1 - تحديد كلمة " ثقافة "
ان استعمال كلمة الثقافة ، ( * ) ليستلزم قبل كل شىء تحديدا مدققا قبل الدخول فى صميم الموضوع . فلا بد ، اذن ، من أن نحدد هذه الكلمة في مختلف معانيها وبأيدينا فأس الحطاب نهوى بها دون شفقة ولا رحمة على تلك التحديدات البالية حتى نستخلص مفهوم ما صادقا لها . ذلك لان كلمة ثقافة هى من تلك الكلمات التى لم نفتأ نبحث لها عن تحديد مدقق مضبوط
اما التحديد الاول الذى نجده فى الكتب والاسفار ، فهو تحديد قريب كل القرب من المفهوم المدرسى التقليدى الاكثر تداولا . يقول ففنارق ( Vauvenargues ) " الثقافة هى منزلة فكر هذبه التعليم " .
انكم ترون ، توا ، فقر هذا التحديد وعجزه عن ضبط مفهوم الثقافة . لان الانسان لا يدرك الثقافة بمجرد تلقيه تعليما ما لانه تعليم لا غير . وليس التعليم - وهو يتمثل فى نيل شهادات - هو الذى يجعل من الانسان مثقفا
اذن ، يجب أن تستلزم الثقافة انسانا متكاملا وهذا المفهوم هو ما كانت العقلية العربية تذهب اليه حين تستعمل هذه الكلمة الجملة البليغة كلمة آداب .
فمفهوم الاديب ، قريب كل القرب من مفهوم الرجل المهذب الشريف (honnete homme) كما عبر عنه الفرنسيون في القرن السابع عشر هذا الرجل الذى وصفته عبارة شهيرة بأنه مهذب تهذيبا كاملا ، مهذب فكر ومهذب اخلاقيا ، ومهذب عاطفيا ، مهذب أى مصقول .
وهكذا نعود من جديد الى التعليم والتربية ، فنعلم أن ذلك المفهوم مفهوم اجمالي ومفهوم همه الحصر وهدفه ان يمكن نخبة ارستقراطية ، لا محالة في مجتمع مال شيئا فشيئا الى التحجر ، من السيطرة واذا ما انتقلنا الى القطب المعاكس اعترضنا مفهوم آخر هو الذى روجته " الانطروبولوجية " الانكليزية والقائل :
" ان ثقافة شعب من الشعوب هى جميع العناصر الثقافية والفنية التى تقوم عليها علاقاته وروابطه في الحية التى بينه وبين الطبيعة والتي حوله وهنا نكتشف تناقضا هاما جدا بين المجتمع وبين الطبيعة ، هذا التناقض الذى ابرز زميلى الاستاذ ليفى استرراوس ( Levy Strauss ) ما فيه من عمق وغموض وما فيه من فوارق عدة ، وآخرها تلك التى عرضها الاستاذ " ليفى ستراوس ، " هذه السنة فى دروسه " بالكولاج دى فرانس " فهو لكى يقيم فارقا بين المجتمع والثقافة يعتبر هما جانبين متكاملين لمشكلة الموت فغاية المجتمع وهدفه ، هو أن يمنع الانسان ذلك الحيوان من أن يعلم أنه زائل ، فقد قال :
" انه رد فعل مزدوج ، ضد الموت من جهة ، وضد الطبيعة من جهة أخرى ، رد فعل الانسان الواعي بوحوده . ان هذا التحديد يحمل طابعا ظاهرا وصبغة ما ورائية "
ربما يلزمنا ان نقف عند الفارق الذى أقامه " دركهايم " فى دراسته أى الفرق بين المجتمع الذى رأى فيه الاسلوب وطريقة العمل وبين الثقافة التى قال عنها انها اسلوب وظيفة ذاتية ان هذا الفارق بين الرغبة فى أن نكون والرغبة فى أن نعمل مفهوم خصب جدا . وهو يحتوى فيما اعتقد على العناصر التى ستمكننا من تحديد الثقافة تحديدا مضبوطا .
والرأى عندى : " ان الثقافة هي العلاقة المسترسلة الخلافة بين ظرف ما مادى واجتماعي من ناحية وبين نظرة افتراضية لانسان ما من ناحية اخرى ، وفعلا لا نجد مجتمعا من المجتمعات لا يفترض انسانا مثاليا ولكن لاتصل المجتمعات كلها الى التعبير الكامل او الى تحقيق هذا الافتراض .
2 - المواقف الحضارية : اللغة
ان مثل هذا الافتراض لايمكن ان ندرك جلاءه وصفاءه الا فى سلسلة من السير البشرية الملموسة والمواقف اللغوية ، وآساليب العيش ، المتجاوبة مع المظهر الجمالى هذا المظهر الذى مهما أجهدنا أنفسنا لنزيله من مفهوم الثقافة
فنحن عاجزون وهكذا تدركون معي ان مفهوما كهذا يؤدينا حتما وتوا الى الحديث عن الثقافة كما تتحدث عن الشعوب " البدائية " وعن الشعوب الكلاسيكية فهنالك ثقافة بدائية بنطو ( Bantoue ) ( 1) ولكن لا توجد كلاسيكية " بانطو كما توجد كلاسيكية يونانية " او هندية " او صينية ، او فارسية اوعربية ومن هذه الناحية يندمج تحديدنا فى صميم الحي ، فى صميم النقاش الحى ، نقاش العصر الحديث .
