لحظات فريدة تمر بنا أحيانا كأنها نسيج أضداد يخلع المرء فيها شخصه الضيق المحدود فيزدوج ويكاد يتعدد ويتسع ولا يكاد يتناهى . لحظات يسعف فيها بمثل احساس الطفل نضرة وتوثبا ، مرحا وصفاء ، طلاقة وفضولا .
فيه فطرة الصغير السمحة وبراءته الغضة وفيه توقد ذهن الكبير دقة ونضجا . . مزيج من ظرف وحكمة ، من خفة ورصانة وطيش ووقار .
لحظة تهش النفس فيها ارتياحا . ضاحكة مستبشرة . راضية مزهوة . وليس الا الفرح المحض بوجودها وتاملها الخالص لذاتها وذوات الكائنات جميعا من حولها . فرحا عبقريا ولذة مجانا من غير داع ولا سبب .
فاذا هى متطلعة مشغوفة تهتز للصغير والكبير من الاشياء وتلقط الغريب والمألوف معا ، وكأنما اكتسى الوجود كله جدة وطرافة . رفعة ونفاسة .
انها الاريحية تلك الحالة الممتازة ندنو فيها من الكون قريبا قريبا بحيث تنعدم الفوارق والمسافات وتذوب الحواجز والقيود وحتى نكاد نتخلل الاشياء وننفذ منها الى الصميم ونوشك ان نظفر بالوحدة الأم ونعض لحم الكيان وننهل من السر القدس .
هذه النشوة الخفية الاصل ألعلها شعت فى نفسك - وهى هى المورد والمصدر معا - من هذا الجو الشتوى اللذيذ البرد الشهى الرطوبة تضاحكك شمسه تارة وتضرع اليك أخرى . فى خجل ورقة . وكآبة حلوة . يوم مشترك مز . شعاع من ربيع ودمعة من خريف .
وتتأمل السماء فى هذا اليوم الذى اتفق لك فيه الرحيل وقد ركبت السيارة تعدو بك خفيفة رشيقة - فيروعك غمام رقيق تربع بالاجواء قناعا شفافا يتسرب منه النور لأيا قد تكسرت أشعته وزاغت ، وغامت وماعت كأنها ملايين الصدف وهجا لطيفا هادئا محتشما .
ويطفر الفرح فى نفسك وتكاد ترفع بالطرب عقيرتك ولكنك تكتم بالجهد أمرك وقد خشيت ان يتفطن الناس الى سرك ويتهموا بالوهن عقلك .
ومع ذلك فان بك لرغبة نزاعة الى مقاسمة الخلق شعورك وكأن هذه الفرحة (( الغيبة )) المجنونة كنز نفيس تنوء بحمله نفسك فلا تهنأ ولا تنعم حتى تنشره للملا وتحود به وتشرك فيه ملكا مشروعا ونعيما مشاعا . . .
أو هى الشراب الرفيع أشبعك ريا وسكرا ، فضقت بنشوته ذرعا ، ورمت التخفف والخلاص من سورته فاذا أنت ترشح سرورا وتكاد تنفجر غبطة وسعادة .
وهل وكدك وهمك الا ان تحيى الجمال حيثما تراه تسليما وتباركه تمجيدا وتسبيحا . شكرا وعرفانا . وتبرزه للانام صراحة واعلانا ، ولا حرج و لا باس . ولكن هيهات !
فأنت مهما هفوت وطمحت الوحيد القابع فى سجن غربته يصطدم بالجدران تقوم فى وجهه عتية قاهرة منيعة مؤيسة . فهيهات الحوار والتبليغ ! هيهات اللقاء والوصال !
ويعن لك - وانت مواصل سيرك - سرب من الطيور قد ارتفع من الارض كتلة مجتمعة متماسكة ثم اذا هو يتفرق ولا يتبدد وينتثر ولا يتشتت فينقسم طائفتين كل الى ناحية فى انسجام بديع كأنه الرقص علوا ونزولا . ترنحا واختيالا . فتملكك الدهشة والحيرة ولا تكاد تصدق عينك كانك تشهد صورة وهما وخيالا غرورا . ولشد ما تعجب لهذه الوحدة الصميمة والاتفاق العجيب مع الكثرة والتفرق .
(( الطير . . متفرقا . . مجتمعا . . كتلة واحدة . . طائرا . . نازلا . . رقص . . وموسيقى . . هذيان ! ! ))
ان من الاشياء اشياء يقصر عنها البيان ويخونها التعبير ان بالزيادة او النقصان . اشياء ما ان تتناولها وتتحدث عنها حتى تنحط وتبتذل وتتهافت بين يديك وتتلاشى تفاهة وسخفا .
انها اشياء تدرك رأسا بلا وسيط ولا ترجمان تتعذر الشركة فيها والازدواج ولا يجوز الفرد حماها الخاشع الصامت إلا املس عاريا .
فأنى للراكب حذوك ولو كان رفيقا لك حميما وان جانسك احساسا وذوقا ان يستحبب لك ويفهم عنك ؟ ! اللهم الا اذا تمت المعجزة وكان اللقاء فى عين اللحظة وقد بطلت الشواغل وامحت الحواجز وتواردت الخواطر واتحدتما - فى آن معا - شعورا وانفعالا .
وتمتد يد ناعمة بيضاء لتستريح على متكا المقعد امامك . فاذا العين منك تسرح على صفحتها النقية ترتع لا تستقر تعب الحسن عبا . حائرة لا تدرى أيما
أحب اليها وأشهى . أصفاء البشرة ولينها . أم رشاقة الانامل ولطافتها . ام اعتدال اليد جميعا وانسجامها .
انك لا تعرف من صاحبتها شيئا ، وان رافقتك بحسنها وظرفها فى الطريق ما من صلة ولا كلام . حتى ولا همس بالجفون . ومع ذلك فها هى ذى اليد نابضة حية تنطق . ها هى قريبة منك قربا حميما . محببة مانوسة . ولكن هيهات ! هذه اليد (( الصديقة )) التى تغريك بقبلة خالصة لوجه الفن وذات الجمال . محض استحسان وتحية ذوق . هذه اليد الكريمة النبيلة اى جدار عتيد بينك وبينها ! !
فهل انت واثق ، لو تفطن اليك واكتشف أمرك ، من ان تدرك لذتك كما هى على حقيقتها . صافية عذراء . لا شوب ولا لبس . لا ظنة ولا ارتياب .لا تأول ولا تهجين .
ويقطع بك فجأة وتغص بفرحتك وتشرق وتقبع بحماك يائسا مدحورا .
