الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 4الرجوع إلى "الفكر"

تفنيد وتجديد

Share

انتهينا فى عرضنا السابق الى ضرورة الاخذ بكل من النقد النظرى والبحث التجريبى فى محاولاتنا الاصلاحية او الانشائية التى نستهدف بها مسايرة ظروفنا التاريخية القاضية بتوليد القوى مما هو موجود والداعية فى نفس الوقت الى ان نعمل على خلق اجواء جديدة للطاقة الانسانية مواتية كل المواتاة لاهدافنا ومثلنا العليا التى تخيرناها لانفسنا كامة ذات ارادة ومطامح

بقى لنا الآن ان نشير بازاء كل ما تقدم الى ان البناء الفلسفى لمعطيات الجدل النقدى للدستور التربوى او للموقف التربوى ينبغى ان لا نضع وضعا نهائيا اذا كنا نؤمن بقيام منطق حديث الى جانب منطق ارسطو : ذلك لان التجربة فى مثل هذا الميدان هى محك الافتراضات والاجتهاد ، فهى التى تبين لنا عمليا مدى صدقه او تخلفه فى كل من مواقف التشخيص والتبؤ - ولعل هذا الاعتبار نفسه هو الذى حدا بالمؤرخ التربوى الشهير بول منرو الى ان ينعت المذهب الطبيعي في التربية بالسلبية المطلقة نظرا الى ان اراء رسو كانت في معظمها هدمية الهدف بما جعل الحركات التربوية الموالية لها وبالخصوص الحركة النفسية تتمخض بجهودها وتيمم وجهتها شطر تشكيل مبادئ المدرسة الطبيعية تشكيلا ماديا واقعيا - وفعلا فان النزعة البسيكولوجية فى التربية تلك التى دعا لقيامها او قام بها فعلا طائفة من المربين فى طليعتهم هاربرت وبستالوتزى وفروبل واضرابهم كانت معدة كحركة راديكالية تقدمية او ان شئنا حركة تقدم اصلاحى سارت فى طريق الاصلاح شوطا ابعد من اراء ومبادى روسو نفسه

ففي هذا النقد الوجيه العظة التى يجدر بنا الاتعاظ بها والاسراع كل الاسراع لايجاد الظروف المناسبة لقيام مخابر للتربية التجريبية تساير او تتبع معطيات التوجيه التربوى الحديث بكل امتحان وتمحيص واقعيين لنكون بحق سائرين فى مهيع واضح المعالم مأمون النتائج وحتى نستبق الزمن بتوفير ما يمكن توفيره من امكانيات الاعداد فنأمن بذلك مؤاخذة الاجيال الصاعدة وانتقاصهم لخططنا الانشائية فى هذا الميدان الشائك

على اننا اذا كنا نؤكد او نتحزب الى فكرة الاخذ بمعطيات التجريب والاقيسة المقننة على طبيعة الذكاء التونسى فاننا بازاء هذا المبدأ الاولى فى هذا الصدد نعترف اعترافا صريحا بانعدام الفنيين التونسيين الاكفاء فى مضمار كل من التربية التجريبية والمقاييس العقلية القادرين على اقامة المخبر التونسى فى معاهد التربية المفتقرة الى هذا المرفق الحيوى لرسالتها ، والقادرين على ايجاد المقياس العقلي التونسى على غرار ما فعل الفريد بيني وسيمون عند مطلع هذا القرن لما عهدت اليهما وزارة المعارف الفرنسية بمهمة السعى لتنظيم التعليم بفرنسا آنذاك تنظيما يكون به القضاء على تخلفه وتدهوره الملحوظ فى تلك الظروف الزمنية من تاريخ فرنسا . ولكننا مع هذا الواقع المر نقر بان الاستنجاد فى هذا الميدان باهل الخبرة من ذوى الاختصاص فى البلاد الاجنبية لا يجدى فتيلا ولا يتأتى فنيا بل المشكلة ستضل قائمة الى ان يتأهل لحلها التونسيون انفسهم من ذوى المقدرات الفطرية والمكتسبة وهذا طبعا يستلزم الوقت والجهد وفى نفس الوقت يستدعى كذلك استبصار المسؤولين عن التوجيه باهمية هذه الناحية المشار اليها وبالتالى انصرافهم الى اخذ الحيطة واعداد العدة للتغلب على هذا النقص وفقا لخطة معينة يتم تصميمها بعد درس حصيف للمشكل القائم .

هذا وللموقف التربوى التونسى حدود غير التى يتبادر اليها ذهن القارىء اذ ليست التربية وقفا على المدرسة والمدرسين ولا هى بمنحصره فى ميدان التعليم بل هى اوسع مدى وارحب مجالا من هذه الآفاق لاننا نرى المعاهد التعليمية ان هى اهلت بناشئة اصبحت اليها تنتسب فاننا في الواقع ترى فى تلك الشبيبة المدرسية فائض الاسر والعائلات من انفار اثر فيهم المحيط العائلي وهم لا يزالون يتأثرون به كعامل من عوامل التربية التى لا يستطيع احد نكران اثره على حاضرهم ومستقبلهم على حد سواء .

واذا ما صح هذا المعنى تكون مهمة الاعداد او التنشئة ليست بملقاة على كاهل المعلم وحسب بل هى الى جانب مسؤوليات هذا الاخير بازائها يلقي جانب لا بأس به من تلك المهمة على عاتق اولياء العائلات وبذلك جاء القول بضرورة قيام تعاون مثمر بين كل من الاسرة والمدرسة حتى لا تتعارض الجهود ولا تتلاعن .

