تعرف الامم الناهضة للمعارض قيمتها ، كما تقدر للمتاحف اهميتها ، فتصرف لهما جانبا من عنايتها لتريهما فى مظهر لائق بكرامتها ، وتمنحهما مقدارا من رعايتها وماليتها ليبلغا المستوى الذي يجسم حاضرها ويصور غابرها فى صورة مشرقة نضرة
على اديمهما تنطبع حقيقتها ، وفى ميدانيهما ترى يومها وامسها . من خلال قسمات هى صغيرة مهما اتسعت وضئيلة وان امتدت - مما لا يسعك ان تراه في سويعات معدودة لو قدر لك أن تشهدها فى الشوارع والاسواق ، علاوة على معاكسة تصطدم بها مع الواقع ان طلبت منه غير الواقع
وما في الواقع وحده يستنفد التعرف عليه جانبا كبيرا من الزمن ، ويستهلك قسطا ضخما من النشاط والصبر ويتطلب اعوانا خبيرين ، وادلآء ماهرين ، وهم ان نفعوا فى الوقوف على المتاجر والمصانع ، والملاجئ والمدارس والمدن والقرى والحدائق والمنشات وسائر مختلف نواحى النشاط فانهم عجزة عن ان يرجعوا بالحياة للتاريخ ، وبالتاريخ للحياة ، ولن تجد ذلك الا فيما تقيمة الدولة من معارض للغابرين فى الآماد الغابرة داخل المتاحف ، وهناك فقط تنعكس صورة الماضى انعكاس قرص الشمس على قطرة الماء ، وانسانى العين وقد تضاءلت رفعته على قدرهما وحجمهما فى غير تخل عن الملامح والميزات ولا : تغيير من الكيان فى العيان ، فتراها فى افق واسع الامتداد من الخيال يوحى بالدروس والبلى وينطق بالاندثار والتحول وقد افتقدت اجزاؤه ومودعات الحرارة والحياة ، وتلفعت بالفناء الصامت ، والجمود البارد
فالمتاحف معارض ولكنها معارض لما تولى ظله ، وزال يومه ، والمعارض متاحف ولكنها متاحف المستجد الطريف الذي يساير عهده ، ويلاحق غده ثم ينتهي بنفسه او بغيره الى ما انتهى اليه سلفه وينتهى عنده خلفة بالتعاقب المتاحف معارض ، والمعاض متاحف لافرق بينهما الامن جهة الحدود الزمانية التى تحدث عنها هذه وتلك ، والنماذج الشاخصة فيها ، بحقائقها الماثلة الوجود ، او باطيافها التى ما فى باطنها اكثر مما فى ظاهرها من الجمود ،
وبالاخبار التى تنسبها الاولى لغير من تنسبها اليه الثانية ، والاجيال المختلفة التى صنعت كليهما ، ودلت عليها بما لديهما .
فاذا هي من صانع موجود فى المعارض ، واذا هي من معدوم فى المتاحف .
ولا يرى من قدر له ان يزورهما اكثر من صور موحية بالتاريخ ، بالتاريخ الحي المعاصر فى المعرض ، والراسب الغابر فى المتحف ، وهو فرق لا يقوى على سلب ايهما دلالته على معالم عصره ، واحداث دهره .
وما فيهما من المعانى يفسر مرتبة الشعب فى سلم القيم الاممي ، كما ان التهاون بهما معناه تهاون الامة بنفسها وتجردها من ذاتيتها ، وتخليها عن سبل الحياة المركزة المشاوقة فى ميادين الحضارة والتقدم
والسير الهامشى يورث - حتما حياة الاضطراب والفوضى والتعاسة والخلل ، والانصراف عن وسائل العصر فى العرض والاشهار ويحرم البلاد من التعاون المجدى والانسجام المتسع والاستفادة اللائقة من امكانيات الجهود ، ويعرض المكاسب والثروات للغبن والبوار
فلا هي نسامق غيرها بثروتها ، ولا تنافس الدول بمنتوجاتها ، ولا هي تحاول ان تقوى من معنوياتها بما ينفى شعور النقص عنها ، ويجتث مركب الغرور منها .
وفي التخلى عن احدهما ما يومئ بالتحلل من احد ركنى كيانها ، ويشير الى عقم اعمالها ، وتعثر اقدامها ، لان الشعوب تتمايز عن بعضها بالوان مواضيها وحواضرها ، وبهما تثبت مدعاها فى طريق مجدها وتليده ، وقويم نهجها وسديده ، وبحسبها تميز حقائق الاعمال من دلائل الالفاظ ، ومدى تجاوب حركة اليد من حركة اللسان ، واثر العبارة فى قوة الارادة ، وبهما تجيد الامة الحضارية الوسيلة الناجعة فى الترجمة لذاتيتها وهي في مامن من التكذيب ، ومنهما تستمد الخطة السديدة لتناقش نفسها الحساب للتعرف على عوامل التوقى والنضج وأسباب الحيطة والربح وبذلك تسلم من مغبة ما . ركب فى الشعوب من تزاحم وتنافس ، وتنازع على البقاء بحب البقاء .
أجل ، ان الامة الحضارية تعرف كيف توزع نظراتها اليهما لتدع في كليهما حظا من رعايتها على اساس من الانصاف والعدل ، وجانبا من اهتمامها على نهج من الاعتبار والرعاية دون ان تميل مع احدهما كل الميل او بعضه لانها تفهم حق الفهم اثرهما الفعال فى مجارى حياتها التى تقوم على ركن من الحاضر وآخر من الماضى ، وتعرف حق المعرفة ما بينهما من التكافؤ في المفعول والتعادل فى الاثر .
