ان الغربيين لم يقفوا عند حد الاعتناء بتلقين ابنائهم تواريخهم وعرضها عليهم بل تجاوزوا ذلك الى ما هو أبعد أثرا فى نفوس الامة فأقاموا التماثيل لعظمائهم بالساحات العامة وشيدوا باسمائهم المعالم الفخمة وسموا الانهج والساحات باسماء افذاذهم في العلم والادب والاختراع والسياسة والقيادة .
ولا براح ان لذلك اثره فى النفوس لما جبلت عليه النفس من الطموح الى العظمة والتعلق بأسباب الشهرة والخلود .
فالنشء الذى يغدو ويروح كل يوم وفى طريقه تلك النصب والمعالم والاسماء المرسمة على الطرق والازقة تستلفت نظره وتترك فى نفسه أثرا وأى أثر ، فتنزع نفسه الى سبل المجد والكفاح وتشق طريقها الى العظمة وحسن الاحدوثة ، فيأتى منه عظيم في العلم أو السياسة أو الادب أو الفن .
ووفاء بالواجب المفروض - واجب التعريف باعلام رسمت اسماؤهم على لوحات حديدية جعلت كأسماء للطرقات تقع بين سمع من يسمعها وينظر اليها من سكان احياء مدينة تونس ولا يعرفون من هو ابن البرا ولا ابر تاشفين ولا الطرودى ولا الرميمى ولا الفرجانى ولا ابن الفرس فوفاء بذلك سنوالى ما سمحت بذلك الفرصة نشر توضيحات وتعريفات باصحاب تلك الاسماء .
نهج المناطقي :
هو من أشهر أنهج ربض باب الجزيرة ويقع قريبا جدا من بناية قوس الباب الجديد : أحد أبواب تونس المشهورة .
والمناطقى هذا ، واسمه عبد الرحمن ، من أبرز رجال التصوف وفضلاء الزهاد العباد ، ساح كثيرا بالمغرب والمشرق ، واجتمع بأفاضل أهل العلم
والتصوف مثل : عبد الله القرشى بمصر ، ومحمد الفخر الفارسى . وعبد العزيز بن أبى بكر القرشى بتونس ، وأبى سعيد الباجى .
وقد انقطع المناطقى للعبادة والنظر بجبل زغوان ، وكان هذا الجبل مراد المتصوفين ، وكان العشابون المترددون على الجبل لجمع الاعشاب الطيبة يترفبون خروجه للاحتماء به تقية من الحيوانات الضارية هناك ، فقد قيل : ان الحيوانات المذكورة اذا رأته تفر وتبعد عنه وعمن يكون معه . ومما يحكى عنه انه كان يكلمها ويحذرها من أصحابه فتبتعد عنهم .
وقد نقل الى أبى سعيد الباجى ما شوهد من احوال المناطقى بزغوان وما ناله من الشهرة ، فبعث اليه رسالة شفوية يقول فيها : " دع عنك ذلك وانظر الى العيون الفلق فى المحاجر الزرق " .
وبسماع ذلك انتقل المناطقى من زغوان الى تونس واستقر بها ، وعرفت له بها كرامات ، وكانت له أذكار وأدعية تنسب اليه . وبتونس كانت وفاته سنة 630 ودفن جبلى الباب الجديد بدار تعرف باسمه المسمى عليها النهج المذكور وهى الدار التى هى الآن فى تصرف ورثة المرحوم ابن ميلاد صاحب مصنع التجليد .
وبهذا النهج تربة أبرز ما تمتاز به وجود قبر العلامة النظار مفخرة الاندلس وتونس قبر ابن الغماز فمن هو ابن الغماز ؟
ابن الغماز :
هو احمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن سعيد بن على بن مكنف الخزرجى الازدى البلنسى كان والده من فقهاء بلنسية وزهادها ولد يوم عاشوراء ببلنسية عام 609 وتوفى بتونس يوم عاشوراء سنة 693 ، ومن العجيب اتفاق يوم ولادته بيوم وفاته فكلاهما وقع يوم عاشوراء .
وقد غلط صاحب المرقبة العليا فى تاريخ وفاته اذ قال : انها كانت فى رمضان سنة 633 كما غلط الشيخ محمود مقديش اذ قال : انها وقعت فى المهدية وقد اشتبه عليه ابن الخباز يابن الغماز .
والغماز كشداد من الغمز بمعنى الجس والكبس باليد يقال : غمز القناة جسسها وعضها ليختبرها .
