الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 8الرجوع إلى "الفكر"

تصريف بكتاب (( الانموذج )) لابن رشيق

Share

عرف أبو على الحسن بن رشيق بالنقد الادبى فى كتب ثلاثة هى : العمدة - قراضة الذهب - الأنموذج . لكن شهرته فى ذلك كانت تتمثل خاصة فى كتاب (( العمدة )) ثم فى كتاب (( قراضة الذهب )) . ويعود ذلك الى أن الكتابين المذكورين كتب لهما بقاء الذات والرواج بينما كتاب (( الأنموذج )) لم يكتب له سوى أنقال عنه أثبتتها بعض المصادر المشرقية والمغربية مما سنعرض له بشئ من التفصيل فيما بعد . وكان كتاب (( العمدة )) أكثر تلك الكتب حظوة عند القدماء فتناولوه بالشرح أو الاختصار ، أو الاستشهاد والذكر نظرا لصلته المتينة بالنقد الادبى ، كما طبع عدة مرات فى العصر الحديث . ولو أن حظه من التحقيق العلمى فى تلك الطبعات كان قليلا جدا مما يدعو الى الأمل بأن يحصل له ذلك يوما ما مثلما حصل لكتاب (( قراضة الذهب )) التى حققها أخيرا الاستاذ الشاذلى بو يحيى ونشرتها الشركة التونسية للتوزيع سنة 1972 .

اسم الكتاب : ولعل أول ما يمكن أن نتناول به الحديث عن (( الأنموذج )) هو اسم الكتاب إذ نجده تارة باسم (( أنموذج الزمان فى شعراء القيروان )) ومرة باسم (( أنموذج الزمان )) أو باسم (( الأنموذج )) . وقد ادعى البعض أن الاطلاق الصحيح هو (( النموذج )) حتى أصلح الاسم على تلك الصيغة (I) ولكن

النص الشعرى الذى أثبته ابن رشيق نفسه لعبد الرزاق بن على النحوى يؤكد أن اللفظ الذى اختاره ابن رشيق لكتابه هو (( الأنموذج )) لا النموذج . فقد قال الشاعر المذكور مادحا لابن رشيق :

ومطرزا حلل البلاغة معجزا         كل الورى ببلاغة الأنموذج

فكأنه للسمع لفظ أحبة             وكأنه للعين روض بنفسج (2)

أما اسم الكتاب كاملا فنرجح أنه (( أنموذج الزمان فى شعراء القيروان )) وأن التسميات الاخرى إنما كانت على سبيل الاختصار والذكر ، وهو أمر شائع عند القدامى والمحدثين عندما يذكرون الكتب خاصة فى مجال الاستشهاد أو مجرد الذكر . فيكتفى مثلا - ابن بسام (3) وابن خلكان (4) بلفظة الأنموذج . بينما نحد - مثلا - ابن الابار (5) يضيف الى لفظة (( الأنموذج )) (( شعراء القيروان )) . وكذلك السيوطى فى البغية (6) . ويقول عنه الصفدى : إنه أنموذج الشعراء (7) .

وإذا اتبعنا أسلوب ابن رشيق فى تسمية كتاب (( الروضة الموشية فى شعراء المهدية )) وكتاب (( قراضة الذهب فى نقد أشعار العرب )) نرجح أن الاسم الصحيح للكتاب هو (( أنموذج الزمان فى شعراء القيروان )) . مع ملاحظة أن لفظة (( القيروان )) لا تعنى المدينة فقط بقدر ما تعنى عاصمة إفريقية التى كانت منتجع الشعراء إذذاك . وهو انتجاع يمتد الى خارج

حدود إفريقية . والمطلع على ما ورد فى (( الأنموذج )) من الشعراء يجد أن الكثير منهم غير قيروانى الأصل بما فى ذلك ابن رشيق نفسه .

