الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 6الرجوع إلى "المنهل"

تجارتنا امس واليوم

Share

وقد كنا قبل ربع قرن تقريبا نسير فى حياتنا الاقتصادية على نهج لا يختلف كثيرا عن النهج الذي كانت تسير عليه قريش قبل الاسلام حينما كانت قوافلها تقطع البيد الى الشام والى اليمن ، والى ما هو اباى من الشام واليمن ، لتتجر مع تلك الامم اتجارا فيه كثير من الاستيراد وقليل من التصدير "

بهذه العبارة الوجيزة ، وبهذه اللمحة السريعة ، اراد الصديق الاستاذ السيد محمد حسن فقى ان يشير فى مقاله القيم المنشور فى البلاد السعودية ) ١ ( الغراء تحت عنوان " يقظة " الى ما كانت تسير عليه قريش قبل الاسلام فى تجارتها انها اشارة لها معناها الواضح ، فهو يريد ان يقول ان تجارة قريش فى ذلك العهد القديم ، انما كانت تمثل دورا بدائيا . . والنتيجة بعد هذا ان تجارتنا " قبل ربع قرن " لم تكن تختلف عن تجارة ذلك العهد فى منهاجها ، ومعنى هذا كما توحيه هذه العبارة - ان تجارتنا اليوم قد ترقت كثيرا عن مستواها قبل ربع قرن ، وبالتالي عما كانت عليه تجارة قريش فى العهد القديم

انظر ما يقوله الاستاذ ايضا : مؤكدا هذا المعنى ، وهو يشير الى حالة تجارتنا اليوم : " ثم بدات اليقظة ، وبدأ الوعى الاقتصادى يتفتح ويستجيب للدواعي التى تكتنفه وتتناوح حوله فعرفنا بعد طول السبات الشركات المساهمة ، والشركات التضامنية ، وشركات الاستثمار "

وانا لا اريد ان ازعم ان حالة مكة قبل الاسلام كانت ارقي واسمي من حالتها اليوم ، لا اريد ان اقول هذا ، لان حالة مكة ، بل الحجاز وجزيرة العرب والعالم الاسلام ، سواء من الوجهة الحضارية او الاجتماعية او العلمية

ليس من سبيل الى ان نقارن بينها وبين ما كانت عليه الحالة العامة فى تلك الفترة من فترات التاريخ : جاهلية جهلاء ازاح ظلامها الدامس نور الاسلام ، وعبادة للاوثان حلت محلها عبادة الواحد الاحد ، ومن ثم كان ذلك التحول الباهر في الحياة المكية ، والحياة العربية ؛ ثم في حياة معظم الاقطار .

وانما اريد ان اقول ما يقوله التاريخ المتواتر فيما يختص بالحياة الاقتصادية وحدها ، من ان تجارة مكة وما حول مكة قبل البعثة النبوية ثم بعدها بقليل لم يكن مركزها ذلك المركز البدائي ، ولم تكن تشبه فى كثير او قليل تجارتنا الحاضرة ، ذات الشركات المساهمة ، والشركات التضامنية ، وشركات الاستثمار ، بله حالتها التى كانت اخفض منها مستوى بطبيعة الحال ، قبل ربع قرن من الزمان .

كانت الحياة التجارية فى مكة فى العهد الذي نشير اليه ، بل الحياة الاقتصادية عامة ارقى منها اليوم بما لا يدع مجالا لأى مقارنة ، لقد بلغت التجارة فى ذلك العهد اعلى مستوى ، فلم تكن هي تجارة محلية وكفى ، ولم تكن قاصرة على كثير من الاستيراد وقليل من التصدير كما يشير الاستاذ الصديق ، بل بالعكس كانت تجارة قريش تجارة عالمية الى ابعد الحدود ، وكان فيها كثير من التصدير الى جانب الكثير من الاستيراد وليس فى القول اى مبالغة اذا ما قلنا ان التصدير فى هذه التجارة كان يطغي على الاستيراد ، وكانت الثروات الطائلة التى استطاع القرشيون ان يتوصلوا اليها ، ويتفننوا فى استخدامها واستغلالها بكل طرق الاستخدام والاستغلال اصدق الادلة على هذا . . ولم تكن رحلة الشتاء والصيف التى اشار اليها القرآن الكريم ، لم تكن هذه الرحلة التجارية المشهورة مهمتها توريد السلع والوقوف عند هذا الحد . . وكلنا يعلم ان مكة كانت الطريق الرئيسى للتجارة بين الشام وغير الشام من المناطق الشمالية ، وبين اليمن وغير اليمن من المناطق الجنوبية ، وكانت مكة وما حول مكة محل التقاء العرب جميعهم فى كل عام ، حيث يؤدون النسك ، ويقيمون اسواقهم الادبية والتجارية ويتشاورون ويتساجلون في كل ما يهمهم من شئونهم ، ومن هنا اتيح للقرشيين

