الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 2الرجوع إلى "الفكر"

تحية للفكر .. تحية لتونس المفكرة

Share

لعل اختيار الاسم واختيار التاريخ وصاحب الاختيارين ، لعل كل ذلك لا يمكن ان يكون مجرد اتفاق عشوائى . ففى اكتوبر من ثلاثين سنة خلت كانت تونس مقبلة على عهد جديد ، يتمخض فيه شعبها عن مولود جديد ، لم تعمل فيه عوامل بيلوجية بقدر ما عملت فى تكوينه عوامل فكرية . ولعل خلاصة هذا المولود الجديد هو ما تعبر عنه الكلمة التى ميزت الانسان وهى ((الفكر)) .

ناضل الشعب منذ أزيد من قرن وربع قرن بقيادة خير الدين لتغيير وجه تونس بالفكر . وجددت تونس نضالها منذ ازيد من نصف قرن بقيادة الحبيب بورقيبة لطى صفحة الاستعمار بالفكر ايضا ، ووصلت كنتيجة لمرحلتى النضال هاتين الى طى صفحة التخلف والاستعمار ، لتبدأ صفحة جديدة تحت ظل الاستقلال . فكان لابد ان تفتح الصفحة الجديدة بالفكر ، الفكر اذن هو شعار نضال تونس من اجل التطور الاجتماعى والسياسى والدستورى ، ومن اجل التطور فى بناء تونس الجديدة المستقلة ، التى سيرت المشعل فيها شباب جديد هو جيل الاستقلال . ومن اجل ذلك يجب ان يكون شعاره ايضا : ((الفكر)) .

وقد دأبت تونس - منذ بدأت نهضتها - على اعتماد الكلمة والخطاب كسبيل للقاء الافكار ، وكانت الى جانب الصحف الاخبارية وصحف الراى والنضال بعض المجلات التى تلتقى عندها افكار النخبة من المثقفين والادباء . ورغم ان سوق الكلمة المثقفة كاسدة فى مختلف بلاد العالم الثالث - وخاصة البلاد التى كان يملك زمام الحكم فيها استعمار قاس - فان ارض تونس استطاعت

ان تزهر مجلات من امثال ((العالم الادبى)) و ((المباحث ))، وكان يراس تحريرها الاستاذ الكبير محمود المسعودى و((الندوة)) وغيرها من المأسوف على غيابها رغم ان سوق الكلمة ((المثقفة)) كاسدة ، فقد كان لابد للعهد الجديد من مجلة جديدة ، ان لم نقل من مجلات جديدة ، وكانت ((الفكر)) فى مقدمتها .

الريادة ليست عملا سهلا فى عصر تعجم فيه الحياة بالاوشال . ولذلك فالرائد لا يكذب اهله . وحتى لا يغرر بهم ، وهم فى مفترق الطرق عليه ان يكون صادقا فى دعوته ومنهجه واسلوبه وهدفه ، وعليه ان يتحمل المسؤولية فى كل خطوة يخطوها ، فيضع القدم على الارض الثابتة حتى لا تسيخ الارض من تحت ارجلهم وهم فى أثره ...

ولعل مجلة ((الفكر)) كانت رائدا من هؤلاء الرواد الذين لم يكذبوا اهلهم ، ولعلها استمدت من اسمها قوة الاخلاص لرسالتها . فكان منطلقها من الفكر ، وسبيلها الاعتماد على الفكر ، وهدفها السمو بالفكر .

هذه الرسالة جمعت حولها اجيال المثقفين من كبار علماء الرياضيات والفيزياء مثلا الى جيل الشباب من الشعراء والقصاصين ... الفكر لا يعرف حدودا للمعرفة ، العلم والادب والتاريخ والفلسفة والسياسة والاجتماع والاقتصاد تتجلى جميعها على صفحته ، ولذلك كانت المجلة تحمل دلالة عنوانها فتقدم الدراسة العلمية والفكرية والاقتصادية والادبية ، وتقدم القصيدة العمودية والمتحررة من ((العمادة)) (وارجو المعذرة للتورية) وتقدم القصة والمسرحية والمقالة النقدية ، كل ذلك فى توازن وتكامل لا يطغى فيه جانب على آخر ، ولا يخضع التأليف بينها للصدفة او التلقائية او العشوائية .

