(الحلقة الثانية )
وكتاب رسول الله بين المهاجرين والانصار واليهود وسع من الدستور والقانون في اوجز عبارة ما لا تحويه عشرات الصفحات ومئات المواد فى صلات اصحاب دين واحد بعضهم ببعض ، وفي صلاتهم بذوى دين يخالف دينهم ، كما شمل نظريات انسانية فى السياسة والاجتماع ، وفي حرية العقيدة . وحرية التصرف ، وحرية العمل .
وليس في الكتاب النبوى العظيم ما في المعاهدات الحديثة من مراوغات وكلمات تحتمل الوانا من التفسير فى صالح القوي الظاهر ، بل نجد كتاب الرسول آية فى الصدق والإنسانية والخير والمصلحة لكل طرف مذكور فيه .
واول ما حوى الكتاب مادة تكوين الامة الاسلامية التى تتعاقد طوائفها فيما بينها ثم تتعاهد كطائفة واحدة تنتمى لدين واحد مع طائفة اخرى تنتمى لدين آخر .
وهذه المادة هي اول ما في الكتاب بعد البسملة ، وها هو ذا نصها :
" هذا كتاب من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم انهم امة واحدة من دون الناس ".
وبعد هذه الجملة التى جعلناها المادة الاولى تأتي الجملة الثانية او المادة الثانية تفرد لمسلمي قريش الذين سماهم الله ورسوله ، المهاجرين واجبهم نحو بعض فتقول : ( المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين )
ثم جاءت ثمانى جمل ( مواد ) تخص كل جملة قبيلة من القبائل ، وتحدد علاقات افرادها بعضهم مع بعض كما حددت المادة السابقة علاقة المهاجرين بعضهم ببعض
فكل جماعة فى حدودها ذات تبعات خاصة مثل افراد الاسرة الواحدة بعضهم تجاه بعض ، وبعد تحديد هذه العلاقات بين الجماعات تأتي جملة ( مادة ) جديدة تجعل من هؤلاء الجماعات جماعة واحدة يتكون منها مجتمع فاضل كريم وقوى ، فتقول :
( وان المؤمنين لا يتركون مقرحا بينهم ان يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل ) .
ثم تأتي المواد الأخرى بعد هذه المادة لتجعل من المجتمع قوة متماسكة فى سلمها وحربها وشدتها ورخائها ليجمع بين ابنائه بعد العقيدة الواحدة شعور واحد وامان مشتركة ، وهدف واحد ومصالح واحدة ، وايمان يحقق لكل فرد فى هذا المجتمع ضمانه .
" والا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه . " وان المؤمنين المتقين ايديهم على كل من بغي منهم او ابتغي دسيعة ظلم او اثما او عدوانا او فسادا بين المؤمنين ، وان ايديهم عليه جميعا ولو كان ولد احدهم "
" ولا يقبل مؤمن مؤمنا في كافر ، ولا ينصر كافرا على مؤمن "
وان ذمة الله واحدة يجير عليهم ادناهم ، وان المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس "
وبعد هذا يقول كتاب رسول الله : ( وان من تبعنا من يهود فان له النصر والاسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم )
وحوى هذا الكتاب العظيم مبادئ واصولا فى علاقات الافراد بعضهم ببعض من ابناء الدين الواحد ، وصلاتهم بغيرهم ، والسماح لهؤلاء واولئك بالارتباط الوثيق بحيث يصبحون وكانهم ابناء ملة واحدة فى رعاية مصالحهم سلما او حربا .
ومن اعظم هذه المبادئ التى حواها كتاب رسول الله : حرية العقيدة ، فقال : ( لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ) .
وفيه : على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم ، وان بينهم النصر على من حارب اهل هذه الصحيفة ، وان بينهم النصح والنصيحة والبردون الاثم " .
وهذا المدى من النبل والانسانية في المعاهدات لم يعرف حتى الآن بين البشر لان الصلة لا تقوم على الظاهر وحده ، بل على الضمير ، فلا يجوز في شرعة كتاب محمد صلى الله عليه وسلم ان يعقد احد طرفي المعاهدة معاهدة سرية مع طرف ثالث او يتصل في الخفاء مع عدو الطرف الآخر كما يحدث في ايامنا .