واذا كان كشف الظنون لحاجى خليفة يحمل فى عنوانه التنصيص على أسماء الكتب فاننا نجد هذا الكشف يضح اسم (( الأنموذج )) ( موضوع البحث ) مرة فى باب طبقات الشعراء ويسميه (( الأنموذج فى شعراء القيروان ))  (8 أ) ونجده فى الترتيب الأبجدى يذكر كتابين لابن رشيق الاول باسم (( أنموذج الزمان فى شعراء القيروان )) لأبى على حسن الأزدى المهدوى ، والثانى (( الأنموذج فى اللغة )) لأبى على الحسن بن رشيق القيروانى المتوفى سنة ست وخمسين وأربعمائة (8 ب) على معنى ان لابن رشيق كتابين اثنين بهذا الاسم : أحدهما فى طبقات الشعراء والآخر فى اللغة مما اعتبره البعض من أوهام المتأخرين (9) .

متى ألف الأنموذج ؟ لم يعرف بالضبط متى ألف ابن رشيق كتاب (( الأنموذج )) . ولهذا حاول بعض الدارسين تحديد زمن تأليفه اعتمادا على شئ من الاستنتاج . وبما أن مقدمة الكتاب غير معروفة لحد الآن فان ذلك مما زاد الغموض فى هذه النقطة . ويكاد يكون هنالك إجماع من أولائك الدارسين على أنه ألفه بعد كتاب (( العمدة )) لاشارة وردت فيه حملت على أنها تعنى كتاب الأنموذج . وهذه الاشارة هى العبارة التى جاءت فى العمدة فى باب التكسب بالشعر . ونصها : ((... وهذا باب قد احتذاه الكتاب فى زماننا إلا القليل ، وقوم من شعراء وقتنا أنا ذاكرهم فى كتاب غير هذا إن شاء الله....)) (10) فقد اعتبر الميمنى (II) وتابعه عبد الرحمان ياغى (12) أنه تبشير بالأنموذج وعزم على تأليفه . ويروى الشاذلى بو يحيى أن ابن

رشيق ألف أنموذجه حوالى سنة 420 (1029 م ) (13) . إلا أن هذا التقدير قد يعارضه ما جاء فى النصوص المنقولة عن الآنموذج عندما ينص ابن رشيق - حسب تلك النصوص المنقولة - على أن وفاة هذا الشاعر أو ذاك كانت بعد ذلك التاريخ . ومن هذا ما ذكره عن وفاة عبد الله بن محمد البغدادى أنه مات بالحضرة سنة احدى وعشرين وأربعمائة (14) .

ومهما يكن فما نحسب أن ذكر السنوات يمكن أن يعتبر - فى مثل ذلك - تحديدا لا يقبل جدلا ما دمنا لم نجد نصا لصاحب الكتاب أنه ألف الكتاب أو انتهى منه سنة كذا . إذ لا مانع أن يضيف المؤلف سنة الوفاة لأى شاعر كتب عنه قبل وفاته ، أو علم سنة وفاته بعد الكتابة عنه ، خاصة أن ذلك العصر لم تكن فيه الطباعة التى قد تحول - أحيانا - بين الكتاب وصاحبه عن إعادة النظر فيه . كما نفقد فى هذا المجال النسخ المتعددة التى يمكن اعتبار إحداها قد أخذت عن المؤلف قبل أن يضيف إليه أشياء جديدة عن نسخه اعتبرت عنده نهائية .

ولعل الاهم من تحديد زمن التأليف كتاب الأنموذج هو ما اعتبره بعض الدارسين أنه جاء بعد كتاب العمدة ليكون مجال تطبيق لقواعد النقد التى سجلها ابن رشيق فى كتاب العمدة وهذا ما انتهى إليه بعض الدارسين المعاصرين فقد اعتبر ابن رشيق (( كأنه فى أنموذجه إنما كان يطبق خلاصة تجاربه فى النقد ، فتناول شعراء عصره فى كتابه الأنموذج بدراية وذوق ومرانة كافية )) (5) إذ (( حاول فى دراسته لشعراء القيروان فى كتاب الأنموذج أن يطبق بعض القواعد النقدية التى حشدها فى كتاب العمدة )) (16) وقد وجد أسلوب ابن رشيق فى النقد الأدبى مجال التطبيق فى كتابه (( أنموذج الزمان فى شعراء القيروان )) (17) .

