منذ أن بحث " مالتوس " العلاقة بين الانتاج وعدد السكان وأثرها فى المعيشة وخرج من بحثه بنظريته المشهورة الداعية الى تحديد النسل حتى لا ينخرم التوازن ويعم الجوع والفقر المعمورة أصبح موضوع تزايد النسل يشغل بال علماء الديموغرافيا (علم السكان) وعلماء الاقتصاد على حد السواء.
ومعلوم انه قد تولدت عن هذا الاهتمام المتزايد نظريتان :
الاولى تدعو الى تحديد النسل باعتباره ضرورة اقتصادية.
والثانية لا ترى مشكلا فى الموضوع أو بالاحرى ترى الحل فى التعجيل بالتنمية الاقتصادية .
ويعلل أصحاب هذه النظرية الاخيرة رأيهم بما يلاحظ من أن تحسين حال العائلة بالتعليم من جهة ، وارتفاع مستوى العيش من جهة اخرى ، يصحبة دائما أو يليه تناقص ملحوظ فى عدد الاولاد .
فهل بعد هذا اننا اسرى أحد الحلين ؟
للاجابة على هذا السؤال لابد من وضع المشكل فى اطاره الحقيقى اى اطار البلدان التى تقاسى وطأة التخلف وتسعى جهدها للسير فى طريق النمو .
ان الواقع فى هذه البلدان - ومن ضمنها تونس - يمتاز من جملة ما يمتاز باختلال التوازن بين عدد السكان من جهة والنمو الاقتصادى من جهة أخرى .
فبينما يتضخم عدد السكان بطريقة مستمرة وبكيفية مهولة يشاهد ان الانتاج لم ينم كثيرا ، وفي هذا الصدد يقول " الفراد سوفى " : " ان البلدان التى تستهدف أكثر من غيرها الى ضغط تضخم عدد السكان هى فى آن واحد تلك التى تعاني شدة الفقر ، فالفقر والتناسل متلازمان وهما مظهران لوضع واحد وهو عدم التحكم في الطبيعة وهذا ما يعرف أيضا بالتخلف .
وازاء هذا الواقع كيف يكون العمل حينئذ ؟ وما هى الغاية التى يجب ان نرمى اليها والسبل التى يتحتم عليها توخيها ؟
المهم هو أن يتناسب عدد الاولاد والسكان مع الانتاج . والمهم أيضا هو أن تتماشى الزيادة في الاولاد والسكان مع استغلال الامكانيات وتوافر الموارد .
كل هذا لا يمكن أن يتحقق بترك الحبل على الغارب وبترك الامور تجرى على أعنتها ثم للطبيعة أن تنظمها كيف تشاء ، ولن يتحقق بترك المشاكل للزمر والظروف والتطور الذى قد ينقص من تزايد النسل بموجب تحسن حال العائلة وارتفاع مستواها كما يرى البعض ، فنحن " نعجن فى طاحين مقعور " كما يقول العوام اذ لا يمكن أن يتحسن حال مجتمعنا ما دامت الزيادة فى الولايات تفوق الامكانيات من مأكل وملبس ومسكن ، ونحن أمام سباق مهول أمام تزايد النسل من جهة ومجهودنا لايجاد الشغل وتوفير الانتاج للاجيال الصاعدة من جهة أخرى ، ومن الواضح فى هذا السياق ان النسل يجرى بسرعة أكثر من سرعة التقدم الاقتصادى والاجتماعى فى الوقت الحاضر .
ولكل تلك الاسباب يجب تقديم الحل للسيطرة على الموقف بكل عزم وحزم
وتقديم الحل ليس فى الاختيار بين نظرية " مالتوس " الداعية الى تحديد النسل دون سواه والنظرية المعاكسة التى ترفض هذا التحديد يرمته ولا تقول الا بالتعجيل بالتنمية الاقتصادية بل فى الجمع بين الطريقتين .
فبعد ما انتهجنا طريقة التخطيط الاقتصادى ها نحن قد بدأنا فى انتهاج التخطيط العائلى باعتباره متمما للاول وهذا ما يراه الان معظم علماء الديموغرافيا الذين أصبحوا يدعون الى الجمع بين الحلين ويؤكدون ان هذا الامر ليس بالعسير .
والتجربة التى شاهدها العالم فى اليابان مثلا تؤكد وجهة النظر هذه فالاحصائيات الاخيرة تدل على انخفاض كبير فى معدل الولادات ، كما ان معدل الزيادات فى الاستثمارات وفى الانتاج تؤكد ضرورة وامكان الجمع بين الحلين .