كل طرف حر فى عقيدته وكسبه وعمله ورأيه ونشاطه المادي والادبي ، وموكول في تنفيذ المعاهدة قبل كل شئ الى ضميره الذي يفسره " النصح والنصيحة والبر دون الائم
وكل ما في هذا الكتاب تشريع للعهد والمعاهدة على خير المبادئ ، ففيه ما بينا ووراء ذلك كثير من الشرع الاسلامي ، فهو ابان قواعد صلة المسلمين بعضهم ببعض ، وتنظيم هذه الصلة لكي يقوم مجتمع تتحقق له العدالة والحرية والمساواة والأخوة والأمن
دون ان يكون هنالك غش ، بل الصدق والحق في كل شئ فيما بينهم .
ثم يبين كتاب رسول الله صلة اليهود بالمسلمين ، ويعطيهم الحرية في العقيدة والعمل ، وببيح لهم مشاركة المسلمين سكنى المدينة ، بل بلغ من عدل كتاب رسول الله ان اشترط لليهود واشترط عليهم مثل ما اشترط للمسلمين وعليهم ، وقرر مبدأ التكافؤ مع وجود الفوارق في الجنس والعقيدة والعادات والاخلاق ، وابان عقوبة الجاني ، ومنع حمايته ايواءه او مناصرته ، وقرر حق الجوار وضمانه .
وكل من اخل بشرط من شروط المعاهدة سواء اكان من المسلمين ام اليهود فان عليه جزاء النكث ، واذا حدث نزاع بين المتعاهدين فالحكم لله ولرسوله .
وهادة التحكيم نصها : ( وان ما كان بين هل هذه الصحيفة من حدث او اشتجار يخاف فساده فان مرده الى الله والى محمد رسول الله ، وان الله على اتقى ما في هذه لصحيفة وابره ) .
والتحكيم هنا ليس مثل التحكيم المشهود بن الناس والامم ، فهو تحكيم لا يقوم على القضاء وحده ، بل على الديانة ثم القضاء ، يكون الحكم صادرا من الايمان بالله الحق ، على اتقى ما في هذه الصحيفة وابره ، لا يجوز ان يكون احد الاطراف الحن بحجته واظهر بمنطقه فيكون الحكم له قضاء ، لان حكم القضاء مبني على الظاهر وحده ، اما لحكم ديانة فغير ذلك ، لان المدعي او المتخاصم التقى ينصف من نفسه ، فلا يظلم ، لا ياخذ ما ليس بحق له ، لانه يرقب ربه ان قبل ضميره التقى البار .
وعن مواد هذه المعاهدة العالية النقية :
" لا يائم امرؤ بحليفة ، وان النصر للمظلوم " .
و " ان اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين " .
و" ان يثرب حرام جوفها لاهل هذه الصحيفة " .
و " ان الجار كالنفس غير مضار ولا اثم " و " لا تجار حرمة الا بأذن أهلها " . و "لا تجار قريش ولا من نصرها " . و "ان بينهم النصر على من دهم يثرب " . و " إذا دعوا الى صلح يصالحونه"
وبلبسونه فانهم يصالحونه ويلبسونه ، وانهم اذا دعوا الى مثل ذلك فانه لهم على المؤمنين الا من حارب في الدين .
وتختم المعاهدة مادة جليلة هي : " لا يحول هذا الكتاب دون ظالم او آثم ، وانه من خرج امن ، ومن قعد امن بالمدينة الا هن ظلم أو أثم ، وان الله جار لمن بر واتقى ومحمد رسول الله " .
وهذه السنة التى جاءت في هذا الكتاب او المعاهدة من أول ما دون تدوينا رسميا ، وكان بأمر رسول الله .
ومعاعدة صلح الحديبية بين رسول الله وقريش مدونة بأمر رسول الله ، وتشتمل بنودها على وضع الحرب ، وتحديد الهدنة بعشر سنين ، " يامن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض " وضمان حرية المسلمين فى دخول مكة واداء شعائرهم بها ، وضمان حرية قريش في دخول المدينة حين اجتيازهم الى مصر والشام في تجارتهم ، وعصمة مال كل المسلمين وقريش ودمه عندما يدخل احد الطرفين حمى الآخر .