وهنا تثار امام جميع الشعوب ومن بينها بالخصوص اكثر الشعوب وثوقا بالروح الكلاسيكية كالشعب العربى أو الفرنسي ، تثار أمامهما المشكلة الصعبة مشكلة الجمع والتوفيق والربط بين الفعالية وبين واقع الوجود فعلى هاته الشعوب قبل كل شىء ان توفق ما بين ما يزيد الاحتفاظ به من ماضيها ومن هذا الماضى بما يزيد ان يبقيه من قيمتها الثقافية ومواقفها الحضرية وهى من اعز الاشياء التى تملكها هذه الشعوب التى عليها أن تحتفظ بها وان توفق بينها وبين ما تجبر عليه من تطور واختبار يملكه عليها عالم التكنيك ذو الوجه الواحد ، عالم يلزمها الدخول اليه والاندماج فيه والانسجام معه .
اذن ان كان هذا النقاش وهذا الاختيار صعبا عند جميع الشعوب فهو اختيار يصطبغ بصعوبة اشد عند الشعوب التى القى بها فى ميدان التعليم العصرى . هذه الشعوب التى عرفت رغم انفها هذا العالم الحديث وعرفت وجهه الحق الذى لايكاد يختلف ، لم تتصل به ولم تدخله باكتشافات علمية وفنية اكتشفتها هى او بخلق اشياء اعانت غيرها عليها بل و وصلها هذا العالم ووصلتها هذه الا كتشافات بواسطة غيرها من الامم وفي شكل استعماري فلم يدخل هذا العالم الحديث على حياتها اختلالا ولم يفقدها توازنها القديم فقط بل كاد يفقدها اصالتها ايضا واننا نشعر فى المغرب العربي شعورا حادا بهذا النوع من المشا كل ، حتى ان التاريخ ليبدو كالتيار المندفع نحو العودة الى ماض قوم ، في المقدار الذي يبدو فيه هذا الماضى مناقضا مناقضة ظاهرة ونفيا بنا للمرحلة التى سبقت عهد الاستقلال .
ان هذا التقدم ، وهو أمر ظاهر بين ، لولاه لكنتم عرضة للموت وللعبودية ، ولقد وصلكم بواسطة لغة أجنبية ، دخيلة عليكم .
وعن هذه الحالة نشأ نقاش حاد في صلاحية استعمال اللغة المحلية الاصلة ( اللغة العربية ) او استعمال اللغة المعبرة عن الحضارة العصرية والمؤدية لها
اعنى اللغة الفرنسية هذه اللغة التى كانت لغة الاستعمار ، ومن هذه الزاوية يبدولنا هذا النقاش فى شكله العنيف .
ان الواقع - الذى يشعر به الرجل المغربى ويلمسه بيده حين يتأمل تأملا فكريا متبصرا فى الثقافة التى هو عليها ( حتى ولو كان هذا التأمل من زاوية الاكتشاف والتنقيب) - من شأنه أن يفقد الرجل المغربي طابعه الاصيل ويجرده من شخصيته الاصيلة فهو لايمكن له بالمرة أن يفرق بين الفكرة التى يمتلكها عن الثقافة وبين اندماجه اندماجا كليا متجددا في ثقافة بلاده اذن فان كان تحديدى السابق للثقافة تحديدا صحيحا - وتذكروا انني قلت عنها انها العلاقة المثمرة الناشطة الخلاقة والعلاقة المتجددة المعادة بين واقع مادى واجتماعى وبين انسان نفترضه افتراضا - وجب ، نتيجة لما سبق أن نقول ان كل ثقافة مغربية لابد أن تظهر في شكل من هذه الاشكال الثلاثة :
أولا : ان ثقافة مغربية ما ، لا يمكن الا ان تكون جماعية ولا يمكنها الا أن ترمى الى اندماج الثقافة فى الشخصية الجماعية المغربية واحلالها فيها ، احلالا لا يتجاوز التاريخ الحديث جدا فحسب بل هو احلال الثقافة في هذا التاريخ نفسه . فهل أكد لك ، رغم هذا ، التاريخ الاستعمارى الذى حاول ان يفقد الثقافة المغربية طابعها وأن يزحزحها عن شخصيتها وهذا يؤدينا الى مشكلة اللغة .
ثانيا : النقاش حول اللغة هو الذي يؤدينا غلى الناحية العملية من مظاهر ثقافة بلدان المغرب الحيوية .
ان منطقا داخليا يريد أن تستلزم هذه المشاكل ( اللغوية ) التى يتعرض لها الناس والباحثون من الناحية البيداغوجية - اعنى من زاوية علم تطبيقي ان لم يكن من زاوية التجربة المتلعثمة هذه المشاكل اللغوية التى تذهب بها الى رد فعل جماعى متحمس ان يستلزم نظرة واجتهادا جذريا اساسيا .
وانى لاحيل كل نظرة فكرية ذهنية على عالم التجربة ، احيل كل نظرية فكرية ذهنية على العمل المقابل لها ، العمل الذى ترمى الى أن تحققه أو هي حققته .
واننى لا استطيع أن أفهم كيف يمكن أن تنجح تجربة ما يسمونها "التعريب " فى بلدان المغرب دون ان تحدد قبل تحديدا مضبوطا ما هي طبيعة اللغة . نعم . ما هى اللغة .