الدافع على تأليف الكتاب : مرة أخرى نذكر أن فقدنا لمقدمة كتاب الأنموذج تجعلنا نتساءل عن السبب الذى دعا ابن رشيق الى تأليف كتابه المذكور . خاصة أن الكثير من كتبه

ورسائله الاخرى عرفت أسباب تأليفها أو لمن ألفت فاذا كان البعض من رسائله دعاء الى تأليفها الجدل الادبى الذى كان بينه وبين قرينه ومعاصره ابن شرف (18) وأن (( قراضة الذهب )) كان الداعى الى تأليفها استحسان أبى على اللواتى لبيتين من مرثية ابن رشيق للأمير أبى منصور الصنهاجى (19) فان كتاب الأنموذج لم نجد التنصيص على سبب تأليفه . لكننا نرجح أن ذلك يعود الى سببين : 1) الأول أن ابن رشيق كان يعمل على تدارك النقص الملحوظ فى كتب طبقات شعراء إفريقية خاصة أن هذا النوع من الكتب توفر فى المشرق سواء للشعراء القدامى أو المحدثين . ولا ينكر أن المغاربة كانوا يحتذون المشارقة فى كثير من الميادين وكانوا مطلعين على أغلب ما ينتجون ، جاعلين منهم محل الاحتذاء والاقتداء ، ومضرب التمثيل والمشاهدة . وسوف نرى فيما بعد عينات من ذلك فى كتاب الأنموذج نفسه . أما السبب الثانى فيتصل بموقف شخصى لابن رشيق يمكن أن نستروح منه دافعا ذاتيا إلى تأليف كتابه المذكور ، فقد جاء فى الترجمة التى خصصها ابن رشيق لأبى إسحاق ابراهيم الحصرى ما يلى : (( . . وله تآليف جيدة فى ملح الشعر والخبر . وقد كان أخذ فى عمل (( طبقات الشعراء )) على رتب الأسنان . وكنت أصغر القوم سنا فصنعت :

رفقا أبا إسحاق بالعالم           حصلت فى أضيق من خاتم

لو كان فضل السبق مندوحة    فضل إبليس على آدم

فلما بلغه البيتان أمسك عنه . واعتذر . ومات وقد سد عليه باب الفكر فيه . ولم يصنع شيئا (20) .

ويستنتج من هذا النص أن فكرة تأليف (( طبقات الشعراء )) عند ابن رشيق كان مسبوقا بها من أبى إسحاق الحصرى . وأن موقف ابن رشيق من أسلوب تأليف تلك الطبقات كان سببا فى عدول أبى إسحاق الحصرى عن تأليف كتابه . ولهذا حاول ابن رشيق أن (( يكفر )) عن ذلك الموقف ، وأن يؤلف كتابه المذكور ( الأنموذج ) فى طبقات الشعراء على غير الأسلوب الذى كان يعتزمه أبو إسحاق الحصرى من قبله . ولا نحسب أن هنالك ما يمنع أن يكون هذا الاستنتاج مسايرا للسبب الأصلى لتأليف كتاب (( الأنموذج )) أو أن يكون محرضا على تأليفه على الأقل .

محتوى الأنموذج : (( . . الفن الذى أفاض ابن رشيق فيه ، وأطلق للقلم عنانه يتمثل فى كتاب (( أنموذج الزمان فى شعراء القيروان )) ، وهذا الاسم ينبئ على ما احتوى عليه هذا التأليف الذى هو أجمل وأشمل ما كتب الكاتبون فى تراجم أدباء إفريقية )) . هذا ما قاله المرحوم حسن حسنى عبد الوهاب فى (( بساط العقيق )) (21) . ولفظة (( الزمان )) فى عنوان الكتاب تعنى أن ابن رشيق خصص كتابه للشعراء والأدباء المعاصرين لعهده ، والذين كان يعج بهم بلاط المعز بن باديس الصنهاجى إذ كان بلاطه منتجع الأدباء وكعبة القصاد والشعراء (22) وقد احتوى هذا البلاط على أكثر من مائة شاعر حسب تقدير حسن حسنى عبد الوهاب فى بساط العقيق (23) وتقدير حسن حسنى عبد الوهاب لا يبعد عما عرف - لحد الآن - من أسماء الشعراء الذين ذكرهم ابن رشيق فى أنموذجه إذ بلغ ما أحصيناه منهم - لحد الآن - مائة شاعر منهم خمسة وثمانون مذكورون فى مسالك الأبصار للعمرى . والبقية من الوافى للصفدى ، وواحد انفرد بذكره عياض فى المدارك (24) هو محمد بن على الطبنى . وبما أن ابن الأبار ألف كتابه (( تحفة القادم )) مضاهيا به ابن رشيق فى كتابه (( أنموذج الزمان )) فان العبارة التى يقول فيها (( . . وشارعا فى