ومن موادها : ان من جاء رسول الله من قريش بغير اذن وليه رده عليهم ، ومن جاء قريشا من المسلمين لا يردونه الى رسول الله وللقبائل الحرية فى الدخول الى عقد رسول الله او عقد قريش . . الخ .
ورسائل رسول الله الى يهود خيبر مدونة بامره ، وفيها مبادئ السنة في الدعوة وفى اقامة الحق فقد دعا فى كتاب له صلى لله عليه وسلم يهود خيبر الى الحق ، وهذا نص الكتاب :
(من محمد رسول الله ، صاحب موسى واخيه المصدق بما جاء به ، الا ان الله قال كم يا معشر اهل التوراة - وانكم لتجدون ذلك في كتابكم : ( محمد وسول الله والذين امنوا معه اشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا سيماهم في وجوههم من اثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل كزرع اخرج شطاه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعدالله الذين امنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة واجرا عظيما ) .
" واني انشدكم بالله ، وانشدكم بما انزل عليكم ، وانشدكم بالذي اطعم من كان قبلكم من اسباطكم المن والسلوى
" وانشدكم بالذي ايبس البحر لأبائكم حتى انجاكم من فرعون وعمله ، الا اخبرتموني : هل تجدون فيما انزل الله عليكم ان تؤمنوا بمحمد ؟
فان كنتم تجدون ذلك في كتابكم فلاكره عليكم قد تبين الرشد من الغي فادعوكم الى الله ونبيه "
ومن السنة المدونة بأمر وسول الله
مقاسم اموال خيبر ومقاسم قمح خيبر . وامانه ليهود بني عاديا من تيماء ، وكتابه الذي اعطى فيه طعمة ليهود بني عريض ، ومكاتباته الى النجاشي ملك الحبشة ورسائله الى هرقل قيصر الروم ، وكسرى ملك الفرس ، واسقف ايلة وأهلها . ومعاهدته مع اهل ايلة ، ومعاهدته مع اهل جرباء واذرح ، ومعاهدته مع اهل مقنا .
ودونت رسائله الى فروة بن عمرو حاكم معان ، والى الحارث بن ابي شمر الغساني ، والى جبلة بن الايهم كبير غسان ، والى من أسلم من حدس ولخم ، والى زياد بن جهور اللخمي ، ومعاهدته مع بني ثعلبة من غسان ، واقطاعه الداريين ، اذ كتب لهم أول مرة اقطاعهم بيت عينون وحبرون والمرطوم وبيت ابراهيم ، ثم جدده لهم .
ومما دون من السنة في عهد رسول الله : كتابه لبني جعبل من قبيلة بلى ، وكتابه للمقوقس ، والى الهرمزان ، والى المنذر بن ساوى عامل كسرى على البحرين اذ بعث اليه الرسول ثلاثة كتب فى ثلاث مرات متتابعة ، وكتابه الى اهل هجر ، وكتابه الى المنذر بن ساوى فى مجوس هجر امره فيه ان يعرض عليهم الاسلام ، فان ابوا فالجزية ، فى غير اكل لذبائحهم ، ولانكاح لنسائهم .
وكتب الى المنذر بما فرض وقال له : ( خذ على كل رجل ليس له ارض اربعة دراهم وعباءة )
وبعث رسول الله الى المنذر قدامة وابا هريرة ، وامره ان يدفع لهما ما اجتمع لديه من جزية ارضه .
وكتاب رسول الله الى العلاء بن الحضرمي يخبره بانه بعث الى المنذر من يقبض منه ،
ويامر ان يبعث معه ما اجتمع لديه ويعجل
وكتابه لأهل هجر ، وكتابه الى اسيبخت ابن عبدالله صاحب هجر ( عامل كسرى عليها ) وهذا نصه :
الى اسييخت بن عبد الله صاحب هجر
بسم الله الرحمن الرحيم
انه قد جاءنى الاقرع بكتابك وشفاعتك لقومك ، مانى قد شفعتك وصدقت رسولك الاقرع فى قومك ، فابشر بما سالتني وطلبتني بالذى تحب ، ولكنى نظرت أن اعلمه وتلقاني ، فان تجئنا اكرمك الله وان تقعد اكرمك .