هل اللغة حسب ما تدعونا القواميس ان نعتقده هى عملية استجماع كلمات ؟ ان الكلمة اسلوب تفاهم يشترك فيه الناس . فكلماتك وكلماتي وكلامك وكلامى تبحث هذا العالم الذى اريد أن أعبر عنه وأريد أن أتجاوز وانفلت منه . وفى الحقيقة انى القى وارمى بالكلام لاتتجاوز الحاجز وأتجاوز الصورة ولأصل بيني وبين العالم وهذا ما سماه العلماء اللغويون بالميدان او الحقل المعنوى اللغوى ( Champ semantique ) كلمة ) semantique ( اعتنقها العلماء اثر بحوث الاستاذ موريس بريال اMaurice Breel للتعبير عن علم المعانى Science des significations من اليونانية Semanlike وهي تدرس معانى الكلمات بالنسبة لكلمات أخرى مترادفة تستعمل في الوقت نفسه أو هى تبحث عن تطور الكلمات تطورا زمنيا . وهو مفهوم م المفاهيم التى اكتشفها حديثا عالم من علماء اللغة بجامعة اكسفورد هو الأستاذ " اولمان " فما هو الميدان او الحقل المعنوى اللغوى يا ترى ؟
ان كل لغة تقسم وتنظم المعطيات اللغوية التى تملكها
: وعند هذا الحد نكون قد تجاوزنا تجاوزا نهائيا المعارك النحوية والصرفية واللغوية التى تثور بين علماء اللغة منذ القديم فنرى الحقل اللغوى يجمع كل المعطيات التى تاخذ معناها بالرجوع الى الحياة الباطنية والحياة الخارجية الى العالم وتنظمها حسب قوانين خاصة بها ، قوانين يمكن ان تتغير مع التاريخ المتطور . فهناك تاريخ يضبط المعانى اللغوية : ان هذه الميادين او الحقول تكون علما وسطا يقوم حاجزا بين الانسان والكون .
3 - الأدب شاهد على التطور فى المغرب العربى
وعند هذا الحد نلجأ الى الادب المغربي نفسه ، نعم تبدو لنا فرصة سانحة تمكننا من ان نكشف للناس عن منبه أعمق وأكثر اصالة وابلغ شهادة من اللغة والنحو والصرف فلا تلجأ الى اصحاب اللغة والى النحوين ولا إلى الاساتذة ولا إلى الكتاب والمؤلفين هذه النقطة المنهجية ، أريد أن ألفت الانظار اليها فاقوم امامكم بعرضها وأقول أن أقوم بعرضها ولا أقول أقوم بنقدها نقدا أدبيا ، لان النقد الأدبى لاطائل من ورائه ، رغم ما أحمله من الاحترام لنقاد الادب المعاصرين .
أ - نظرة عامة
أريد أن أقدم صورة عن التطور الادبي في المغرب العربي منذ ثلاثين
سنة فى المقدار الذى يمكننا فيه هذا التطور من استجلاء هذه المفاهيم الصعبة ان المغرب قد أضاع ، منذ عهد بعيد الاندفاعة الادبية والخلق الادبي وكان يحلو للشرقيين ان يعارضوا ويناصروا بين الرجل الشرقى فيصفونه بالاديب وبين الرجل المغربى فيصفونه بالصوفى أو الفقيه او بالنحوى كذلك . لان المغاربة هم الذين علموا مصر النحو ، وادخلوا النحو الى القرية المصرية . فالا جرو مية مؤلفها مغربى ولكن فى أى مظهر تتجلى شخصية هذا الرجل الذى لم يخل من تجربة وجودية والذى تلقى من التاريخ ضربات وصدمات عنيفة لقنته دروسا ذات فائدة كبرى ؟ .
اننا لنراه يتخبط فى أشكال وظروف صعبة الوصف ربما تتطلب شيئا كثر من الصبر وتبعث فيه شيئا من الازدراء نحو الجمالية اعنى نحو الادب الذي همه الفن والجمال فحسب ، فيتطور الرجل المغربى فى ميادين بعيدة عن الادب او ثانوية كالشعر الشعبى .
ب - انموذج من مراكش
ولكن لندع هذه المظاهر جانبا ولنبحث في المرحلة الادبية ذاتها لنفترض بل لنتخيل رجلا مغربيا من السوس الاقصى ، وانى سأختار كانموذج اقدمه لكم صديقى الخاص السيد المختار السوسى وزير التاج كما عرفته .- ولا أدرى هل استمرت خطته هذه فى المغرب الحالي أم لا
كانت لغته التى يتكلم بها الى سن الخامسة عشرة اللغة البربرية وكان يتعلم العربية ويتكلمها بمحبة وحماس كبيرين ، هذا الحماس الذى جعل من هؤلاء البرابرة علماء كبارا فى فقه اللغة يشرحون مقامات الهمذانى والحريرى .
هو بعد سنوات قضاها فى مسقط رأسه يلتحق بمدينة فاس فيدخل جامعة القرويين وهو على موهبة كبيرة وعلم غزير في اللغة فيدخل وسطا يختلف عن وسط الزاوية القروية التى تعلم فيها أيام صباه الاولى . وتراه فى فاس يقرض الشعر وينظم قصائد المناسبات شأن القضاة والعلماء والفقهاء فى القرن التاسع والقرن العشرين .
ان المعركة التى كانت تدور رحاها فى نفس هذا الفقيه السوسى معركة حاسمة فتراه ينزوى عن الناس ويخفى وجهه تحت " قامونه " - وهي العبارة المراكشية للطربوشه ويخفى عينيه وراء نظارتين سوداوين لا لتأمل الدنيا ويبصر عن كثب بل بالعكس ليخفى بصره ويفوز بحكمته لنفسه . انها معركة
جبارة . ولقد احتفظ لنا بأطوارها في ترجمته لحياته التى الفها ونشرها فى المجلة المراكشة ( دعوة الحق ) وهي ترجمة عنوانها " بين الجمود والجحود وصور لنا فيها اسرته التى تعد اربعة أو خمسة اخوة أما أولهم فقد أصبح "زنديقا" يتعاطى تهريب السلع الى ان قبضت عليه الجندرمة ذات يوم وأودعته السجن . واما الاخ الثاني ، فهو شيخ منافق تقليدى ولكن الاخ الثالث كان من نوع الفقهاء المعروفين ، وأما الرجل الوسط فهو صاحبنا المختار السوسى . نراه يطالع بمكتبة القرويين كتب الفقه والكلام ويجمع له نفرا من الشباب يطالعون : ولكن عوض أن يطالعوا أو يقرأوا مصنفات الخليل وشروح التفتزاني ، تراهم ينقلون مقطوعة طويلة من " بول وفيرجينى ، أو " العبرات ، لمصطفى المنفلوطي او يتصفحون المجلات الادبية كالرسالة لاحمد حسن الزيات التى كانت منذ سنة 1930 تحنو حنوا خاصا على الاثار الفرنسية فتترجمها الى اللغة العربية .