من قاطني مكة والطائف والمدينة ان يمارسوا هذه التجارة ، وان يبرعوا فيها وان يساهموا فى تجارة العالم ، وان يلعبوا دورا عظيما فى ما يسمونه اليوم " تجارة الترانسيت " وان يعقدوا من اجل ذلك شتى المعاهدات التجارية مع الامم المجاورة لهم ، بمافيهم الرومانيين ، وان يجمعوا تلك الثروات الطائلة ، تلك الثروات التى اصبحت مضرب الامثال !

لم تكن تجارة قريش تجارة قاصرة على الاستيراد كما هى حالنا الآن - بل كانت تجارة تصدير قبل كل شئ ، تصدر من بلادها لشتى انواع المحصولات ، وشتى انواع المصنوعات ، ثم تصدير من خارج بلادها الى خارج بلادها . كانوا يستخدمون رؤوس آموالهم فى شراء بضائع اليمن وفارس والهند والشرق الاقصى وافريقية ، ثم يصدرونها الى البلدان الاخرى ، ويشترون من مصر والشام بضائعها ويصدرونها الى الجنوب

ولعل من الخير والبحث هنا تاريخي - ان نرجع الى ما قاله المؤرخون فى هذا الموضوع ، ولعل من الخير ايضا ان نكتفى بما اجمع عليه المؤرخون المعاصرون من عرب واوربيين وحدهم ، لا لشئ الا لان الناس قد تعودوا ان ينظروا إلى ما يكتبه هؤلاء المعاصرون على اعتبار انه اكثر تمحيصا وتركيزا ، وعلى اعتبار انه بعيد كل البعد عما يظنونه مبالغات .

يقول جورجى زيدان . " كانت مكة واسطة عقد التجارة بين الشام واليمن ١ ويقول الاستاذ احمد امين : " وصل المكيون قبيل الاسلام عند ما كان العداء بين الفرس والروم بالغا منتهاه الى درجة عظيمة فى التجارة وكان على تجارة مكة يعتمد الروم فى كثير من شئونهم ) ٢ ( "

وهذا ما يقوله الدكتور محمد حسين هيكل : " كانت مكانة مكة التجارية قبيل الاسلام فى عهده الاول عدل مكانتها الدينية ، وكانت ملتقي تجارة الغرب والشرق . اما اليوم فالتجارة تجيء الى مكة وتوزع على الحجاج في أسواقها

من غير أن يكون لمكة فى ذلك أي نشاط إيجابي ) ١ ( " ويقول أيضا : " وبلغ أهلها ) أى مكة ( من المهارة فى التجارة ان اصبحوا لايدانيهم فيها مدان من أهل عصرهم ، كانت القوافل تجيء اليها من كل صوب وتصدر عنها فى رحلتي الشتاء والصيف ، وكانت الاسواق تنصب فيما حولها لتصريف هذه التجارة فيها ولذلك مهراهلها فى كل ما يتصل بالتجارة من أسباب المعاملات ) ٢ (

وقد أفاض فى هذا الموضوع الاستاذ جبور عبد النور فى كتابه الممتع " نظرات فى فلسفة العرب " حيث جاء فيه : " كان تجار قريش يصدرون بقيم يفوق قيم ما يستوردون وينقلون فقد اشترك متجر الى احيحة فى قافلة بدر بثلاثين ألف دينار . . وأما بنو أمية فقد بلغت قيمة اسهمهم عشرين ألف دينار وفي الوقت نفسه كان هؤلاء " الرأسماليون " يجهزون قوافل اخرى فى طريقها إلى اليمن ، ولعل عبد الرحمن بن عوف الذي هاجر مع النبى إلى المدينة معدما والذي جمع ثروة تقدر بالملايين إعتمادا على نفسه دون أن يكون له فى يثرب شئ من المال أول الأمر ، لعل هذا الصحابي يرمز إلى ما تميز به القرشيون من مهارة فى التجارة وتنظيم القوافل ، وكذلك كان ابن جدعان من أصحاب الملايين ، فشبههه احد الشعراء بقيصر ، ولم يكن هو وابو سفيان ليستثمرا جميع أموالهما فى تجارة القوافل ، ويعرضاها لخطر الضباع ، فقسم منها فى الطائف والمدينة ، وقسم آخر ينفق فى استخراج المعادن . "