ويتبع هذا الاتجاه الوجيه اتساع آفاق العمل التربوى وامتداده بما يجعل تبعات ذوى الفكر المربى اكثر جسامة واعظم ثقلا ذلك لان نظرهم بعد

ان كان محدودا بحدود المعهد الدراسى تحولت مهمتهم التربوية فاصبحت مزدوجة الاتجاه جانب منها يخص النشاط المدرسى والآخر يلحق الموقف العائلى من المربى المشترك

وعلى التحديد اننا نعنى بمهمة رجالات التربية ومسؤولياتهم بازاء الوسط العائلى لا مجرد الاتصال باولياء الاسرة لضبط خطط التوجيه والتعاون فى مضمار العناية بنمو الطفل وبشخصيته الفنية وانما الاهم من ذلك ان يمضى هؤلاء الى معالجة المشكل من الاساس . فما هو بديهى ان هذه العائلة وما قد يحيط من ظروف مواتية او غير مواتية لشرائط الاعداد السليم لفى شديد التطلع الى من ياخذ بيدها ويعمل فيها العقل نقدا وتمحيصا او بلغة اخرى هى فى مسيس الحاجة الى ان تصبح موضوعا للدرس والنقد البناء حتى تصبح فى ظل ذلك قادرة على القيام برسالتها على الوجه المجدى والأكمل

هذا ومع استصوابنا لنقد الموقف التربوى للعائلة التونسية على نطاق عام وبوسائل امينة النتائج يجدر بنا الالماح الى اننا بهذا الصنيع سوف نحقق هدفا يتمثل فى مراجعة الماضى بدراسته وتسليط الاضواء على جوانبه المظلمة بالتالى .

وانه ليعنينا من فكرة النقد هذه ان يتم تتبع مخلفات الامس ومعاييره وقيمة الدراسة المتمثلة فيما تواتر الاخذ به من امثال عامية وحكم دارجة ما تزال حية بين اوساطنا يتوارثها الاجيال جيلا بعد جيل فى شىء من التقديس والاجلال دونما اى وعى ، ودونما اى تبصر يذكر بقيمة محتواها ولا بصحة جدواها .

اننا لو اتجهنا فى هذا السبيل لحصلنا على فوائد جمة اولاها حملنا لبعض المستنيرين بمثل هذه الدراسات التربوية عن طريق اذاعى او صحفى على ان يقلعوا عن الاخذ بتوجيه حكمة عامية او مثل عامى وبئ ثبت لهم من خلال نقد المختصين له افلاسه فى شتى النواحى وضعفه فى عديد الاعتبارات - وثانيها ما قد ينجم عن تلك المراجعة والتصفية من تهيئة الفرصة واتم الفرصة لاشادة مستقبل واع بقيم الحياة الراقية وشرائطها الضرورية ، شاعر بما يجب الشعور به من اتجاهات عقلية او اجتماعية عرفت بها امته التى اليها ينتسب ولها يعمل ، لا امعة فى محاكاته للماضى ومخلفاته ليس له من تلقائية التعبير والنزوع ما قد يؤهله لتفهم قيم المحتد على الوجه الرشيد وما يتيح له امكانية الاختيار بين الاهداف الممكنة والمناشط المتاحة

انه لمحصول فكرى عجيب هذا التراث العقلى المتمثل فى المتواتر من الامثال الدارجة بين اوساطنا ، وليس فى التغالى عن درسه وامعان النظر فيه الا مهاترة او مكابرة ذلك لان مثل هذه الرسوم الدارسة لتجارب اسلافنا هي فى واقع حياتنا تمثل دستورا تربويا يستند اليه الموقف التربوى فى تونس او ان شئنا قلنا انها فى عداد العوامل التى تؤثر تأثيرا محسوسا على حياتنا العائلية والاجتماعية نظرا الى تأثر كل من الافراد والجماعات بما فيهم تلك المثل والحكم فى تصرفاتهم الخاصة والعامة - وبهذا التحليل تصبح امثالنا الدارجة التى فى ظل معطياتها ننشأ ونشب معتبرة فى قليل او كثير انماطا او معاييرا للسلوك الشخصى والاجتماعى ، وبالتالى فهى كما يراها البعض مجرد مأثورات للادب الشعبى القديم بقدر ما هى على اعتبار وجية محك للبوادر والمواقف وموازين تقديرية يحتكم اليها وبها فى كل من محيطى الاسرة العائلية الخاصة والاسرة الاجتماعية العامة - ومن هنا كان لها كبير الايحاء على الموقف التربوى اذ نراها تسهم بقدر غير يسير من التأثير في عملية التنشئة الاجتماعية وفى تشكيل عقلية المواطن وفى طبع شخصيته على النحو الذى هو عليه من توازن أو عدمه

واذا ما نحن انتهينا بالتراث الفكرى للعقلية البدائية الى ما انتهينا به اليه من خطورة التأثير على حياة الجيل الصاعد فانه لجدير بنا ان نتشكك في سداده تشككا منهجيا فنحرش به ذوى الفكر النقدى ليمعنوا فيه العقل ويقلبوا فيه الرأى عساهم يركزوا نفوذ الاثار التقليدية المماشية لروح العصر وأنظمته التربوية الناضجة ويمحقوا فى نفس الوقت ما تراءى لهم فيه الخطل والخسران من تلك المخلفات التى لا نشك فى القيمة الذهبية لبعض أجزاء منها كما لا تتردد فى الحكم على بعضها الآخر بأنه سرطان في اعقابه التدهور النفسي والاجتماعى أو العصاب بشتى أشكالة

اشترك في نشرتنا البريدية