تكميل عددهم مائة شاعر وشاعرة . . )) (25) يمكن أن ترجح أن عدد شعراء (( الأنموذج )) كان مائة شاعر أو ما يقرب من هذا العدد . كما أن عبارة ابن الأبار (( . . وقصرته على أهل الأندلس بلدى . . )) (26) تزيد توضيحا لتحديد الاطار الذى ضم شعراء إفريقية مما سبق أن أشرنا إليه من ان (( القبروان )) لا يقصد منها مدلولها اللفظى بقدر ما تعنى مدلولها السياسى فى ذلك العصر أى إفريقية الصنهاجية ، لهذا فان الكتاب لا يشمل أصيلى القيروان فقط بل نجد من المسيلة ابن رشيق نفسه ومثله عبد الكريم النهشلى وعمران بن سليمان ، كما نجد فيه من تونس أمثال على بن يوسف وعبد الواحد الزواق . ومن قرى المهدية نجد خلف أحمد من (( السعديين )) ومحمد ابن أبى المنهال من (( زبنة )) ، ومن بادية الساحل عبد العزيز بن محمد ، ومن جراوة عبد الله بن محمد ، ومن قفصة محمد بن إبراهيم الكفيف ، وغيرهم كثير .

وحصر ابن رشيق كتابه فى شعراء زمانه لا يعنى أنه جمعهم كلهم ؛ لأننا نجد البعض من أولئك المعاصرين غير موجودين فى كتاب (( الأنموذج )) . وقد نبه التجانى على ذلك فى رحلته . من ذلك ما ذكره بخصوص عبد الحليم السوسى الكاتب . فقد قال التجانى : ان ابن رشيق أهمله فى (( الأنموذج )) وأثبته أمية بن أبى الصلت فى (( الحديقة )) (27) . وكذلك الشأن بالنسبة لأبى عمرو عثمان الصفاقسى المعروف بابن الضابط (28) . ولا يعزى ذلك الاغفال الى الجهل بالشاعر فان ابن الضابط كان معروفا عند ابن رشيق نفسه ؛ فقد جاء فى كتاب الصلة لابن بشكوال (29) أن أبا عمرو الصفاقسى قال : بعث الى شعراء القيروان حين مقامى بها وهم : ابن رشيق وابن شرف ، وابن حجاج ، وعبد الله العطار ، يسألوننى أن أرسل إليهم شعرى ، فقلت للرسول : إنه فى مسوداته . فقال : كما هو . فأخذته وكتبت عليه ارتجالا :

خطبت بناتى فارسلتهن إليك عواطل من كل زينه

لتعلم انى ممن يجود بمحض الوداد ويشنا ضنينه

فقل : كيف كان ثناء الجليس أضمخ بالمسك أم صب طينه

فأجابونى عن بطء بهذه الأبيات :

