" كان للقاضى ابي بكر بن قريعة ثور أبيض يعز عليه كثيرا فلما قضى على هذا الثور العزيز حزن عليه القاضي حزنا بليغا وبكى عليه وابنه .... وجلس يتقبل عزاء الناس فيه . وتسرب هذا النبأ الطريف الى مسامع الوزير البليغ الى اسحاق الصابى فأرسل الى القاضي من فوره خطاب تعزية رائع ، جمع بين طرفى الجد والهزل . والتهكم والدعابة فاجابه القاضي بخطاب شكر رقيق عدد فيه مزايا الفقيد المأسوف عليه ، ووصفه بانه ( من أعيان البقر ) . . وهكذا تكون لنا من هذه الحادثة الطريقة أقصوصة رائعة تطفح بالمرح والادب الفكاهى الخلاب . قال الصابي : -
التعزية على المفقود اطال الله بقاء القاضي ، انما تكون بحسب محله من فقده من غير ان تراعي قيمته ولا قدره ، ولا ذاته ولا عينه ، اذ كان الغرض فيها تبريد الغلة ، واخماد اللوعة ، وتسكين الزفرة ، وتنفيس الكربه ، فرب ولد عاق واخ مشاق ، وذي رحم أصبح لها قاطعا ، وقريب قوم قد قلدهم عارا ، وناطبهم شنارا ، فلا لوم فى ترك التعزية عنه ؛ وآحربها ان تكون تهنئة بالراحة منه .
ورب مال صامت غير ناطق ، قد كان صاحبه مستظهرا ، وله مستثمرا . فالفجيعة به إذا فقد موضوعة موضعها ، والتعزية عنه واقعة منه موقعها . وقد بلغني ان القاضى اصيب بثور كان له ، فجلس للعزاء عنه شاكيا . وأجهش عليه باكيا ، وتندم عليه والها وحكيت عنه حكايات في التأبين له ، واقامة الندبة عليه ، وتعديد ما كان فيه من فضائل البقر التى تفرقت في غيره ، واجتمعت فيه وحده ، فصار كما قال ابو نواس ، فى مثله من الناس :
ليس على الله بمستنكر ان يجمع العالم فى واحد
لأنه يكرب الارض معمورة ، ويثيرها مزروعة ، ويدور فى الدواليب ساقيا ، وفى الارجاء طاحنا ويحمل الغلات مستقلا ، والأثقال مستخفا : فلا يؤده عظيم ، ولا يعجزه جسيم ، ولا يجرى فى الحائط مع شقيقه ، ولا فى الطريق مع رفيقه . الا كان جلدا لا يسبق ، ومبرزا لا يلحق ، وفائتا لا ينال شأوه وغايته . ولا يبلغ مداه ونهايته ، ويشهد الله ان ما ساءه ساءني . وما آله المنى ، ولم يجز عندى فى حق وده ، استصغار خطب جل عنده . فأرمضه وأرقه وآمرضه واقلقة فكتبت هذه الرقعة مصابها من الجوى فى مصابه هذا بقدر ما انتهز من ا كباره اياه . وابان من اعظامه له : واسأل الله تعالى ان يخصه من المعوصة بافضل ما خص به البشر ، عن البقر . وان يفرد هذه البهيمة العجماء بأثرة من الثواب . يضيفها الى المكلفين من ذوى الالباب : فانها وان لم تكن منهم فقد استحقت ان لا تفرد عنهم بان مس القاضى سببها ، وصار اليه منتسبها ، حتى اذا انجز الله ما وعد به من تمحيص سيئاتهم . وتضعيف حسناتهم . والأفضاء بهم الى الجنة التى رضيها لهم دارا ، وجعلها لجماعتهم قرارا ، وأورد القاضي ايده الله تعالى موارد اهل النعيم ، مع أهل الصراط المستقيم جاء وثوره هذا مجنوب معه ، مسموح له به ، وكما ان الجنة لا يدخلها الخبث ، ولا يكون من أهلها الحدث ، ولكنه عرق يجرى من أعراضهم ، كذلك يجعل الله ثور القاضي مركبا
من العنبر الشحرى ، وماء الورد الجورى . فيكون له جونة عطر ونورا . وليس ذلك بمستبعد ولا مستنكر ، ولا مستصعب ولا متعذر ، إذ كانت قدرة الله بذلك محيطة . ومواعيده لأمثاله ضامنة بما اعده الله فى الجنة لعباده الصادقين وأوليائه الصالحين من شهوات انفسهم ، وملاذ أعينهم . وما هو منحة من غامر فضله ؛ وفائض كرمه ، عاقبة ذلك مع صالح مساعيه . ومحمود شيمه . وقلبي متعلق بمعرفه خبره . ادام الله عزه فما ادرعه من شعار الصبر ، واحتفظ به من ايثار الآجر . ورفع اليه من السكون لأمر الله تعالى فى الذى طرقه ، والشكر له فيما ازعجه واقلقه ، فليعرفني القاضي من ذلك ما اكون ضاربا معه بسهم المساعدة عليه ، وآخذا بقسط المشاركة فيه .
جواب القاضي ابي بكر
وصل توقيع سيدنا الوزير ، اطال الله بقاه ، وادام تأييده ونعماه ، واكمل رفعته وعلاه ، وحرس مهجته ووقاه . بالتعزية عن " الثور الابيض " الذي كان للحرث مثيرا ، وللدواليب مديرا ، وبالسق الى سائر المنافع شهيرا ، وعلى شدائد الزمان مساعدا وظهيرا ، لعمرك لقد كان بعمله ناهضا ولحاقات البقر رافضا ، وابى لنا بمثله وشرائه وهو لا يشرى ؛ فانه ( من اعيان البقر ) وانفع اجناسه للبشر ، مضاف ذلك الى خلات لولا خوفى من يجدد الحزن عليه ، وتهيج الجزع وانصرافه اليه لعددتها ليعلم ادام الله عزه : ان الحزين عليه غير ملوم . وكيف يلام امرؤ فقد من ماله قطعة يجب فى مثلها الزكاة . ومن خدم معيشته بهيمة تعين على الصوم والصلاة ؟ ! . وقد احتذيت مامثله الوزير من جميل الاحتساب ، والصبر على المصاب : فقلت : انا لله وانا اليه راجعون : قول من علم ان المرء لا يملك نفسه وماله واهله ، بل لا يملك شيئا دونه ، اذ كان جل ثناؤه ، وتقدست اسماؤه هو الملك الوهاب ، ارتجع ما ارتجع بعوض هو نفيس الثواب : وقد وجدت ايد الله الوزير ، للبقر خاصة : فضيلة على سائر بهيمة الانعام ؛ تشهدها العقول والافهام