وأما فئة التجار العاديين وأصحاب الحوانيت ، وصغار الباعة ، فقد كانوا يؤلفون الطبقة المتوسطة في مكة فيشرفون إلى جانب متاجرهم الخاصة على مصلحة من المصالح الصناعية . . ولعل بجار مكة كانوا ابرع الناس فى استخدام رؤوس أموالهم فى المتاجر ، فيعمدون الى استثمارها عوضا عن خزنها فى صناديقهم

ولقد يبدو من الغريب حقا ان تكون قريش فى ذلك العهد السحيق قد عرفت الشركات المساهمة ، والشركات التضامنية ، وشركات الاستثمار ، عرفتها حقيقة لا مجازا ، واستفادت منها في صورة عملية بارعة ، يقول جبور عبد النور فى كتابه الذي أشرنا اليه : " وأما تجهيز القوافل فيشترك فيه جميع القرشيين أغنياؤهم وفقراؤهم ، حتى إن هناك من كانوا يساهمون بدينارا وبنصف دينار ، وينالون مقابل ذلك حصة نسبية من الارباح . ) ١ (

ومن الواجب أن نقول انه لم تكن قريش وحدها تستأثر بهذا النشاط ، ولم يكن أفرادها وحدهم من اقتصروا على المساهمة فى هذه الحركة التجارية ، بل كانت هذه الحركة شاملة ايضا لكل من جدة والطائف والمدينة وفي كتاب " عصر النبى وبيئته قبل البعثة النبوبة " للاستاذ محمد عزة دروزة اشارة الى هذا حيث جاء فيه بعد أن تحدث عن تجارة مكة : " وإذا كنا صرفنا ما تقدم من القول إلى مكة وأهلها فلا يعنى هذا ان المدن الحجازية الاخرى كانت في عزلة عن ذلك ، فللموانئ من حركة البحر حافز ومرتزق طبيعيان لاهل ومما لاريب فيه ان سكانها كانوا يقومون بالاسفار ويضربون فى عرض البحار ، وينتفعون بصيدها ، ويستخرجون لؤلؤها وخيراتها ، ويصلون بسفنهم الكبيرة والصغيرة الى المواني والثغور الاخرى فى سواحل البحر الاحمر وغيره يحملون منها واليها السلع المتنوعة ان لم نقل انهم هم الذين كانوا الرئيسيين فى هذه الحركات والنشاط "

وجاء فيه ايضا : " ولقد كانت المدينة كما قلنا طريق القوافل التجارية المكية ، ومن المستبعد ان يبقى تجارها فى غفلة عن الاسفار التجارية وشيء مما قلناه ينطبق فيما نعتقد على مدينة الطائف لاسيما وقد كانت هي الاخرى على طريق العراق واليمن التجارية وكان اهلها على صلة وثيقة باهل مكة ومنطقتها واسواقها المحلية "

وجاء في التاريخ العام الذي تصدره شركة دائرة المعارف البريطانية : ) وكان للقرشيين في مكة مورد ثروة لا يستهان به يرسلونه صحبة القوافل الى شواطئ البحر الأحمر وما يصدرونه عنها ، وكانت جدة مركزا تجاريا خطيرا ومكة التى كانت تبعد عنها قليلا مركزا عاما للتجارة العربية وقد خطر عظم هذين المركزين ) مكة وجدة ( لما كان يظهره سكانهما من براعة وذكاء فى تصريف الاعمال التجارية " ويقول مويرفي كتابه " تاريخ محمد " : " ومع ان جزيرة العرب كانت منذ قرون عديدة بعيدة عن الانظار فاننا نعرف ان تجارة عظيمة كانت زاهرة في كل وقت في هذه البلاد وهي التى جعلت العرب حملة التجارة العالمية بين الشرق والغرب " .