وقد تعلم ابن الغماز ببلده بعد حفظه القرآن وظهرت مخائل نجابته تطلعه للمزيد من المعارف فأخذ عن محمد بن احمد بن صاحب الصلاة القرآن برواية نافع من طريقها جمعا ، فى ربيع سنة 621 وأخذ عن محمد بن سلمون كتاب التيسير واكثر من الاخذ والاستفادة من ابى الربيع الكلاعى سمع منه الموطأ برواية يحيى بن يحيى وابن خيرة الاندلسي وأبى الحسين السراج كما اخذ عن اللخمى العزفى السبتى وأبى بكر بن محرز ببجاية وأبى المطرف بر عميرة وأبى الحسن بن نصر وأبى الحجاج بن عبد الرحمن وأبى نصر فاتح بن عبد الله البجائى وروى عن أبى عبد الله ابن روبيل كتاب الصحبة للسلمى وروى عن أبى عبد الله بن على بن الزبير وأبى عثمان بن زاهر وابن قطرال ومحمد بن أبى السداد .
وكاتبه واجاز له غير من ذكر تسعة وثمانون عالما من المشرق والمغرب والاندلس ذكرهم جميعا المراكشى فى القسم الاول من السفر الاول من كتاب الذيل والتكملة لكتابى الموصول والصلة ص 412-411-410 .
ومن أبرز من قرأ عليه ابن راشد القفصى وابن جابر الوادى آشى وأبو العباس الغبرينى وأبو الحسن التجانى وأحمد البطرنى .
كان يقرئ العلم بداره وكانت مفتحة صباحا ومساء وهى الدار التى دفن بها . كان رحمه الله فقيها مفتيا عارفا بالوثائق متميزا فيها وصفه الشيخ مخلوف في شجرة النور الزكية بقاضى القضاة الراوية العالم المتفنن المتقن . ووصفه فى درة الحجال بالعلم والفضائل والرئاسة والتدين وحسن الخلق وأنه معروف بالعدالة والنزاهة وكان أعلى أهل افريقية اسنادا فى القرآن .
وقد عرف بالمطايبة والكرم والصبر وحسن التدبير ومحبة الناس له مع ما فيه من صلابة في الحق مع نبوغ فى السياسة وكانت له عناية بلقاء رجال الحديث .
ولسموه فى الثقافة العامة وتفوقه فى معارجها ونبوغه فى الادب والشعر ونفاذ رأيه في السياسة والادارة تعلقت رغبة الخليفة الحفصى به فسمى أو عدلا ببحاية والعدالة كانت هي المعبر للقضاء والفتوى ، ثم ولى القضاء بها والخطابة بجامعها الاعظم ، ثم دعى الى القضاء بالحاضرة تونس عوضا عن ابن الخباز وظهر من نبله فيه ما عجز عنه غيره ممن تقدمه ، وعزل ثم ولى القضاء مرارا لا عن ريبة بل يؤخر عنه لما هو أرقى ويرجع اليه عند المهمات ، ولم
يقبل قضاء الجماعة بتونس الا بشروط شرطها على المستنصر الحفصى : أن يكون على رأيه فى الدخول على الخليفة متى شاء ، وانه اذا عرضت له مشورة السلطان فى شىء من شؤونه أجاب عليه لحينه بالمشافهة والمكاتبة ، وان تكون جرايته وجراية أعوانه من الاعشار الرومية
وقد كانت ولايته للقضاء الاخيرة فى 19 رمضان سنة 691 ومات وهو عليها ، وقيل استقال من القضاء وعكف على الدرس والرواية والتصحيح
ولم اقف بين المصادر التى تحدثت عن ابن الغماز من ذكر انه أعقب ذرية تحمل لقب ابن الغماز بتونس ، نعم ذكر في نفح الطيب انه جلس حسب العادة بجامع الزيتونة لارتقاب الهلال ونزل الشهود من الصومعة واخبروه بانهم لم يهلوه وورد اثرهم حفيده الصغير فاخبرهم انه أهله فأرجعهم معه فأراهم الهلال فقال أبو العباس ابن الغماز : ( ما اشبه الليلة بالبارحة ) وقع مثل هذا مع أبى الربيع بن سالم فأنشدنا فيه :
توارى هلال الافق عن أعين الورى وأرخى حجاب الغيب دون محياه فلما تصدى لارتقاب شقيقه تبدى له دون الانام فحياه
فهذا النص يفيدنا بوجود حفيد له ولكن لا ندرى هل هو ابنه أو ابن ابنته ؟ ذلك ما لا نعلمه .