أتتنا بناتك يرفلن فى ثياب من الوشى يفتن زينه

فلما سفرن فضحن الشموس وسرب الظباء وأخلجن عينه

ولما نطقن سحرن العيون وظل القرين ينادى قرينه

أفى بابل نحن أم فى العراق وفوق البسيطة أم فى سفينه

فدعنى أرقب صحو الجميع لنسمع من كل مدح عيونه

فى هذا النص أمران واضحان : الاول أن ابن الضابط أقام بالقيروان وطلب منه ابن رشيق وصحبه شيئا من شعره . والثانى أن جواب ذلك (( الصحب )) يدل على إعجابهم بشعره بل حتى على شدة الاعجاب به والمبالغة فى مدحه . ولا يمكن أن يعتذر لابن رشيق عن ذلك الاغفال بأنه لم يطلع على شعر من أغفل ذكرهم لأنه كان فى إمكانه - بالنسبة لابن الضابط - أن يثبت له تلك الأبيات الثلاث التى بعث بها إليه وإلى أصحابه . ونحن نجده يثبت مثل ذلك الشئ القليل بالنسبة لغيره ممن لم يصله منه إلا ذلك المقدار ، وهذا ما فعله - مثلا - مع الشاعر أبى الحسن القينى الذى أثبت له أربعة أبيات لاحظ عليها بقوله : ولم أحفظ له شعرا إلا قوله : ( يذكر الأربعة أبيات ) لأن أكثر شعره على قلته من هذا النوع وكان ضنينا به (30)  .

وفى ترجمة مضر بن تميم الفزارى نجد ابن رشيق يتحدث عن أخيه غيلان ويقول إنه أعلم وأشهر من أخيه (31) . فهل كان غيلان هذا لا يقول الشعر ، أم أنه أغفله كذلك ؟ إن غيلان لم ترد له ترجمة فى النصوص التى بين أيدينا من كتاب الأنموذج . ولهذا لا يمكن البت فى ذلك .

ومهما يكن فان التساؤل يبقى قائما عن السبب الذى جعل ابن رشيق يهمل بعض الشعراء المعاصرين له ، ولم يذكرهم فى الأنموذج .

سيرورة الأنموذج :     يعتبر ابن رششق من كبار المؤلفين الأفارقة نظرا لكثرة (( العناوين )) المنسوية اليه (32) . الا أنه - لسوء الحظ - لم يصلنا منها كاملا إلا كتاب (( العمدة )) ورسالة (( قراضة الذهب )) ، وأنقال متفرقة من كتاب (( الأنموذج )) الذى كان له ذكر وشهرة فى الكثير من الكتب المعتنية بالتراجم والطبقات مما يدل عل رواجه فى المشرق والمغرب على حد سواء خاصه فى القرنين السابع والثامن للهجرة ؛ ففى القرن السابع نجده معتمدا عند ابن ظافر الأزدى ( 613 ه ) ، وياقوت الحموى ( 626 ه) والقفطى ( 646 ه ) . و التيفاشى ( 651 ه ) ، وابن الأبار ( 658 ه ) ، وابن خلكان (681 ه ) . فى القرن الثامن نجده عند التجانى ( كان حيا سنة 717 ه ) ، وابن فضل الله العمرى ( 740 ه ) ، والصفدى ( 764 ه ) ، وابن شاكر الكتبى ( 764 ه ) .

ويعتبر ابن بسام ( 542 ه ) من أول المصادر ذكرا لكتاب الأنموذج فى كتاب (( الذخيرة )) (33) واذا كان البعض من هؤلاء لم يذكروا - تصريحا - الاطلاع على عين الكتاب أو النقل المباشر عنه ( مثل القفطى فى انباه الرواة تبعا لسنته فى اغفال المصادر التى يعتمدها ) (34) فاننا نجد البعض الآخر يثبت ذلك بالنص . وكان من أكثرهم ذكرا لذلك ياقوت الحموى فى (( معجم البلدان )) عند ضبطه للكثير من أسماء مدن إفريقية وقراها مثل مواد

باجة (35) وجراوة (36) ورصفة (37) وصدف (38) والهواريون (39) . وكانت النسخة التى اعتمدها ياقوت الحموى من كتاب (( الأنموذج )) نسخة مكتوبة بخط ابن رشيق نفسه . وكان ياقوت حريصا على ذكر ذلك فى كل مرة بمثل هذه العبارات : (( وقرأت بخط الحسن بن رشيق )) و (( كذا ضبطه من خط حسن بن رشيق )) و (( من خط يده نقلته )) و (( من خطه نقلت )) (40) . وكان ضياع هذه النسخة خسارة كبيرة بخصوص هذا الكتاب . أما الصفدى فقد ذكر فى الجزء العاشر من (( الوافى )) عددا من تآليف ابن رشق ذكر من جملتها (( الأنموذج )) . وعقب على ذلك بقوله : (( . . . وقد وقفت على هذه المصنفات والرسائل المذكورة جميعها فوجدتها تدل على تبحره فى الادب واطلاعه على كلام الناس ، ونقله لمواد هذا الفن وتبحره فى النقد )) (41) .