ج - تونس والنهضة
ما الذى كان يجرى اذ ذاك بتونس ؟ انى أطلب عفوكم عن قلة درايتى بالموضوع وأنا بينكم على أننى استطيع أن أقول أن تونس هي البلد المجهول فى الادب العربي المعاصر هى المجهولة الكبرى بين البلدان التى عرفت النهضة هذه النهضة التى بدأت انطلاقتها من بيروت سنة 1860 أو لسنوات قليلة قبل هذا التاريخ .
ان تونس فى الحقيقة لم تنتظر هذا التاريخ - أى سنة 1860 - لتبدأ نهضتها وعلينا ان نذكر أسماء رجالاتها العديدين ممن دعوا الى النهضة ومنهم الشيخ محمود قبادو الذى كان يكتب ويؤلف نثرا و شعرا ، على الطريقة نفسها التى سيكتب بها ويؤلف بها . ويشعر حسبها المشارقة في القاهرة حوالى سنة 1890 . لقد كانت تونس اذ ذاك سابقة بالنسبة للمشرق بجيل أو جيلين في طريق النهضة .
د - تونس فى سنة 1920
ومهما يكن من أمر ، فها نحن ننتقل الى سنة 1920 وها نحن نجد أنفسنا فى تونس " بين الجمود والجحود " كما يقول المختار السوسى ، اننا اذا تأملنا ذلك العهد تبدو لنا نزعتان ومجتمعان متعارضان متناقضان . ان تونس ، وهي عادة متأصلة فى أهلها ، تحب حياة المجتمع حبا كثيرا وتهوى اللجان الثقافية اما هاتان النزعتان فاحداهما تقودها مجلة ذات نزعة دينية شديدة الميل الى
المحافظة وعلى رأسها رائد لم أر الناس تحدثوا عنه كما يبغى اعنى به الشيخ مناشو الذى كان يصدر مجلة البدر ، تلك المجلة التى كان يحرر فيها شبان الزيتونة فى ذلك العصر وهم الآن شيوخ عصرنا المحترمين ، مثل الشيخ النيفر والشيخ ابن عاشور .
وأما النزعة الاخرى . فهى اتجاه معاكس معارض يستعمل افراده اللغة الفرنسية كلغة للتعبير عن آرائهم والمطالبة بحقوقهم والبوح برغائبهم والافصاح عن ذاتهم . انكم تفكرون ولاشك فى جماعة الطاهر صفر وفيمن سبقه من الزعماء .
ان اللغة الفرنسية أخذت فعلا كما قلت مكانة كبيرة وبدأت تتسرب فى ميادين وحقوق اللغة الاصطناعة بل أصلحت تغذى الحياة اللغوية وأخذت تنفذالى اعمق الطبقات العقلية فى تفكير الافراد والمجتمع التونسى .
وعلى هذه السيطرة ثار ذلك النقاش الحاد ، الذى برز فيه جان عمروش ( Jean Amrouche ) الذي عبر تعبيرا انسانيا رائعا عن هذه المعركة حين عارض بين الروح الخارجى ( animus ) الباطنى على هذه القوة المكونة من مفاهيم معقولة ، ومن الهام مستمد من الخارج يغزو بأمواجه المندفعة هذه الروح الباطنة . فهل ينتهى به الامر الى غزوها ونفاذها أم بالعكس هل يتقهقر أمامها وهل يتم بينهما وفاق وزواج كما تدعو اليه الكلمتان اللاتينيتان وأولاهما تعد للمذكر والثانية للمؤنث .
ه - المغرب العربي 1928-1934 .
حوالي سنة 1928 تبرز أمامنا مجموعات أدبية ثلاث أولا : مجموعة من الشعر الجزائرى من تأليف الهادى الزاهرى . ومجموعة ثانية من الشعر المراكشى للعباس القباح ، ومجموعة ثالثة من الشعر التونسى لزين العابدين السنوسى .
في هذه المجموعات نرى أمامنا نزعات متعددة وأشكالا مختلفة متضاربة من الفكر والتطور وطبقات مسترسلة الواحدة تلو الاخرى أو قائمة الواحدة فوق الاخرى . اننا نرى هؤلاء الشعراء وقفوا وبرزوا في مظهر زعماء الثقافة المراكشية فكنت ترى فيهم رجلا كمحمد غبريط ورجلا كالبرغيطى ورجلا كالفقيه ابو عشرين صحين ، انهم جميعا ينتمون الى الطبقة البرجوازية
العتيقة التى تنحدر من المهاجرين الاندلسيين أو من الجماعة الشريفية وهم يميلون ميلا خفيا الى أن تؤخذ منهم الصور فى بساتينهم ورياضهم التى تظللها وتعطرها أشجار البرتقال ، متزمتين فى هيأة قاضى البصرة وقد لبسوا جلابيبهم البيضاء والعصا الثمينة فى أيديهم والبرنس الحريرى قد مسكت به أصابعهم . فى حشمة ظاهرة على شاكلة الظرفاء
أما فى تونس ، وفى نفس ذلك العهد كنت ترى ادبا راقيا نظرا لقدم النهضة وعمق الاتصالات التى تمت بين الشرق والغرب وهى اتصالات أقوى وأعمق بكثير من التى تمت فى الجزائر ومراكش
ان فكرى يعود بى الى كتاب وشعراء مثل الشاذلي خزنه دار ومصطفى آغا وباحسن بن شعبان ومحمد صالح النيفن خاصة انى لم اعرفه شخصيا وربما لم يزل على قيد الحياة ولكن المراجع التى نملكها تقدمه لنا فى شكل اديب ينظر الى الدنيا ويفسرها حسب المقاييس الثقافية الدينية بل كثيرا ما كان يبشر الى الزعامة الدينية فى شعره .