" أما بعد ، فانى لا استهدى احدا ، فان تهد إلى اقبل هديتك ، وقد حمد عمالى مكانك
. واوصيك باحسن الذي انت عليه من الصلاة والزكاة وقرابة المؤمنين .
واني قد سميت قومك بني عبد الله فمرهم بالصلاة وباحسن العمل ، وابشر والسلام عليك وعلى قومك ،
وهناك كتب اخرى ومعاهدات مدونة في عهد رسول الله وبامره ، لم نستقصها اكتفاء بما ذكرنا .
اما وقد ذكرنا عهده ليهود المدينة فان من تمام ما نبحث ان نذكر عهده لنصارى نجران فقيه مبادئ ، اشرف المبادئ في المعاملات وفي المعاهدات وفي الحقوق .
منها : ان رسول الله منحهم حرية العقيدة والعبادة ، وضمن لهم عدم التدخل فى شؤونهم الخاصة ، والإ يطا ارضهم جيش ، او يغير اسقفا او كاهنا او راهبا وظيفته .
وقررلهم صلاتهم بحكومة الاسلام ، ونظم له البيوع ، وابان لهم ما حرم منها ، وحذر من بايع بالربا فذمة رسول الله منه بريئة ، ونظم الجزية ومقاديرها واوقاتها ، وضمن لهم عصمة انفسهم واموالهم وملتهم وغائبهم وحاضرهم وعشيرتهم وتبيعهم وكل ما تحت ايديهم من قليل او كثير ، ولهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين .
وعدا عشرات الكتب النبوبة كتبها كتاب رسول الله وصحابته ممن ارسلهم قضاة وعمالا في الدولة الاسلامية .
ومن هذه الكتب النبوية كتابه صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حينما وجهه الى اليمن ، ابان له فيه : المغانم ، والزكاة ، زكاة العقار وزكاة الماشية ، وعلاقة المسلمين باهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وضمان حرية العقيدة والعبادة لمن بقى على دينه منهم ، اما من يسلم فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم .
وكتابه لزياد بن لبيد المهاجرى الانصاري الذي استعمله على حضرموت ، ذكر فيه زكاة الماشية وزكاة الزرع
وكتابه صلى الله عليه وسلم لعمرو بن زيد الخزرجي النجاري الذي بعثه الى اهل نجران بني الحارث بن كعب وهو ابن سبع عشرة سنة ، ليفقههم فى الدين ، ويعلمهم الفرائض .
وفي الاستيعاب فى ترجمة عمرو بن زيد ان رسول الله حينما وجهه كتب له كتابا فيه الفرائض والسنن والديات والصدقات اي الزكاة .
واخرجه أبو داود والنسائى وابن حيان والدارمي وغيرهم .
وكتابه صلى الله عليه وسلم الذى كان مع النمر بن تولب ، الموجه لبني زهير بن اقيش ، وفيه الدعوة الى الله ، والصلاة والزكاة والمغانم ، وسهم النبي ، وسهم الصفي ( ٦)
وروى ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى فى الابهام بخمس عشرة ، وفي التى تليها بعشر ، وفي التى تليها الخنصر بتسع . وفي الخنصر بست ، فلما روى له كتاب عمرو بن حزم الذى ذكر فيه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وفي كل اصبع مما هنالك عشر من الابل " رجع عن قوله وصار اليه .
وقال الامام الشافعي ( ٧ ) : " اخبرنا سفيان عن الزهرى عن سعيد بن المسبب : ان عمر بن الخطاب كان يقول : الدية للعاقلة ، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا ، حتى اخبره الضحاك بن سفيان ان رسول الله كتب اليه : ان يورث امرأة اشيم الضبابي من ديته ، فرجع اليه عمر "
وروى عبد الرحمن بن ابي ليلى عن عبد الله بن عكيم الجهنى قوله : ( جاءنا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الى ارض جهينة قبل وفاته بشهر : ان ( لا تنتفعوا من الميتة باهاب ولا عصب )
وقد نسخ هذا الحديث بحديث ابن عباس رضي الله عنهما : ان رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة فقال : " هلا استمتعتم بجلدها ؟ " قالوا يا رسول
الله ، انها ميتة : فقال : " انما حرم اكلها "
وجمعت اسماء بنت عميس رضي الله عنها احاديث لرسول الله فى كتاب ، وروى عنها بعض ابنائها واحفادها وبعض الصحابة ، وكانت ذات قدر في الاسلام ، فقد هاجرت الهجرتين ، واسلمت ورسول الله ، بمكة مبدأ الدعوة الاسلامية .
