ديوان : محمد عمار شعابنيه
هذا الجنوب جنان تربها دهب
ومنهل منه كل الناس قد شربوا
وواحة من زياتين تغازلها
واحات نخل تحلي صدرها الرطب
فيرقص الضوء فى افاقها طربا
وتلتقي فوقها الاقمار والشهب (1)
ديوان جديد للشاعر المنجمى محمد عمار شعابنية صدر منذ زمان .. عن الدار التونسية للنشر فى طبعة أنيقة ، وهى باكورة اشعاره وزبدة تجربته الاولى فى هذا الميدان العريق فلقد عرفت هذا الشاعر في فترتين متقاربتين وتعرفت عن كثب عن تجربته فى الشعر والرواية فلقد سبق لى ان قرأت له فى ( الفكر) وفى ( الصباح )وفى (مجلة الاذاعة ) .
فحمد عمار شعابنيه كسب هو وصوت جديد يضاف لاصوات شعراء وأدباء تونس ، آلى على نفسه ان يلتزم بقضايا مواطنيه عمال المناجم :
ذات يوم سادتى مات صديقى
لم يمت فى النور مثل الاقحوانه
لم يمت خلف خزانه
لم يمت يملك كرسيا ولم يعرف سريرا
عندما غادر حي العمله
وارتقينا القاطره
ورمانا الليل فى الداموس بعد العاشره
نطق الصمت فغاب
تحت طيات التراب (2)
ناهيك ان والده نفسه ، مر من هذا الطريق ، ولقي نفس المصير ولعل اهداء قصيدة : حديث عامل منجمى ، لدليل كاف على ذلك : " الى العامل المنجمى رقم 23639 الى أبى الذى حمل على ظهره اتعاب 32 سنة من العمل بمنجم المتلوى " .
فشاعرنا لم يتجاوز بعد الثلاثين من عمره ومع هذا فهو كالشابى ( تمشى على قلبه الحياة ويزحف الكون الكبير ) . يتأثر بكل صغيرة وكبيرة تطرا على محيطه ، فهذا الديوان ملئ بأنين العمال وآمالهم وأحلامهم ، فحتى مشاكل الامة العربية لم يسلم منها قلب الفتى الشجى ، فهذه فلسطين وقد أتبعها الاضطهاد وأقض راحة أهلها بنو صهيون :
تشرق الشمس على دنياك يا أرض الفدا
قبة من كبريا
والزياتين التى مدت الى الله الفروع
بتسابيح محمد
ودعاءات يسوع
سيوافيها الربيع
... والذى يزرع مما بذلت يمناه يحصد
وأنا احترف الثورة حقا بضميرى
ليكن بعد مصيرى
أنت يا ذات العيون الذهبيه (3)
وفى رسالة لاجئ مجلس الامن ، يواصل شاعرنا على نفس الوثيرة طرح الصعوبات والمشاكل التى تعترض اللاجئين الفلسطينيين ، ناقدا مواقف الامين العام لمجلس الامن الدولى :
هذى خناجرهم على قلبى
وأنا أحاول أن أرى دربى ..
... مرت سنون والخيام بلت
وأنا أراجع قصة الحب
ومدينتى انوارها انطفأت
وقبابها تحيا بلا رب ...
.. يا من جلست بقصرك الرحب
انظر الى جرحى لتعرفنى
فانا هنا فرد من الشعب ...
... حتى ترى انا بموطننا
شعب يعانى قسوة القدر
انى أريدك ان تفيق ايا
من نمت فوق جماجم البشر ( 4)
وهذا لبنان وقد مزقته الدسائس والحروب الاهلية :
يا زهرة العصر
ويا أحلى الاسماء
ان انت ضربت
أو أنت جرحت
أو عبئ صدرك بالاحزان
فسوف تظلين عروسا
غالية المهر لا ينسى العالم اسمك
يا لبنان (5)
بدأ محمد عمار شعابنية محاولاته الشعرية فى عمر مبكر جدا ، ولعل حساستيه المفرطة ونفسه الملتاعة هى التى ساعدته على مواصلة تطور محاولته فهو يتيم الأم والأب ، وموت والده سبب له صدمة نفسية قوية الزمته المستشفى مدة طويلة ومنه كتب خلسة عن طبيبه المباشر قصيدة : اشياء تبدلت بعد ان اجريت على دماغه عملية جراحية ناجحة :
فمن دمائى يشرب الوباء
وفى دماغى ينبت الوباء
والشمس فى مدارها تمضى الى الوراء
شاحبة حمراء
كوجه جرح نازف الدماء
فعندما أسير
وعندما أغوص كالمسار فى مكانى
تصدنى أحزانى ...
... قديمة مشاعرى الكئيبه
كقدم التاريخ فى قرطاج
كئيبة مشاعرى القديمه
كابة الاصوات فى مقبرة الزلاج (6)
فشعره الشجى الخفاق يخضع للتفاعيل الخليلية ، ولكن على نحو متطور بالاضافة الى الوفاق بين المعانى واللحمة العضوية فهو يستمد موضوعاته من احداث الساعة ووقائعها مازجا بين الماضى والحاضر بدقة متناهية والديوان يضم ما يزيد عن عشرين قصيدة منها : ملامح انسان جديد - أغنية فدائى مسلحه - رسالة لاجئ إلى مجلس الامن - السيف والخرافة - حديث عامل منجمى - الغام فى مدينة بريئة - الكتابة بالفسفاط - لبنان ...
وكما يلوح من عناوين هذه القصائد وطولها انها تتبع الطريقة المعتمدة فى المشرق العربى للخروج من العنوان الكلمة الى العنوان الجملة بايجاز فان شاعرنا هذا كسب لا لتونس فحسب ، بل كسب للامة العربية ، هذه الامة التى شغلت مشاكلها فتطوع للذود عنها بيراعه وكلمته .