ومع محمد الهادى المدنى - اخ توفيق المدنى - نثب وثبة فى طريق التطور اننا نسمعه يلقى على نفسه اسئلة عن الذات وعما هى الحقيقة انه متفلسف ، ولهذا كثيرا ما قارنه النقاد التونسيون بالشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوى الذى يشابه بدوره الشاعر الفرنسى سولى بريدوم ( Sully Prudhome)
الذي ادخل آراء جديدة بالنسبة لعصره على العالم العربى وننتقل بعده الى عبد الرزاق كرباكه وأظنه من أصل تركى وان هو تمتع بأجداد اندلسيين اذ تسمى بكرباكه العبادى وانتسب الى المعتمد بن عباد اشبيلية المدفون بسفح جبال الاطلس . هو أيضا يميل الى شعر الشاعر العراقي معروف الرصافى واننا لنراه ينظم سنة 1929 قصيدة يهديها الى الشاعر العراقي الذي رت له فى تلك السنة حادثة غريبة : ان الرصافي ، الذى كان يشابه دون كيشوت الاسبانى دفعه أسى الحب وتيمه الهوى فتوغل في الصحراءوهام على وجهه ولكن صحراء الشام اخطر بكثير من فيافى كاستيليا ، وضح العراق بل ضج الشرق كله لهذه المغامرة وخاف أن يفقد شاعره و طفق الناس يتساءلون عن حالة الشاعر واين هو فأرسل الملك فيصل قافلة من السيارات للبحث عنه في الصحراء . هذه الحادثة نجد صداها عند شاعرنا التونسى الذى ينسجم هكذا مع احداث عصره انسجاما كاملا .
و - ابناء العصر : أبو القاسم الشابى
ويعود الفضل الى جماعة اخرى من الشعراء فى الانتقال بالادب المغربى وتطويره فى ميدان الفكر وفى دنيا الالهام الوجدانى ، انه جيل آخر يختلف عن الجيل السابق انهم ابناء العصر الذين ولدوا حوالى سنة 1900 والذين تأثروا بالقصة والشعر ، خاصة بشعر لامرتين سواء بواسطة اللغة الفرنسية أو الترجمات الكثيرة ومن بين هؤلاء لابد أن نذكر علال الفاسي المراكشى الذى كان يميل الى التصوف . وانتقل بعدهما الى اكبر شاعر عرفه المغرب العربى الحديث هو أبو القاسم الشابى الذى كتب لصديقه الحلوى سنة 1926 رسالة يقول فيها " ما هذا الوجدان التائه في شعاب الغد الغامض ، هذا الوجدان هو ثورة العقل انثى وجدت هذه الفقرة فى مجلة أدبية قامت بدور هام فى ذلك العهد اعنى مجلة ( العالم الادبى ) للاستاذ زين العابدين السنوسي . اننا نطالع فيها قصة للشابي : صور فيها شابين يطالع احدهما تعريبا لاناتول والآخر تعريبا للامرتين . انهما فى حديقة البلفيدير ينظران الى فتيات اروبيات يتبارين فى كرة التنس ، اننى أعتقد أن الشابين كثيرا . يرفعان البصر عن كتابيهما ليتمتعا بمشهد الفتيات ، دون ان يذهب بهما ذلك الى أن يلعبا بأنفسهما كرة التنس أو يمر بهما صديق فيسألهما عن حالهما فيعبران عما في قرارة نفسيهما فاذا هما مصابان بداء العصر المر الذى تحدث عنه من قبل الفريد دوموسي وبودلار ويقف أحد الرفقاء ويودع صديقيه ويذهب به السبيل الى غير اوبة .
ويغادر الشابى بعد ذلك العاصمة ليعود الى الجريد - مسقط رأسه - ويبدأ فى حياته عهد النكبات فيفقد والده الذى كان يحبه حبا كبيرا ، ثم يتزوج وان زواجه لنكبة فيما أعتقد فالنقاد لم يتحدثوا بالمرة عن زوجته وبعد أشهر يغادر الحياة التى أحبها حبا جما . الحياة نعم . لقد أحبها الى درجة انه جعلها عنوانا لديوانه ( اغانى الحياة )
وتعرفون كلكم بلا شك تلك القصيدة الشهيرة التى سمعت الناس وانا فى الشرق ينشدونها ويرددون أبياتها ليعبروا عن رغباتهم فى الحياة .
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلى ولابد للقيد أن ينكسر
ومن لم يعانقه شوق الحياة تبخر فى جوها واندثر
هو الكون حى يحب الحياة ويحتقر الميت المندثر
انها لعنة قاسية ارسلها فى المجتمع وفى العصر الذى عاش فيه ويتلو بعد هذه الابيات ابياتا أخرى .