ليس لتنظيم النسل فوائد اقتصادية عامة فحسب بل له أيضا فوائد اجتماعية لتوازن العائلة وسعادتها وفوائد صحية للام والطفل على حد السواء
وان تنظيم النسل عن طريق منع الحمل هو الوسيلة التى يجب توخبها حتى لا يقع الاضطرار الى الاجهاض لما له من أخطار على الام .
- الحالة العمرانية فى تونس : ضغط بشرى وتخلف :
ان تونس من أكثر بلدان العالم تناسلا وهى الى جانب ذلك تعانى وطأة التخلف بما يحتوى عليه هذا اللفظ من معان ومظاهر مشينة .
وتعد البلاد التونسية حسب الاحصائيات الاخيرة فى سنة 1956 - 3943265 ساكنا . ومن المتوقع أن يتطور هذا العدد حسب الارقام التالية :
- 4431000 ساكنا فى سنة 1966 - 4724400 ساكنا فى سنة 1971
وان معدل الزيادة هو بنسبة 2.2 فى المائة سنويا وهذه نسبة من أقوى النسب فى العالم .
وترجع اسباب الزيادة الى تقدم الطب وما يتبعه من التغلب على معظم الاوبئة والجراثيم الفتاكة وخاصة منذ اختراع المواد المبيدة للجراثيم والحشرات "كالسلفاميد" و"الانتيبيوتيك"و"الددت" ومواد التلقيح ضد الامراض المعدية وتحسين وسائل حفظ الصحة .
وقد نتج عن ذلك كله انخفاض فى الوفايات وخاصة بين الاطفال . فبينما كانت نسبة هذه الوفايات حوالى 35 فى الالف قبل الحرب العالمية الثانية نزلت هذه النسبة الى حوالى 12 فى الف في سنة 1960- والملاحظ فى هذا الشأن أن عدد الاطفال عند الطبقات الكادحة والعائلات الفقيرة هو بمعدل ستة اولاد بينما هو أقل من ذلك عند العائلات المترفهة اذ يصل الى اربعة اولاد فقط .
وقد نتج عن هذا الانخفاض فى الوفايات بين الاطفال تزايد السكان حسب الاعمار كما يلى :
- من يوم الى 4 سنوات : 17 فى المائة - من 5 سنوات الى 20 سنة : 33،7 فى المائة - من 20 سنة الى 60 سنة : 42،7 فى المائة - من 6 سنة فما فوق : 6،6 فى المائة
وذلك يعنى ان حوالى 50 فى المائة من مجموع سكان البلاد التونسية هم الشبان الذين لا يتجاوز عمرهم 20 سنة .
وان كان ذلك يبعث على التفاؤل بالمستقبل اذ أن هؤلاء الشبان طاقة خلافة فان سيلهم يزيد فى عبء المسؤولية لانهم لا يساهمون فى الانتاج ويثقلون كاهل عائلاتهم وحتى كاهل الدولة من حيث تعليمهم فى الوقت الحاضر وتشغيلهم فى المستقبل .
ويتوزع السكان حسب نوع نشاطهم الى 73 فى المائة يشتغلون فى الفلاحة و 27 فى المائة يتوزعون على مناطق النشاط الصناعى والتجارى .
أما التوزيع من حيث الاصناف الاجتماعية الاخرى فهو كما يلى :
26.2 في المائة عملة مستقلون - 36 فى المائة معاونون فى العائلات
37.8 اجراء من بينهم 3/4 من العملة غير المتخصصين وهى ميزة البلدان المتغلبة فيها الصناعات اليدوية والمشاريع الصغرى .
وقد نتج عن ذلك كله ضعف مستوى المعيشة بما فيه من تغذية وصحة ومسكن وبطالة وهو ما يعرف بالتخلف .
والتخلف نفسه نتيجة لاختلال فى التوازن لا فحسب بين القطاعات الاقتصادية ... والقطاعات الجغرافية ... بل ايضا بين الموارد وبين عدد السكان .
مقاومة التخلف بالتخطيط الاقتصادى والاجتماعي .. والتخطيط العائلى ايضا :
من أهم مظاهر التخلف واسبابه فى البلاد التونسية اختلال التوازن بين عدد السكان وبين الموارد . فينما يتزايد السكان بالنسبة المذكورة سابقا لا يزداد الدخل القومى بنسبة ملائمة .
ويقتضى تزايد السكان تغذية واكساء ومعالجة وتعليم ما بين 70 و 80 الف نسمة جديدة كل سنة . كما يقتضى أيضا تشغيل 28 الف عامل بالاضافة إلى البطالة الحالية .
وأمام هذه الحالة وقع اتباع سياسة التخطيط والعدالة الاجتماعية بغية تحقيق الاشتراكية . ضبط المخطط العشرى أهدافا واضحة وحدد لبلوغها آجألا معينة ...