والكلمة ((الفكر)) فرضت على المجلة (واستسمح  لاستعمال كلمة فرضت) ان تكون رصينة رصانة الفكر واصحاب الفكر ، فلا تجد فيها مثلا ادبا عاريا ، ولا نقدا لاذعا غير علمى وغير مسؤول ، ولا بحثا لا يستند الى المنطق والعقل والاسلوب العلمى ، وكانى ، وانا اقرأ فيها او اتصفح صفحاتها ، بمديرها ورئيس تحريرها رضوانين واقفين على بوابتها يفرضان الفكر الرصين على كل داخل وبيده اجازة الدخول . الشخص يفرض الاتجاه ، ولو لم يتحدث به أو يصدر قانونا ملزما له وللآخرين . ومحمد مزالى والبشير بن سلامة أعطيا المثل فى رصانة البحث ومسؤولية الكلمة وجدية العمل واستمرارية الانتاج ، فكانت الفكر مثال كل ذلك طيلة السنوات الثلاثين . وعلى الذين يبحثون

عن جانب من الهزل - وبعض الادب هزل - أو جانب من الادب المكشوف ، وبعض الناس ((يتأدبون)) وهم ((عراة)) والذين يبحثون عن اسواق النخاسة فى عصر كرامة الانسان او الذين يضلون ويضللون باسم العلم والفكر ، على هؤلاء جميعا ان يبحثوا لهم عن مجال فى غير واحة الفكر ، فرضوانان - وليسا رضوانا واحدا - قد وضعا الخطة والمنهج والمثال ، فلا يقترب من الواحة غير الذين يلتزمون بذلك .

ومن منطلق الالتزام وجدنا مسؤولية الفكر تفرض نفسها على الذين انشؤوها فى يومها الاول ، مناضلا فى ميدان السياسة والادب لم يكن لهما غير نضالهما الشريف ، وجدا ان الحاجة ماسة الى الفكر فانشآ المجلة وهما يعرفان ان المجلات ، مهما بذل فيها منشئوها من جهد ، سرعان ما تذوى حتى فى البلاد المتقدمة الغنية بقرائها ، ولكن كان لهما من التصميم والعناد الثقافى ما جعل عملهما يستمر رغم المسؤوليات الجسام الرسمية التى تحملها كل منهما . واحسب ولعلى اتحدث عن تجربة ، ان الشعور بالمسؤولية يدفع كلا من مزالى ، ولو كان وزيرا أول ، والبشير بن سلامة ، ولو كان وزيرا للثقافة، يدفع كلا منهما ان يفرغ للمجلة لمنحها بعضا من وقته فيكتب المقالة ويوجه العدد ويحرص على وقت صدوره ، وعلى نفس التوجيه المرسوم والخطة المضبوطة ، هذا الالتزام بالكتابة والمراقبة والتوجيه هو المتنفس الاكبر الذى أمد الفكر باسباب الحياة ، فليس اشد بلاء على اى مشروع ثقافى - على الاخص - من التخلص من مسؤوليته او وضعه فى المقام الثانى او الثالث من أولوية المسؤوليات .

استقطبت الفكر كبار المثقفين التونسيين ، والآصرة أشد ما تكون بين اسرة الثقافة ، وخاصة فى مجتمع تسوده السلم الثقافية ، واصبح الفكر ، بسبب ذلك ، جاذيبة . فلا تكاد تمر سنة الا وطلعت علينا باقلام جديدة لم يكن لقرائها عهد بها . وذلك فى نظرى هو سر حياة الشجرة المعطاء : الغصن الذابل منها يذوى ليخلفه غصن آخر اشد حيوية وشبابا وخضرة ولمعانا ، ويشتد منه العود فتنضح ثمرته ويحلو عطاؤه ويغني غداؤه . المجلات التى تقفل الابواب فى وجه الجديد تختنق منها الانفاس وسرعان ما يدب الوهن فى أغصانها ، وتذبل ويكون مصيرها الموت . واحسب ان بعض المجلات يفرض عليها ذلك أو تفرضه على نفسها ، فلا يكون لها محيد من مصير .

ومن حسن حظ الفكر انها فتحت الباب للشباب ، أحيانا على حساب الجودة والمستوى ، ولكن الذى لا يتعثر لا تستقيم مسيرته . وقديما قالوا : ما زال

فلان يهذى حتى قال الشعر ... وكثر هم الذين قالوا الشعر ، واستمروا يقولون على صفحات الفكر ولمدة طويلة .