وكان لدى ابي رافع مولى رسول اللي صلى الله عليه وسلم كتاب فيه استفتاح الصلاة .
ولما مات محمد بن مسلمة الانصاري رضي الله عنه وجدوا بذوابة سيفه كتابا به حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان لدى سمرة بن جندب رضي الله عنه كتاب كبير جمع فيه احاديث رسول الله ، وهو من الحفاظ المكثرين - كما جاء فى الاستيعاب في ترجمته - وفي الاصابة : " عن سمرة : كنت غلاما على عهد رسول الله صل الله عليه وسلم فكنت احفظ عنه ".
ويصف ابن سيرين كتاب سمرة بقوله : " فى رسالة سمرة إلى بنيه علم كثير " ونحن لا نقطع بان كلمة ابن سيرين في وصف كتاب سمرة الذي جمع فيه احاديث لرسول الله ، ولكن من الجائز ان تكون الرسالة الكتاب .
وكتب ابو بكر رضي الله عنه خمسمئة حديث من احاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
عن عائشة رضي الله عنها قالت : " جمع ابي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان خمسمئة حديث ، فبات ليلة يتقلب كثيرا ، فلما اصبح قال : أي بنية هلمي الاحاديث التى عندك ، فجئته بها ، فدعا بنار فحرقها " .
والذي نريد ان ناخذه عن هذه الحادثة انه جمع الاحاديث ودونها ، ولم يحرقها الا في ايام خلافته .
وعمر بن الخطاب نفسه دون ، فعندما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي ، وايقن عمر من الموت طلب الى ابنه عبد الله ان يأتيه بالكتف الذي كتب عليه ، فذكر له ان يكفيه ، فلم يرض ، فاحضره اليه ، فمحا منه ما كتب فيه ، وكان مكتوبا فيه فريضة الجد .
ويجوز ان ما كتبه على هذا الكتف لم يكن حديثا ، ولكن هذا لا ينفي ان عمر دون ، فقد كتب بعض السنة لعتبة بن فرقد فعن ابي عثمان النهدى - كما جاء في سند الامام احمد - انه كان مع عتبة بن فرقد ، فكتب اليه عمر بن الخطاب باشياء يحدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان فيما كتب اليه : " ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يلبس الحرير في الدنيا الا من ليس له فى الآخرة منه شئ الخ ."
وعن محمد بن عبد الرحمن الانصارى قال : لما استخلف عمر بن عبد العزيز ارسل الى المدينة يلتمس كتاب رسول الله صلى لله عليه وسلم في الصدقات ، ووجد عند عمر كتاب عمر في الصدقات مثل كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : انسخها له ( ٨)
وعن ابن شهاب قال : هذه نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقات ، وكانت عند آل عمر بن الخطاب اقرانيها سالم بن عبد الله بن عمر (٩)
وعن ابن جريج عن عكرمة : ان ابا بكر ابن عبيد الله بن عبد الله بن عمر : كتب اليه بكتاب نسخة ابو بكر بن عبيدالله من صحيفة وجدها مربوطة بقراب عمر بن الخطاب الخ .
وقال الليث : حدثني نافع : ان هذه نسخة كتاب عمر بن الخطاب ، وكانت مقرونة مع وصيته ، وانه عرضها على عبد الله بن عمر مرات (١٠)
فعن كتاب السنن ، وما كتبه هو نص ما ورد في كتاب رسول الله ويظهر انه نسخه منه ، وبقي لديه ، ولم يحرقه او يمحه ، بل ورثه عنه ولده حتى انتهت منه نسخة الى عمر بن عبد العزيز ، وكان عمر حريصا عليه ، وعند موته لم يطلبه لمحوه كما طلب من ابنه الكتف الذي كتب فيه فريضة الجد ، فهو محا ما كان من رأيه ، واحتفظ بما ثبت عنده انه لرسول الله
وكان عند سعد بن عبادة كتب فيها احاديث لرسول الله وبعض سننه ، وروى ابنه من كتبه هذه بعض اعماله صلى الله عليه وسلم .