اذا طمحت للحياة النفوس فلا بد أن يستجيب القدر
لقد أجاب القدر اخيرا ، ولكن فى الحقيقة آجاب فى عصر غير عصر الشابى الذى بقى " النبى المجهول " كما قال فى قصيدة من قصائده الغرر.
وانا لنجد عنده انطلاقات وافراحا واسعة أمام الحياة وأمام الموت . ولابد ان نذكر هنا اعترافاته عن موت والده ، والشاب يتحدث فهو يتحدث كشاعر فيلسوف .
ان هذا الرجل الذى يصفع الموت يحب الماضى ويحب المستقبل ولكن الرابطة بين المستقبل وبين الماضى عنده هى الاصالة الفكرية وهى ما تبحث عنها كل ثقافة حق . وهذه الاصالة تعيدنا من جديد الى موضوعنا ، فنستطيع أن نقول ان الشابى - فى مستوى العالم العربى كله - اكبر شعراء مدرسة الوجدان ان تلكم المدرسة الرومانطيقية التى كان همها أن تستثمر استثمارا كلنا هذه الروح العربية الصميمة التى يدعونها الوجدان والكلمة تجمع ( وقد يتعجب من ذلك اللغويون الاروبيون ) معنى الوجود فى ارتعاشاته الخفية جدا ومعنى الذات فى أساس جوهرها وعمقها المحض ، ان كلمة وجدان تجمع هذين المعنيين وهى خاصة من خصائص اللغة العربية .
ان الشابى كان كثيرا مايطالع كتبا عربت عن الفرنسية ولكنه لم يكن يقرأ الفرنسية ولا يؤلف فيها الا انه يوجد ادباء تونسيون كثيرون يؤلفون ويكتبون بالفرنسية .
4 - ادباء اللغة الفرنسية
ان هذا العرض يبقى ناقصا ان انا اهملت مظهرا آخر من الثقافة المغربية المعاصرة .
نعم وصلت صدمة اللغة الفرنسية الى الاعماق الى قلب الافراد والجماعات حوالي سنة 1930 . ان المغاربة استعملوا في الوقت نفسه اللغة العربية كسلاح للمقاومة ضد الاستعمار واللغة الفرنسية للتعبير عن الالهام . وهي حقيقة لاوجوب لنكرانها فى ذلك الجيل . ومن ذلك الجيل أذكر الطاهر صفر هذا فيما يعود للماضي وأستطيع أن
أذكر فى الحاضر رجال دولة كثيرين استعملوا الفرنسية أكثر فأكثر فى مؤلفاتهم وتصريحاتهم
ان استعمال الفرنسية عند الكتاب يرمى الى خلق ادب ليس بالمرة ادبا اقليميا بل أدبا انسانيا شاملا .
والغريب أننا سنجد حوالي سنة 1930 جماعة تسمى نفسها بالكتاب الجزائريين وتعتمد الادب وتنادى بالاقليمية وتبشر باليقظة بالواقع الاقليمي المحلى وغالبهم بل كلهم فرنسيون والغريب ان هذه الآراء قد تحققت ولكن بعد مر عشرين سنة . حققها كتاب آهليون مسلمون . ولا شك انكم تذكرون اسماء مولود معمرى ومولود فرعون ومحمد ذيب ومالك حداد وكاتب ياسين وان لجأ بعض هؤلاء الكتاب الاهالي في تفسيرا الواقع تفسيرا محليا كما هو الحال عند الكتاب المصريين المنضوين تحت لواء الواقعية الاشتراكية كعبد الرحمان الشرقاوى ويوسف ادريس . . فلقد ادرك البعض الآخر المنزلة الانسانية مثل مالك حداد ، وكاتب ياسين ونستطيع ان نقول ان كاتب ياسين بلغ اعماق الكيمياء اللغوية التى تزلزل فى الوقت نفسه اركان اللغة وذات الكاتب الذى يستعملها . وليس من حقنا ، حين نقرأ مؤلفاته ان نقول ان ياسين بتكلم لغة قاموسية او هو مجبور على استعمال لغة خاصة به .
وانه مظهر خارق للعادة وغريب جدا آن نرى هؤلاء الكتاب الثوريين المغاربة يرضون ويغرسون اللغة الفرنسية ويقيمون شرعيتها فى شمال افريقيا ان هذه الظاهرة غريبة جدا .
ولكن علينا أن نتساءل في نفس الوقت هل تتعارض مع اللغة العربية أم لا وهل هي تعبر عن نفس الثورة وهل هى قادرة أم لا على تأدية نفس الكيماء اللفظية التى تؤديها اللغة العربية التى يستعملها الكتاب المغاربة عليكم أن تردوا الجواب : ان هذا الادب العربى لم يزل مترعرعا . وهنا أود أن أقول أن هنالك اثرا قد استرعى انتباهى هو مسرحية " السد " التى الفها الاستاذ التونسي محمود المسعدى وهى مسرحية تحمل روحا إبسينية اعجبت بها ايما اعجاب . وحكمي هذا لايشوبه تعلق ولا يعميه الود الذى احمله شخصيا لصاحبها ولقد تصورها وفكرها صاحبها بالعربية والفرنسية فى آن واحد ولكنها رغم هذا الازدواج صيغت في لغة فنية رائعة اعجب بها النقاد الشرقيون اعجابا كبيرا .
5 - العوامل اللغوية .
عند هذا الحد أترك هذا العرض الطويل عن الالهام الادبي . نعم الالهام والثقافة لا تعتبر حية الا عند هذا الحد . فيصل كتابنا في آخر الامر الى ان يحددوا بالتمرين الادبى الظاهرة الادبية ومع هذا ، فهذه المشاكل ليست مشاكل جمالية ولكن مشاكل عملية لغوية فى مستوى الحياة القومية حتى في جزئيتها التربوية ...