اما ابن فضل الله العمرى فقد افتتح نقله من الأنموذج بقوله : (( وأما من طرز بهم ابن رشيق أنموذجه فجماعة منهم عبد الكريم بن إبراهيم النهشلى )) (42) .

وقد مر سابقا أن تنصيص التجانى على بعض الشعراء الذين لم يذكروا فى الأنموذج يدل على أنه اطلع بنفسه على كتاب (( الأنموذج )) كاملا . ومن قبله اطلع عليه من المغاربة ابن بسام وابن الأبار أما ابن سعيد المتوفى سنة 623 ه فانه لا يمكن الجزم بشئ فى ذلك ما لم يكشف عن كتابه (( المغرب )) لأن الأنقال التى ذكرها فى (( رايات المبرزين )) و (( عنوان المرقصات والمرطبات )) طفيفة ومقتضبة جدا o وهكذا الأمر بالنسبة لكتاب (( وشاح الدمية )) تأليف أبى الحسن البيهقى المتوفى سنة 565 ه .

ويكاد يحصل الجزم بأن النقل المباشر عن كتاب (( الأنموذج )) انتهى فى القرن الثامن الهجرى رغم أنه كان موجودا فيه فى المشرق والمغرب . وقد حاول بعض المختصين فى العصر الحديث العثور على نسخة من كتاب (( الأنموذج )) فلم يقع الظفر بذلك حتى الآن ؛ فيذكر الاستاذ حسن حسنى عبد الوهاب فى بساط أنه نقب زمنا طويلا بحثا عنه فلم يجد له أثرا ، ورجا من يقف على نسخة من الكتاب المذكور أن يرشده بمحل وجودها ليتأتى بذل الجهد فى الحصول عليها (43) كما يذكر الاستاذ الميمنى انه لم يجد له ذكرا فى فهارس خزائن الكتب العمومية (44) .

وقد توقع محمد رضا الشبيبى فى بحثه (( أدب المغاربة والأندلسيين )) أن كتاب (( أنموذج الزمان )) يمكن أن يكون من حملة الكتب التى أهداها القاضى الفاضل للعماد الأصفهانى صاحب (( خريدة القصر وجريدة العصر )) (45) الا أننا نجد (( العماد )) فى رسالته الجوابية للقاضى الفاضل لا يذكر كتاب (( الأنموذج )) وإنما يذكر كتاب (( العمدة )) إذ يقول : ولو امتد عمره الى مدته لعمد الى إخفاء عمدته (( (46) وكان العماد حريصا على إثبات أسماء الكتب التى أهتديت إليه فى أسلوبه السجعى المعروف . وكانت عناية الميمنى بجمع ما توفر له من أشعار ابن رشيق ، وتأليف رساله عنه ، وذكر كتاب الأنموذج وتعداد بعض من ترجم لهم فيه ابن رشيق (47) جعلت محمد بن الخوجة يوهم أنه ربما توجد نسخة من كتاب الأنموذج مخطوطة باليد بمكتبة الشيخ عبد العزيز الميمنى (48) وأكثر من ذلك أن (( بروكلمان)) ذكر مختصرا لكتاب الأنموذج فى مكتبة (( امبروزيانا )) فى ميلانو (49) وتبعه فى ذكر ذلك دون تعقيب - عبد الرحمان ياغى (50) بينما ما يوجد فى المكتبة المذكورة لا يتجاوز ترجمة عبد الله بن ابراهيم الطوسى والقصيدة الفائية لابن قاضى

ميله التى ذكرها ابن خلكان استطرادا فى ترجمة يحيى بن أكثم قاضى المأمون العباسى (51) .