ويروى الامام البخارى ان صحيفة سعد ابن عبادة كانت نسخة من صحيفة عبدالله ابن ابي أوفي الذي كان يكتب الاحاديث بيده ، وكان الناس يقرأون عليه ما كتبه بخطه ، وابن ابي اوفى صحابي جليل شهد مع رسول الله الحديبية .
وجابر بن عبد الله الانصاري السلمي احد المكثرين عن رسول الله ، وروى عنه الفا وخمسمائة واربعين حديثا ، كانت له صحيفة ولكنا لا ندرى احوت ما روى عنه
كله ، ولكن الثابت ان صحيفته هذه كانت مشهورة وكان يحدث منها ، ويصفها قتادة ابن دعامة السدوسي احد جلة التابعين بقوله : ( لأنا بصحيفة جابر بن عبد الله احفظ مني لسورة البقرة ).
ويجوز ان صحيفة جابر حوت ذلك القدر الذي رواه من الاحاديث ، فالبقرة اطول سورة من القرآن ، ومجموعات رواه جابر لا يزيد عن سورة البقره ، واذا زاد فليس بكثير .
وكان جابر يحدث في مسجد رسول الله ، ويكتب عنه اعلام من التابعين ، ويملى هو نفسه على طلابه من حديث رسول الله .
وانس بن مالك رضي الله عنه ، احد من دعا لهم الرسول بالجنة وكثرة المال والولد ، فاستجاب الله دعاء رسول وراى انس فى الدنيا ما يختص بها من دعاء الرسول ، وخدم رسول الله عشر سنين ، ولازمه ، ولم يفارقه لا ليلا ولا نهارا وكان من المكثرين ، ومن الواقفين على سنة رسول الله فى سفره وحضره ، وفي بيته وخارجه ، وفي غزواته ، ومقابلة الوفود .
وكان يحسن الكتابة ويعنى من بها فقد كتب عن رسول الله احاديث كثيرة وأمر بنية ، ان يقيدوا العلم بالكتابة .
وهو نفسه عني بكتابة الحديث في مسجلات حرص عليها واحتفظ بها ، وكان يملى على المسلمين فيكتبون ما يملى .
بل وعرض ما كان يكتب من الحديث على صاحبه رسول الله ، فذات مرة كان يمل الحديث فتكاثر عليه الناس ، فجاء بمسجلات ودفعها اليهم وقال : " هذه احاديث سمعتها وكتبتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرضتها عليه (١١)
ولا يجهل انس حديث المنع الذي رواه أبو سعيد الخدرى ، وكتابة انس الحديث وعرضه على رسول الله ورضاه عنه واجازته اياه برهان على ان المنع ليس عاما ، والا لمنعه الرسول ، فالمنع - اذن - خاص لان استمرار انس على الكتابة والإكتاب آية على الاباحة من بين آياتها الاخرى .
وعائشة ام المؤمنين رضي الله عنها لم تمنع كتابة الحديث وكانت تجيب من يسالها عنه ، وتذكر للسائلين ما سمعت او رأت من سنة رسول الله ، بل شجعت ابن اختها عروة بن الزبير وقالت له : يا بني بلغني انك تكتب عني الحديث ثم تعود فتكتبه ، فقال لها : اسمعه منك على شئ ، ثم اعود فاسمعه على غيره ، فقالت له : هل تسمع في المعنى خلافا ؟ قال : لا : قالت : لا بأس بذلك ( ١٢)
ولا يغيب عن ام المؤمنين حديث المنع ، فهي على علم بما منع رسول الله واجاز ولو كان الكتاب ممنوعا لما وافقت على كتابة عروة الحديث الذي ترويه عن حبيبها وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .
والبراء بن عازب ، صاحب رسول الله كان يكتب الحديث ما سمعه هو نفسه من رسول الله او سمعه من اصحابه صلى الله عليه وسلم ، وكان يحدث بما كتب ، وكان من يسمعون من الحديث يكتبون على ايديهم باقلام القصب ( ١٣)
وغير هؤلاء من صحابة رسول الله حدثوا
وكتبوا ، واجابوا سائلين بما كتبوا من الحديث ونسخوا لهم بما لديهم عن كتب لرسول الله
وكل هذا يثبت ان التدوين واقع في حياة رسول الله كما ثبت ان رسول الله نفسه امر بعض صحابته بكتابة السنة في حال غضبه ورضاه .
وكان لبعض الصحابة صحف مكتوبات ، مثل ابى بكر ، وعمر وعثمان ، وعلى ، وسعد بن عبادة ، وعبدالله بن عباس ، وسمرة بن جندب ، وجابر بن عبد الله وغيرهم ، وفي صحفهم السنة المحمدية .
وكل ما ذكرناه يثبت - اولا - ان بين الصحابة عددا كثيرا ممن يجيدون القراءة أجادة تامة ، و - ثانيا - ان تدوين السنة كان في عهد رسول الله وبامره ، و - ثالثا - ان الصحابة جميعهم عنوا بالسنة ، كل العناء ، فحفظوا منها ووعوا ما استطاعوا ، وتمسكوا بها كل التمسك ، لانها مؤيدة الكتاب ومفسرته ومبينة ما فيه ، ومفصلة ما احملة ، وشارحة ما لم يشرحه الكتاب .
ومن هذه العناية تفرغ بعض الصحابة لها حفظا ودراسة ، حتى ان ابا هريرة رضي الله عنه روي خمسة آلاف وثلاثمائة واربعة وسبعين حديثا استظهرها كلها .
وخصومه وهو حى شهدوا له بسلامة الذكرة وقوة الحافظة واتفق الجميع على انه حفظ اصحاب رسول الله .
في الاصالة : " قال ابو الزعيزعة كاتب مروان : ارسل إلى ابى هريرة فجعل يحدثه . و كان اجلسنى خلف السرير اكتب ما يحدث حتى إذا كان فى رأس الحول ارسل اليه فساله ، وامرنى ان انظر فما غير حرفا عن حرف " .
وبين مروان وابى هريرة خصام ، فمروان ومن معه كانوا يريدون فضح ابي هريرة ولكن الله حمى صاحب رسول الله ، لانه عرف منه الصدق والايمان .
في الاصابة : اخرج ابن سعد عن طريق الوليد ابن رباح ، سمعت ابا هريرة يقول لمروان حين ارادوا ان يدفنوا الحسن عند جده : تدخل فيما لا يعنيك ، ولكنك تريد رضا الغائب ، فغضب مروان :
وهذه الشهادة تغني ، وسواء اكانت ام لم تكن ، فابو هريرة حافظ امين ، وهنا خمسة آلاف حديث يروبها من ذاكرته بعد ان سمعنا ان اناسا حفظوا اضعاف ما حفظ أبو هريرة ، وزادوا فوق ذلك انهم حفظوا الاحاديث باسنادها ، أما ابو هريرة فقد حفظ المتون لانه هو سامعها وراويها
ورايت اناسا يحفظون من الحديث بالسنن اكثر من ابي هريرة ويحفظون القرآن وشعر العرب .
فإذا كان هذا في حق اناس شغلتهم الحياة فما ثم مطعن على أبي هريرة بعد ان ثبت تفرغه للسنة المحمدية ، وخدمته الدائبة لرسول الله .
ويظهر ان تدوين السنة شغل ابا هريرة بعد ان اعترف بامتياز عبد الله بن عمرو بن العاص اذ قال في حقه : ( انه كان يكتب ولا اكتب ) ولم يكن عسيرا عليه ان يصنع ما صنع ابن عمرو ما دام الكتاب كثيرين
ولعل ابا هريرة فضل من توثر الشيخوخة في ذاكرته فلجا الى التدوين بوساطة من يكتبون ، فدون الأحاديث التى سمعها من رسول الله .
( البقية فى العدد القادم ان شاء الله )
( مكة المكرمة )