فهنا لابد ان نقيم وان ندخل بعض الفوارق . علينا أن نبحث امامكم عما هى حياة الرجل المغربى اللغوية . لان هذا الرجل يرى نفسه قد تجاذبته واجهات لغوية متعددة وعوامل مختلفة .
العامل الاول : لهجته العربية او البربرية التى تشكل استمرارا اصليا يربط بين قلبه وبين الارض التى يعيش عليها . هذه اللهجة هي لغة الام . لغة الامومة . اللغة العربية الفصحى هي اللغة الابوية .
نعم اللغة العربية الفصحى تحمل تاج الابوة . وقد يكون هذا الاب هو الله وعلينا ان لاننسى ان القرآن الكريم ينفذ بفضل تربية الرجل المغربي وهو طفل صغير على الحصير فى الكتاب الى اعمق اعماق التراكيب العقلية فالقرآن يرتبط ارتباطا لا ينفصم بنفسية الافراد والجماعات ، تلك النفسية الحية المختلفة .
ب - العامل الثاني : هو التعبير عن التراكيب الفكرية والتجرية عند الكهل والحدث فى المغرب هذا التعبير يقع عادة باللغة الفرنسية وعلينا أن نعترف ان هنا شكل آخر لهذا الاستعمال ناتج عن الصدمة والتهجم الذى لا مناص من الاعتراف به على اصالة المغربي كما أشرنا .
ان الفرنسية ، فى مقدار واسع ورغم المجهوادت التربوية التى شملت البلدان المستقلة ومن قبل المدارس التى أسستها " جمعية العلماء الجزائريين ". قد ابتزت مكانة اللغة العربية واستولت على وظيفة من وظائفها الكبرى وظيفة التعبير عن الحضارة فأدخلت هكذا اختلالا من واجبنا أن نجعله مصدرا ثروة خصبة .
ج - العامل الثالث : يقع على صعيد التفاهم والمبادلات الفكرية هذه المبادلات التى اصبحت فى مستوى عالمى وفي نطاق الحياة القومية همه التحسين من اللهجات او التعبير عن مفاهيم اكثر رقيا من المفاهيم التى تعبر اللهجة عنها
د - اللغة العربية العصرية ( 1 )
عند ذلك تستعمل اللغة التى نسميها بالعربية العصرية أو العربية الحديثة اعني عربية الصحافة وعربية الراديو وعربية المدارس والكتب المدرسية وهذه المتبادلات تقع أيضا باللغة العربية وأحيانا بلغات أجنبية كالاسبانية والانكليزية مثلا وهكذا تشاهدون أمامكم على الاقل نظما ثلاثة وثلاث طبقات عقلية وثلاث لغات تتضارب وتتصادم كل واحدة منها مع الاخرى ولكنها تحمل فوائد وينتج عنها أخطار . وعلى كل نظام تربوى ان يفكر تفكيرا طويلا جديا في هذه الفوائد وفي تلك الاخطار فما هى هذه المنافع وهذه الاخطار ؟
6 - حرب اللغات منافع واخطار
أ- اللهجة : أما اللهجة فتتمتع بطابع البداهة ويكونها لغة الامومة ولغة الشعب ولكن يجابهها ازدراء المتعصبين للفصحى الذين يرون فيها لهجة عاجزة عن التعبير الكلى ومن شأنها أن تقطع بين متكلمها وبين الشعوب العربية والاسلامية .
ب - الفصحى : واما العربية الفصحى فهى تتمتع بتاج المثل الاعلى الديني وبالآصالة والجمال وليست جملتى هذه اعادة قول يقال بل حقيقة ملموسة . فالفصحى تملك - في صورها ومفاهيمها - حياة دينية عميقة هذه الفصحى ستدخل عليها الحياة التاريخية انقلابا ولا شك بل ستتهجم على طابعها المقدس وتقوم أمامها الصعوبة الكبرى الجبارة التى يجابهها فى تعليم العربية المستشرقون والشرقيون على السواء ولكنها تملك تلك الاصالة الخلاقة المبدعة الواسعة وتلك القيم التركيبية كما قلت .
ج - الفرنسية : واما اللغة الفرنسية فيعوقها طابعها الاجنبي ثم انها واكبت الاستعمار وجاءت معه وهى - الى حد كبير - اللغة التى أجبر الاستعمار على استعمالها ولكنها تتمتع بقيمها التربوية وبالتجاوب التى تحصل منها للانسان الثائر وانتم تعلمون المكانة التى احتلتها الفرنسية للتعبير عن رغبات المعارضة السياسية نفسها ونستطيع أن نقول ان اللغة الفرنسية وقد يبدو هذا القول غريبا حقا قامت بدور هام فى تحرير بلدان المغرب من الهيمنة الاجنبية .
د - العربية المعاصرة : واما العربية المعاصرة فهي تملك هذه القابلية الناجعة فى التعبير عن كل فكرة من الافكار الحديثة ولا يوجد اليوم مفهوم فنى أو عقلي صعب لا تقدر العربية المعاصرة أن تعبر عنه أو أن تجد له تعبير معادلا.
اننى أعتقد أن العرب فى هذا الميدان يتوهمون وجود صعوبات أكثر من الواقع فأول التجارب التربوية تعود في مصر الى حوالى سنة 1850 و 1860 لقد عربوا فى ذلك العصر المؤلفات الفنية الاجنبية تعريبا ناجحا . فكيف وقد مر قرن من التطور . ؟
ولكن تقوم ضد هذه اللغة العربية العصرية التى توحد بين العالم الاسلامي كله وتمكن شعوبه من التفاهم ، من موريطانيا الى الفرس الايرانى ، عامل هو انها لا تتبع ولاتنبثق عن اللغة الشعبية . بل هي في مقدار واسع لغة جماعة من الناس اعتبروا انفسهم مثقفين ولكن أقول عنهم أنهم جماعة من المتعلمين ، اعنى انها تحمل فى كيانها لونا من التعليم المدرسي المقطوع عليه التربة الجلة والحياة الشعبية . .