الا ان نسبة تزايد عدد السكان الحالية التى لا تتماشى مع المجهود لتوفير الواردات سوف تمكن من بلوغ الاهداف المنشودة . فاقصى ما يمكن انتظاره والحالة تلك هو استقرار مستوى المعيشة على ما هو عليه الان من ضعف .
ولذا فان مقاومة التخلف سوف لا تتحقق بالمخطط فحسب اذ لا يمكن رفع مستوى المعيشة مع استمرار الحال على ما هي عليه وترك مشاكل السكان للطبيعة والزمن والظروف ولا يمكن أن يزداد الدخل الفردى اذا استمر تكاثر السكان وتضاعفهم .
فقد اصبح من الواجب - بجانب المخطط الذى آلت الحكومة والحزب والشعب على تحقيقه أصبح من الواجب أيضا " تخطيط العائلة " . ولا يتسنى ذلك الا بتنظيم النسل .
تنظيم العائلة وفوائده :
ان تنظيم العائلة - أى السيطرة على الطبيعة كما يقول " الفراد سوفى " - الذي يحتمه الخروج من التخلف ورفع المستوى له فوائد اقتصادية واجتماعية وصحية فى آن واحد .
فمن النآحية الاقتصادية هناك التأثير على الاقتصاد العام بتحقيق التوازن بين تزايد السكان وتوفير وسائل العيش كما ذكر سابقا .
فتنظيم النسل لن يعوق أى توسع فى الانتاج بل بالعكس من ذلك فهو يؤدى الى زيادة انتاج الفرد اذ يصحبه تحسن فى الصحة وفى قوة الافراد وطول العمر بحيث يستطيع الشخص أن يؤدى فى حياته من الجهود أكثر ما كان يفعل في صورة ما اذا كانت التغذية ناقصة والعمر قصيرا . وتنظيم النسل بعمل على زيادة من هم فى سن العمل والانتاج بالنسبة الى ما هى عليه الآن ( 50 في المائة اقل من 20 سنة) . وهناك أيضا التأثير على امكانيات العائلة نفسها .
وفى هذا الصدد يقول المجاهد الاكبر الحبيب بورقيبة :
" لسنا نروم توقيف النسل بل الذى نرومه هو تحكيم الفكر وتقدير ذات اليد تقديرا صحيحا قبل الاقدام على مسؤولية انجاب البنين " .
فتنظيم النسل يخفف وطاة كثرة الاولاد على الابوين لما يتطلبونه من مأكل وملبس وتربية . وتنظيم النسل يوفر لهما أموالا يمكن استعمالها للرفع من مستوى معيشة العائلة .
ومن الناحية الاجتماعية فان تنظيم النسل يتيح الفرصة لرعاية الاطفال والعناية بهم .
ومن الواضح ان هاته العناية تصعب بقدر ما يزداد عدد الاولاد . فينتج عنها اهمال لما يتبعه من تفشى الامراض بانواعها وخاصة أمراض نقص التغذية وسوئها وكذلك عدم احترام مبادىء حفظ الصحة فتنتشر الاوبئة .
ونتيجة لزيادة الاعباء على الازواج هناك انهيار فى العائلة من حيث الارتباط بين الافراد مما ينعكس أثره على حياة المجتمع فى التعاسة والمشاجرة وتشريد الاطفال .
ومن الناحية الصحية هناك أخطار تهدد الام اذ الحالة الصحية للمرأة التى تقاسي التعب وسوء التغذية فى الاوساط الشعبية تزداد تعكرا بموجب تمدد الولايات - ويتسب عدد الولادات هذا فى انتشار أمراض فقر الدم Anemie ولين العظام Osteomalacia وغيرها من الامراض . وهذه الامراض نفسها تحمل بدن المرأة عرضة لاتفه هجوم تقوم به الجراثيم على جسمها وهى أضعف من أن تقاوم الجراثيم ولا مناعة تحميها من فتكها بها . واكثر من ذلك فان المرأة التى تتكاثر لديها الولادات مهددة فى حياتها بالذات عند وضع الحمل- والوفايات تكثر نتيجة النزيف أو خرق الرحم الذى يصيب المرأة من جراء تعدد حالات الحمل المتوالية .
يضاف الى ذلك كله حالات نفسانية خطيرة فالزوجة التى تئن تحت المسؤوليات الثقيلة التى تنتج عن كثرة الولادات يخالج شعورها النفساني قلق واضطراب عند كل اقتراب جنسى وينتهى بها الامر الى أن تفقد كل
طمأنينة وراحة من جراء المباشرة ومن ثم تفتر العلاقة الزوجية ويختل التضامن بين الزوجين . وقد يصاب الرجل بالعنت ازاء زوجته بالذات ويسعى لاشباع شهوته بعيدا عنها وفى هذا بدء تدهور العائلة .