وبعد فهذا  ما يقوله المؤرخون والباحثون في هذا الموضوع ، وقد أعرضنا عن كثير من هذا القبيل بغية الاختصار ، وتحاشيا من التطويل وفي الحق إنه ليس من الغريب ان تنشط التجارة هذا النشاط الكبير فى هذه البلاد في ذلك العهد الجاهلى على ما كان يلابسه من تأخر لاشك فيه من النواحي الدينية والفكرية والاجتماعية فان مركزها الجغرافي ، ووقوعها متوسطة " فى الطريق التجارى البري الوحيد لذلك العهد بين الشمال والجنوب وقل بين الجزيرة العربية وسائر الاقطار الآخرى كان من اهم العومل فى نشاط تجارتها ، وازدهار حياتها الاقتصادية كل هذا الازدهار وكان الحج الى البيت الحرام ، واجتماع القبائل العربية في الاشهر الحرم ، وما كانوا يعقدونه من المواسم الادبية وغيرها - كل هذا كان عاملا آخر له اثره البالغ في هذا النشاط ، وفي هذا الازدهار

ونحن اليوم لا نقول بامكان العودة الى استرجاع ذلك المركز التجارى كما كان عليه فى ذلك العهد ، إن تجارة الترانسيت التى أتاحها لقريش أن بلادها

كانت الطريق الوحيد لتجارة الشرق الاوسط ، فى الوقت الذي لم يكن فيه للمواصلات البحرية أى شأن ذو بال ، إن تجارة الترانسيت هذه لا يمكن ان يكون لها أى مجال فى هذا العصر بعد أن أصبح البحر طريق التجارة العالمية ، وبعد أن اصبحت كل أمة مهما نأت ديارها تستطيع ان تستورد كل ما يلزمها من السلع الاجنبية رأسا بدون حاجة مرورها فى بلد اجنبى اخر وبالتالي بدون أى حاجة إلى توسط عملاء آخرين .

ولكنا نقول إن تغير الاوضاع ، وتبدل العوامل وزوال بعض الاسباب المكانية ولزمانية لا يمكن باى حال ان يكون مبررا للخمول ، وإذن فان زوال المركزية التى كانت تعتمد عليها قريش فى تجارتها قبل كل شئ لا يمكن أن تجعل منه سببا لبقاء تأخرنا فى الميدان التجارى ، ذلك التاخر الذي اشار اليه الاستاذ الفقي فيما أشار اليه ، فالحق ان تجارة تقتصر على الاستيراد دون التصدير ، وعلى الاستيراد الغير منظم ايضا كما هو حال تجارتنا اليوم - انما هى تجارة خاسرة راكدة ، لا يمكن ان يكون لها فى العرف التجارى اى مكان مرموق

فاذا ما أردنا أن ننهض بتجارتنا فعلينا أن نتعلم أولا كيف يجب ان يكون هذا النهوض ، علينا أن نترك الارتجال . . علينا ان نصنع كما يصنع غيرنا . علينا أن يعمل قبل كل شئ وبعد كل شئ لتكون لنا صادرات " وليس السبيل الى الوصل الى هذه المرتبة الا العمل على إحياء كل من الزراعة والصناعة ، وليس هذا العمل الذى يوصلنا الى هذه المرتبة مستحيلا بعدان برهنت . البحوث الفنية المختلفة على ما فى بلادنا العربية السعودية من قابلية ممتارة لكل من النهوض الزراعي ، والنهوض الصناعى ، وعلى الثروة لهائلة العظيمة المخبوءة فى بطون أراضيها . . أجل وليس السبيل ايضا الى الوصول الى هذه المرتبة الا ان نستخدم " العلم و نستعين " بالخبراء " كما يفعل الآخرون بدلا من اكتفائنا الذاتي واعتمادنا على أساليب المضى . . ويجب علينا ايضا أن نستثمر ) رؤوس أموالنا ( وقد اصبحت بسبب الحرب متوفرة والحمد لله بدلا من حفظها فى الصناديق . . وتشغيل الجزء القليل منها فى تجارة الواردات ! ان فى الميدان الزراعي وفي الميدان الصناعي متسعا لهذه الأموال لو عرف " الرأسماليون " ؟ .

ولما كان البحث هذه الناحية الحساسة من هذا الموضوع كثير الثشب ويحتاج الى مزيد ، فاني اكتفى بالمامتى البسيطة هذه ، تاركا لصديقي السيد حسن فقى أن يوالي بحوثه القيمة فى هذا الموضوع وحسبي انى اشرت الى ما كانت عليه تجارة مكة وما حول مكة قبل البعثة النبوية ثم بعدها بقليل من مركز لا يساميه مركز ، والى انعدام الشبه بينها وبين تجارة هذا البلاد فى هذا العصر الحديث

اشترك في نشرتنا البريدية