حياته السياسية :
لبعد نظره وحصافة رأيه وقوة حجته وسمو بيانه فى الكتابة والخطابة ، جعله الخليفة الحفصى ضمن هيئة الوفد الذى وقع المعاهدة مع الملك ( سان لوى ) فى حملته الصليبية على تونس وكتب الصلح على يدى القاضى ابن زيتون . ولكفاءة ابن الغماز ونبوغه فى ميدان السياسة وقع عليه اختيار المستنصر الحفصى فى سفارة إلى المغرب الاقصى فنجح فيها ووصف من رئاسته وعلو همته بما دل على فضله وانتخاب طينته .
ومن مواقفه الخالدة في هذا المجال قيامه بشؤون الناس ببجاية بعد ان عاث فيها المفسدون بعد خروج الجيش لحصار ( مليانة ) فقام ابن الغماز على شؤونها وشيد اسوارها وحصن أبراجها وظهر من كفاءته ورجاحة عقله وكمال فضله ونبله واجتهاده ما حمد به أمره وجل به قدره .
هذا ابن الغماز العدل المبرز القاضى العادل والسياسي المدرك المحنك .
أما ابن الغماز الاديب النابغ فنجد بين المصادر الوثيقة قطعا من شعره نبين عن روح شاعرية يتمثل فيها سمو المعانى الجدية الروحية فى تماسك سبك وقوة حوك وحبك من ذلك قوله :
هو الموت فاحذر ان يجيئك بغتة وانت على سوء من الفعل عاكف
واياك ان تمضى من الدهر ساعة ولا لحظة الا وقلبك واجف
وبادر بأعمال تسرك ان ترى اذا نشرت يوم الحساب الصحائف
ولا تيأسن من رحمة الله إنه لرب العباد بالعباد لطائف
ومثله قوله :
أما آن للنفس ان تخشعا ؟ ؟ أما آن للقلب أن يقلعا ؟ ؟
أليس الثمانون قد أقبلت ؟ فلم تبق في لذة مطمعا
نقضى الزمان ولا مطمع لما قد مضى منه أن يرجعا
نقضى الزمان فوا حسرتى لما فات منه وما ضيعا
ويا ويلتاه لذى شيبة يطيع هوى النفس مهما دعا
وبعدا وسحقا له إذ غدا يسمع وعظا ولن يسمعا
وقوله
يا منفق العمر فى حرص وفى طمع الى متى قد تولى وانقضى العمر ؟
الى متى ذا التمادى فى الضلال أما تثنيك موعظة لو ينفع الذكر
بادر متابا عسى ما كان من زلل وما اقترفت من الاثام يغتفر
وجانب الحرص واتركه فما أحد ينال بالحرص ما لم يعطه القدر
ولا تؤمل لما ترجو وتحذره من ليس فى كفه نفع ولا ضرر
وفوض الامر للرحمن معتمدا عليه فى كل ما تأتي وما تذر
واحذر هجوم المنايا واستعد لها ما دام يمكنك الاعداد والحذر
وقوله :
وقالوا : أما تخشى ذنوبا أتيتها ولم تك ذا جهل فتعذر بالجهل
فقلت لهم : هبني كما قد ذكرتم تجاوزت فى قولى واسرفت فى فعلى
اما فى رضا مولى الموالى وصفحه رجاء ومسلاة لمقترف مثلى
وقوله : من كان يعلم لا محالة أنسة لا بد ان يودى وان طال المدى هلا استعد لمشهد يجزى به من قد أعد من اهتدى ومن اعتدى
وانشد رحمه الله واغدق عليه شئابيب رحمته وغفرانه فى اليوم الذى مات فيه وهو آخر ما سمع منه قوله :
ادعوك يا رب مضطرا على ثقة بما وعدت كما المضطر يدعوكا
دارك بعفوك عبدا لم يزل ابدا فى كل حال من الاحوال يدعوكا
طالت حياتى ولما اتخذ عملا إلا محبة أقوام أحبوكا
هذه المامة تاريخية تتصل بمعبر - طريق - من معابر مدينة تونس لم بعرف سكانها من هو المناطقى ومن هو ابن الغماز ولكل منهما مكانته فى الفضل والعلم والعمل والنباهة فى الذكر ، وحبذا لو تتوفق جهود المصلحين المخلصين الى الدعوة للمحافظة على هذه الاماكن الاثرية وعدم طمس أضرحة من بها من رجال العلم والادب والفكر وفي ذلك وفاء بالواجب لمن كان أحسن عملا وأقوم سبيلا