وهناك أخطار تهدد الطفل الذى ليس هو أسعد حظا من أمه إذا تكرر الحمل وتلاحقت الولادات . فقد يولد ميتا . . وان لم يولد ميتا يقع وضعه دون التسعة اشهر بما ينتج عن ذلك من صعوبات جسام في تربيته والعناية به وحمايته من الاخطار التى تهدد حياته . . وان لم يكن كذلك فقد يولد ناقصا أو مشوه الخلقة .
فهل بقى بعد كل ذلك من شك فى ضرورة تنظيم العائلة ؟
تنظيم العائلة بالوقاية من الحمل :
اننا فى تونس المتخلفة اليوم وخاصة فى العائلات التى لها مستوى من العيش الضعيف ، فى حاجة الى الوقاية من الحمل والتوسع في نطاق هذه الوقاية قبل بلوغ المستوى المادى الاقتصادى والفكرى الذى يسهل علينا استعمال الوسائل والمواد الواقية من الحمل .
وان الوقاية من الحمل يمكن الحصول عليها قبل أن يمكننا من ذلك النمو الاقتصادى الحالى .
وما من شك في انه قد تحصل من ذلك فوائد جمة وخاصة ان المشاكل الاقتصادية قد تخف وطأتها ويسهل حلها .
وكيف يتسنى لنا ذلك ؟
هناك مبدأ أول لابد من العودة اليه والالحاح فيه هو أن " الوقاية خير من العلاج " وهى أنجح وأفضل بكثير من الاجهاض الذي لا يقره العقل ولا تقره الاخلاق ولا تقره الانسانية .
وهناك مبدأ ثان تفرضه نفسية العائلة وتوازنها . وهذا المبدأ هو أن يكون منع الحمل مؤقتا لا نهائيا . هو أن نرمى الى تحديد النسل غالبا لا قطعه بتاتا هو أن نرمى الى التحكم فى النسل ومنع الحمل متى شئنا وتحقيقه متى شئنا ، هو أن نرمى الى تنظيم النسل ليس الا ..
وهناك مبدأ ثالث وهو الوصول الى استعمال طرق تتوفر فيها الشروط التالية :
أولا - ان تكون غير مضرة بالبدن ولا بالنفس . ثانيا - ان تكون سهلة الاستعمال وفي متناول الجميع .
وفي هذا الشأن هناك الوسائل الطبيعية وخاصة منها طريقة " اوجينو " Ogino التى تعتمد على مدة الخصوية واللقاح أثناء دورة الحيض وهناك الغسل .. وهناك الوسائل الميكانيكية المادية . . وهناك الوسائل الكيمياوية البيولوجية التى تمكن من الحصول على العقم الموقت حسب ارادة الزوجين التى هى أهم من كل شئ ... وهناك قبل كل شئ الدعاية والتوجيه والارشاد .
يجب اشعار الزوجة والزوج فى آن واحد بخطورة التواكل وبثقل عبء كثرة الاولاد على العائلة وعلى المجتمع على حد السواء .
ويجب اعانة المرأة الواعية باخطار تكاثر الولادات والواعية بثقل مسؤولية تربيتهم على التنقيص من الولادات والتخفيف من وطأة كثرة الاطفال .
وبعد فان هذه الحملة الدعائية - ولو انها ضرورية ويجب المبادرة بها - فهي فى حد ذاتها غير كافية . بل يجب اتمامها بوسيلتين اخريين :
أولا - اختيار وسائل غير مضرة وأدوية ناجحة .
ثانيا - جعل هذه الوسائل والادوية المضادة للحمل فى متناول الجميع .
وختاما فان تنظيم النسل الذى يحمه الاقتصاد والاجتماع والصحة يمكن الوصول اليه في نطاق رعاية الام والطفل . وان القانون الذى صادق عليه مجلس الامة في 5-1-1962 هو خطوة حاسمة فى سبيل تنظيم النسل . ولكن بحب مراعاة الطبقات الشعبية أولا وبالذات فى تحقيق فوائد وأغراض القانون وذلك بالتوجيه الواسع النطاق وبالائمآن البخسة للادوية او الوسائل الاخرى التى يقع اختيارها لنجاعتها ولعدم مضرتها فى آن واحد .
وسوف يحقق برنامج الحكومة المقبل كل هذه الغايات التى ستساعد على بناء مجتمعنا الافضل .
