاب ورسالة لم يصلنا منها الا القليل ، ومن أشهرها كتابه " طوق الحمامة فى الالفة والآلاف " وهو كتاب وضعه ابن حزم فى الحب العذرى والسيرة الذاتية وحظى بعناية الدارسين والمحققين من
كبار المستشرقين فى أنحاء العالم ، وكذلك كتابه " الفصل فى الملل والاهواء والنحل " الذى يعتبره الدكتور عبد الحليم عويس أول كتاب علمى فى الدين المقارن (12) .
انبرى ابن حزم اذن للرد على تلك القصيدة ، ويروى انه قالها ارتجالا حين بلغته غضبا لله ولرسوله ودينه .
يقول ابن حزم فى مطلعها :
من المنتمى لله رب العوالم ودين رسول الله من آل هاشم
الى قائل بالافك جهلا وضلة عن النقفور المفترى فى الاعاجم
ثم يعلل ابن حزم أسباب انتصار البيزنطيين على المسلمين فيقول :
ولما تنازعنا الامور تخاذلا ودانت لاهل الجهل دولة ظالم
وقد شعلت فينا الخلائف فتنة لعبدانهم مع تركهم والديالم
وثبتم على أطرافنا عند ذاكمو وثوب لصوص عند غفلة نائم !
وواضح من ذلك أن ابن حزم يعلل ما صارت اليه أحوال الدولة العباسية بتخاذل الخلفاء العباسيين وضعفهم واستسلامهم لتحكم الاعاجم والترك والديلم فيهم وفى الدولة الاسلامية ، والمعروف عن ابن حزم أن هواه كان مع الامويين فى الاندلس ، وقد تولى الوزارة أيام امارة صديقه عبد الرحمن بن هاشم الذى تولى أمر بنى أميه بعد ذهاب دولة بنى حمود فى قرطبة سنة 413 ه ، وقد تشرد بن حزم فى البلاد الاندلسية بسبب ميوله الاموية .
ثم يعدد ابن حزم فى قصيدته البلاد التى انتزعها المسلمون من أيدى الفرنجة ، ومنها جميع بلاد الشام ومصر والقيروان والاندلس وصقلية وبيت لحم ، ويذكر نقفور فوقاس بحرب يزيد بن عبد الملك وهجومه على القسطنطينية سنة 718م يجيش مؤلف من ثمانين ألف مقاتل يسانده أسطول من ألف وثمانمائة سفينة حربية بقيادة مسلمة بن عبد الملك ومحاصرة عاصمة الامبراطورية البيزنطية سنة كاملة (13) فيقول :
أليس يزيد حل وسط وسط دياركم على باب قسطنطينية بالصوارم
ومسلمة قد داسها بعد ذاكمو بجيش لهام قد دوى بالضراغم
كما يذكره أيضا بدفع الامبراطورة ايرين الجزية للخليفة العباسى هارون الرشيد حينما اجتاحت جيوشه آسيا الصغرى سنة 786 م حتى وصلت الى البسفور ودقت أبواب القسطنطينية فاشترت الصلح من المسلمين مقابل مبلغ ضخم تعهدت بدفعه (14) سنويا :
وأدى لهارون الرشيد مليككم رفادة مغلوب وجزية غارم
ثم يقول ابن حزم مذكرا اياه بانتصارات المسلمين على هرقل وقيصر فى ضخم تعهدت بدفعه (14) سنويا :
ولكن سلوا عنا هرقل ومن خلا لكم من ملوك مكرمين قماقم
يخبركمو عنا التنوخ وقيصر وكم قد سبينا من نساء كرائم
وعما فتحنا من منيع بلادكم وعما أقمنا فيكمو من مآتم !
واذ كان نقفور يحلم فى قصيدته بالاستيلاء على دمشق وغيرها من بلدان العالم الاسلامى ، فقد حذره ابن حزم من هذه الاحلام وتوعده بما ينسبه اياها فيقول :
فما لكم الا الامانى وحدها بضائع نوكى تلك احلام نائم !!
فهيهات سامرا وتكريت منكمو الى جبل تلكم أمانى هائم !!
دعوا الرملة الصهباء عنكم فدونها من المسلمين الغر كل مقاوم
ودون دمشق جمع جيش كأنه سحائب طير ينتحى بالقوادم
ومن دون أكناف الحجاز جحافل كفطر الغيوم الهاملات السواجم
بها من بني عدنان كل سميدع ومن حى قحطان كرام العمائم
سيأتيكمو منا قريبا عصائب تنسيكمو تذكار أخذ العواصم
ولو قد طرقتم من خراسان عصبة وشيراز والرى الملاح القوائم
لما كان منكم عند ذلك غيرما عهدنا لكم .. ذل وعض الاباهم
وفى فارس والسوس جمع عرموم وفى أصبهان كل أروع عارم
فلو قد أتاكم جمعهم .. لغدوتمو فرائس كالآساد فوق البهائم
جموع تسامى الرمل عدا وكثرة فما أحد عادوه منهم بسالم
فلو قد لقيناكم لعدتم رمائما كما فرق الاعصار عظم البهائم
وباليمين الممنوع فتيان غارة إذا ما لقوكم كنتمو كالمطاعم
وفى جانبى أرض اليمامة عصبة معادن أمجاد ، طوال البراجم
والغريب فى هذه القصيدة ، أن ابن حزم رغم ميوله الاموية وما لقى بسببها من تشريد ، يعرج على ذكر بنى العباس ويذكر الخليفة العباسى فيقول :
خليفة حق ينصر الدين حكمه ولا يتقى فى الله لومة لائم
والى ولد العباس تنمى جدوده بفخر عميم مزبد الموج فاعم
ملوك جرى بالنصر طائر سعدهم فأهلا بماض منهم وبقادم
محلهمو فى مسجد القدس أو لدى منازل بغداد محل المكارم
هموا نصروا الاسلام نصرا مؤزرا وهم فتحوا البلدان فتح المراغم
ثم يتوعد ابن حزم نقفور فوقاس بفتح القسطنطينية والصين والهند فيقول :
سنفتح قسطنطينية وذواتها ونجعلكم فوق النسور القشاعم
ونفتح أرض الصين والهند عنوة بجيش لارض الترك والخزر حاطم
مواعيد للرحمن فينا صحيحة وليست كآمال العقول السواقم
ولا ينسى ابن حزم تضلعة فى دراسة الاديان والمقارنة بينها وهم مؤلف كتاب الفصل فى الملل والاهواء والنحل ، فينظم بضعة أبيات يضمنها هذه المقارنة ويخلص من ذلك الى الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم فيقول عنه :
وحاباه بالنصر المكين الهه وصير من عاداه تحت المناسم
فقير وحيد لم تعنه عشيرة ولا دفعوا عنه شتيمة شاتم
ولا عنده مال عتيد لناصر ولا دفع مرهوب ولا لمسالم
وشق له بدر السموات آية وأشبع من صاع له كل طاعم
وسالت عيون الماء من وسط كفه فأروى به جيشا كثير الهماهم
عليه سلام الله ماذر شارق تعقبه ظلماء أسحم قاتم
ثم يختتم ابن حزم قصيدته مقارنا بينها وبين قصيدة نقفور فوقاس فيقول :
أتيتم بشعر بارد متخاذل ضعيف معانى النظم جم البلاعم
فدونكها كالعقد فيه زمرد ودر وياقوت باحكام حاكم