من مزايا الفكر انها فتحت آفاقها لخارج تونس حتى لا تظل حبيسة المحلية، ولو ان هذه آفة كل قطر عربى . فقليلة هى المجلات التى اتسع صدرها للوطن العربى جميعه أو اتسع صدر هذا الوطن لها . محاولة الفكر كانت جيدة ، ولو لم تنجح فيها بالقدر الذى كان يجب ان تنجح . وجدنا كتابا وكاتبات (على قلتهن) من مصر وسوريا والعراق والسودان والاردن وفلسطين والكويت والسعودية ولبنان والمغرب العربى ، واجدنى مضطرا الى القول بان اسهام هؤلاء ، ولو ان اغلبهم من الاسماء اللامعة فى الادب والبحث ، كانت قليلة فى عمر فكر اربى على الثلاثين . لا اريد ان اعلل او اقترح ، ولكنى اود ان يتسع النطاق فى المرحلة الجديدة من الفكر ، الى اشعاع أكثر ، اشعاع متبادل بين المجلة والكتاب الذين تستقطبهم من خارج تونس ، فلا شئ اكثر اغناء للمجلات، خاصة ، من اتساع دائرة كتابها وتنوعهم ، وهو الذى يضمن اتساع دائرة قرائها وتنوعهم .

وكم يسعدنا ان تصبح الفكر مجلة المثقفين العرب - وهى أهل لذلك - على قلة المجلات التى تجمعهم او تفتح صدرها لكثير منهم بمقدار ما يفتحون قلوب أقلامهم - وللاقلام قلوب فيما أزعم - لها .

يرشح الفكر لذلك ان تونس اصبحت مركزا عربيا مهما ومركزا ثقافيا مهما . جامعاتها اصبحت متعددة . و ((بيت الحكمة)) فيها - الذى يضم مجموعة من المفكرين والمثقفين التونسيين والعرب والاجانب - بدأ يأخذ مكانه بين المجامع والاكاديميات العلمية ، والجامعة العربية وجدت مكانها فى رحابها ، ومنظمة التربية والثقافة والعلوم العربية أرست قلاعها فى تونس .

بذلك ، وبغيره ، توسطت تونس الوطن العربى ، واصبحت مكان القلب المتحرك فيه . ولهذا فلا أقل من ان تصدر عن تونس مجلة للوطن العربى جميعه تضم أقلام كتابه وعلمائه مفكريه .

ومن (واستعمل متعمدا كلمة من) أجدر بذلك من الفكر ؟ هذه نظرة مستقلة لمجلتنا ((الفكر)) واعرف انها فى حاجة الى كثير من الجهود الماديه والمعنوية .

ولكنا تعودنا من الاستاذين محمد مزالى والبشير بن سلامة انهما يهمان . واذا هم اى منهما القى بين عينية عزمه . والعزيمة تفعل . ولا أقول : تكاد تفعل.

ايها الاخوة :

كما حمل إلي البريد عددا جديدا من مجلة ((الفكر)) شعرت بأن نبضا من الحياة ما يزال ينبض بين جناحى . فقد أشرفت على مجلتين ثقافيتين هما ((رسالة المغرب)) و ((البينة)) كما أشرفت على صفحات ادبية وعلى الملحق الثقافى لجريدة ((العلم)) ردحا طويلا من الزمان وقد ودعت المجلتين كما يودع الأب ابنا له الى مصيره . واذا كنت لم اعد أشرف على الملحق الثقافى فمكره أخاك لا بطل . ولذلك تجدنى أقدر كامل التقدير العمل الذى تقوم به النخبة المشرفة على مجلة ((الفكر)) واعتبره عملا شجاعا الى جانب انه عمل رائد ويتسم بكثير من التضحية والصبر والعناد الثقافى كما قلت . واذا كان ذلك يعود الى النخبة المشرفة فهو كذلك يعود الى النخبة القارئة ، فللقراء حظهم فى انجاح العمل الثقافى ، ولعل البطل المجهول فى هذا العمل الرائد هو تونس . فلولا ان تونس مفكرة ما عاش فيها منبر للفكر ، ولولا ان تونس ابنة قرطاج والقيروان وأم المفكرين والعلماء والادباء والمثقفين لكان (الفكر) جسما غريبا فيها ، وما تزال الاجسام تلفظ الغريب ... ولو كان فى لفظه موت لها ...

الفكر اذن فى بيئتها . واقدر لها أن تحيا لان الشجرة ، ولو كانت طيبة ، لا تعيش الا فى الارض الطيبة ، والأرض الطيبة فى حاجة كذلك الى رى دائم وتجديد للتربة مستمر ، واعتقد ان متعهد حديقة الفكر قادر على ذلك .

تحيه صادقة الى مجلة الفكر وهى فى عز رجولتها .

وتحية صادقة الى تونس المفكرة التى اثمرت زهرة الفكر والى الاخوة المفكرين الذين يضطلعون بهذه الرسالة .

اشترك في نشرتنا البريدية