طريقة تأليف الأنموذج : البحث عن هذه النقطة هو أيضا من باب الاستنتاج لأن الكتاب غير موجود . ومنذ البدء يمكن أن نرجح أن الكتاب ألف دون أن يرتبه ابن رشيق أبجديا ولا حسب سنى الولادة أو الوفاة . وأن ما ذكره ابن فضل الله العمرى يكاد يكون الصورة الأقرب للترتيب الأصلى للكتاب . وقد رأينا أن ابن رشيق عاب على أبى إسحاق الحصرى عزمه على تأليف طبقات الشعراء حسب الأسنان مما يبعد معه أن يسلك ابن رشيق نفس الأسلوب المعاب . أما الترتيب حسب - الوفيات فان الكتاب كان يشمل الأحياء والأموات معا أما الترتيب الأبجدى فلا يوجد ما يرجحه ولو كان ذلك لاتبعه ابن فضل العمرى لأنه يكون أيسر لديه من أن يعيد هو ذكر أولائك حسب الذى اتفق له فى مسالك الأبصار . وهكذا نقف على حد ما ارتأيناه الى أن يسعف القدر بظهور نسخة أصلية من الكتاب .

وكانت طريقة ابن رشيق فى جمع مواد الكتاب تعتمد على المحفوظ لديه ، وعلى المخالطة ، والمراسلة . وأن إثباته للنصوص الشعرية لم يكن على جهة الاختيار وإنما على نسبة ما توفر لديه منها . يقول ابن رشيق فى ترجمة القزاز : (( . . .  وشعر أبى عبد الله أحسن مما ذكرت . لكنى لم أتمكن من روايته . وقد شرطت فى هذا الكتاب أن كل ما جئت به من الأشعار على غير جهة الاختيار )) (52) وفى آخر ترجمة معد بن خيار الفارسى يقول :(( . . .وشعر معد مشهور مأثور ، يستغرق البناء ، ويستعجز الشعراء . وقد أتيت منه بما حوته روايتى ، وانتهت إليه درايتى )) (53) بينما نجده فى ترجمة محمد الكمونى يقول : (( . . . وشعر محمد كثير جيد . وإنما أكثرت منه إدلالا بجودته ، وثقة بأن الملل ساقط عنه . لا سيما أنى لم أذكر له ولا لغيره معنى

أعدته ، ولا خلطت من فنون الشعر فنا وجدته . فاكثارى توسط كما شرطت ، وإن أفرطت . وكذلك اختصارى إذ اجتهدت وما فرطت إذ كانت الحال كقول الله تعالى : على الموسع قدره ، وعلى المقتر قدره . . )) (54) ومن أمثلة الأخذ المباشر عن بعض الشعراء ما ذكره فى ترجمة على بن حبيب التنوخى ، وعبد الله الجراوى ، ومحمد بن شرف ، وقرهب الخزاعى مما هو مذكور فى النصوص المنقولة عن الأنموذج . وكان البعض من الشعراء يبعث إليه بالشعر ليثبته فى الأنموذج عندما بلغهم أنه يصدر تأليفه ومن ذلك ما أثبته فى ترجمة عبد الرزاق بن على النحوى :

يقول ابن رشق : (( ٠٠٠كتب إلى ( عبد الرزاق النحوى ) لما صنعت هذا الكتاب صحبة قصيدة أنفذها إلى لأثبتها :

يا مبرزا إبريز خير سبيكة             ومكللا إكليل خير متوج

ومطرزا حلل البلاغة معجزا           كل الورى ببراعه الأنموذج

فكأنه للسمع لفظ أحبة              وكأنه للعين روض بنفسج

وكأنه للقلب سحر علاقة            فى مهجة تخشى الصدود وترتجى

خصصت أهل الغرب منه بمشرق    لأغر من شمس النهار وأبهج

رجحت بين ذوى الفصاحة منهم      وفصلت بين مرتب ومسمج

وكشفت عن شعرى لتلحقه به        فاستر على خل لسترك محوج (55)

وإثبات هذا النص يفيد مدى اهتمام شعراء العصر بكتاب الأنموذج ، وحرصهم على اثباتهم ضمنه . كما يدل على شعور المغاربة بضرورة العناية بانتاجهم وتخصيصهم عن أهل المشرق بالكتابة ولعل هذا الشعور كان من جملة الدواعى التى دفعت بابن رشيق الى تصنيف كتابه . ولو أننا نجده - أثناءه - يجعل من صفات مدح هذا الشاعر أو ذاك أنه سلك سبيل هذا الشاعر أو ذاك من المشارقة ؛ فالشريف الزيدى أشبه الناس طريقة فى الشعر بكشاحم (56) وابن قاضى ميلة يسلك طريق ابن أبى ربيعة وأصحابه فى نظم الأقوال والحكايات (57) وعبد العزيز بن البقال يلقى الكلام إلقاء ،

وسلك طريق أبى العتاهية فى سهولة الطبع ولطف التركيب وقرب مآخذ الكلام (58) أما أبو إسحاق الحصرى فكان يرغب فى الاستعارة تشبها بأبى تمام فى أشعاره ، وتتبعا لآثاره (59) وعندما دخل معد بن خياره صقليه شبه يوم دخول أبى الطيب المتنبى مصر (60) .

النقد الأدبى فى الأنموذج : لعل أهمية كتاب الأنموذج لا تتمثل فى النقد بقدر ما تتمثل فى إثبات النصوص الشعرية والتعرض فى كثير من الأحيان إلى مظاهر من الحياة الأدبية والاجتماعية فى إفريقية فى القرن الخامس الهجرى . وبالرغم مما ذكرناه من أن بعض الدارسين اعتبر كتاب الأنموذج مجال تطبيق للنظريات النقدية التى أقرها ابن رشيق فى العمدة ، فاننا لا نرى ذلك التطبيق يتماشى - إلا قليلا - مع تلك القواعد النقدية اللهم فى تعقيبه على بعض النصوص التى يذكرها ابن رشيق لبعض الشعراء .

أما أحكامه الوصفية التى يقدم بها لكل شاعر من الشعراء فلا تعدو فى غالبها أن تكون أحكاما عامة لا تخلو من المبالغة والتعميم فى كثير من الأحيان ؛ فالجراوى كان شاعرا قويا فحلا ، وصافا دريا بالخبر والنسيب ، جيد الفكر والخاطر (61) وأبو إسحاق الحصرى عنده من الطبع ما لو أرسله على سجيته لجرى جرى الماء ، ورق رقة الهواء (62) وعبد العزيز الطارقى شاعر مجود فخم الكلام ينحته نحتا . وأكثر اشتهاره بالنثر دون النظم إذ كان فيه فارس الفرسان وواحد الزمان (63) وعبد الواحد الزواق شاعر مفلق قوى أسس الشعر وأركانه ، وثيق دعامه وبنيانه كأنه أعرابى بدوى يركب ظهر

الشعر ، ويخوض بحر الفكر (64) الى غير ذلك من الأمثلة مدحا أو ذما - إلا ان ذلك لا يقلل شيئا من قيمة الكتاب ما دام فى الاساس ليس بكتاب نقد عام . وما دمنا - أيضا - لا تملك نصه الكامل حتى يتيسر لنا الحكم له أو عليه فى مجال النقد الأدبى وقواعده فى كتاب لم يضعه أساسا للنقد . وما نحسب أنه ألفه باعتباره مجال تطبيق لما أقره من قواعد أو شرحه من نظريات . ومهما يكن فان أحكامه العامة تلك لا تصل الى المستوى اللفظى والتعميم الأجوف الذى نراه عند ابن بسام مثلا ومن أتى بعد ذلك من أساليب التفخيم والزخرفة اللفظية منذ بداية التدلى فى الأساليب الأدبية وغيرها .

وبعد فان هذه المحاولة هى مجرد تعريف وتمهيد لما سوف نتناوله بمزيد أكثر وتفصيل أطول عن هذا الكتاب بحول الله . وعسى أن تهيئ الأقدار أسباب نشر الكتاب المذكور أو على الأقل جمع شذراته المنثورة فى مختلف المصادر والمراجع (65) .

اشترك في نشرتنا البريدية