ه - الابطال الاربعة والتعريب : ان هؤلاء الابطال الاربعة الذين يلتقون وجها لوجه كل يوم فى الحياة يحملون فى ذاتهم مزايا ونقائص وعلى البيداغوجية القومية ان تختار من بينهم .
ولا بد ان أقول الا ان كلمة عن هذا النقاش الثقافي الاساسي الذي يثور فى البلدان العربية وفي بلادكم خاصة حول التعريب .
ان التعريب هو انتقال مفاهيم فنية وتجريبية اجنبية الى اللغة العربية المعاصرة وبفضل تعريب مؤلفات انكليزية او فرنسية او اسانية أو غيرها ، اللغة العربية المعاصرة تصبح اللغة العربية لغة مؤدية للمفاهيم والافكار مروجة لها .
ومع هذا فغالب هذه التجارب البيداغوجية - ولتسمحوا لى ألا أتحدث الا عن الشرق العربى عامة دون الاشارة الى النظم المحلية التى لا أملك عنها ارشادات واخبارا كافية - قد فشلت لانني أراهم من أجل هذا يقومون بمجهود كبير حتى يظهروا القيم الاخبارية التى تملكها اللغة دون الاهتمام بالقيم الرمزيه و الاشارية الباطنية والقيم المرجعية التى تشير الى عالم ملموس يحتوى عليه اللغة . اللغة التى هى مظاهر الروح الجماعية ولكن ليست القيمة
هى التى تهم وحدها فى لغة من اللغات بل وكذلك القيمة المرجعية العميقة توجدها بين مظهرين مختلفي القيمة العميقة بين الاجواء النفسانية والافراد والجماعة من جهة وبين عالم المحسوسات من جهة اخرى وهذا يؤدينا الى هذه الحقيقة السافرة البسيطة البديهية فنقول : " ان الثقافة لا تقوم بدون لغة ولكن لا وجود كذلك لثقافة دون محتوى "
وانتم لو تصفحتم المناقشات التى ثارت وما زالت تثور فى مجامع اللغة العربية بالقاهرة ودمشق وبغداد منذ ثلاثين سنة لاكتشفتم وادركتم ان مشكلة التعريب هذه لم يقصد لها المناقشون العلماء - ان لم تخني معلوماتي - الا من الناحية اللغوية القاموسية فقط اعنى الناحية البتراء الهزيلة التى تمس اللغة من زاوية ضيقة جدا والتي لا يمكن أن تفيدكم في آخر الامر الا افادة قليلة نزرة .
ان الصعوبات الجبارة التى يصطدم بها المربون تجدون ذكرها فى مقال للدكتور جميل صليبا عميد كلية التربية نشره بمجلة المجمع العلمي العربى بدمشق وفى هذا المقال اماط الكاتب اللثام عن المآسي العديدة التي يتعرض اليها معلمو العربية الفصحى فى سوريا وسوريا كما تعلمون زعيمة العروبة فى ميدان اللغة . وعليكم أنتم في تونس أن تجدوا الحلول الملائمة بين اللغة وبين التعبير أو بعبارة أخرى ما يمكن أن تدخلوه في دائرة الثقافة كما وصفتها لكم ، لان اللغة رابطة وحاجز معا وهي تقوم بين الانسان وبين العالم . وهى تذكرك بالمكانة الكبرى التى احتلتها الكلمات الاجنبية فى الحياة الفنية وفى التعبير عن الوجود ، هذا التعبير الذى يقع أحيانا باللغات ألاجنبية المسيطرة التى تحمل هكذا فى ذاتها اختلاسا بالنسبة لميدان الروح وربما يعود الى الانسان الذى افترضناه أعني الانسان المغربى ذا اللغة العربية الكلاسيكية
ان طريقة التدوين الناجحة هى ان لا تقيمها حضارتكم على القيم الاخبارية وحدها بل على التجاوب بين هذه اللغة وبين الحضارة حضارة الملموس وبين عالم الاصالة اعنى انبعاث كلاسيكية مغربية .
7 - امنيتي :
اننى اتمنى - إن أمكن - أن تعنى التربية العربية بهاتين الناحيتين : أولا : تعلم الكلاسيكية من ناحية وتعلم العالم الملموس والواقع من ناحية اخرى وبالعكس فلا بد من التخلص من القيم الاخبارية ومن القيم التربوية الثقافية التى تبعثها اللغة الفرنسية .
ولكن هنالك أمور تبدو لى خارج نطاق حديثنا هذا هو ما ينبغى الاستيلاء عليه من المعادلة بين الاشياء الملموسة وبين " الاشارة " (signes)(1) ( هذه المعادلة هى الثقافة الحق
ان الاستقلال الوطني ان نحن فكرنا فى معناه الحقيقى تفكيرا مليا يمكن في الاستيلاء الاهلى من جديد على حقائق الوجود والواقع المادى بوسيلة رموز واشارات هاته الرموز التى كان رمز الحرية اخصبها وأكثرها فعالية فى معركة الاستقلال .
واذا ما تم الاستقلال لشعب من الشعوب فانى اعتقد ان العمل الاكبر الذى ينتظر ذلك الشعب هو أن يتحصل بفضل رموز جديدة واشارات جديدة على لغة ثقافية جديدة اعنى الاستيلاء على الاشياء الملموسة وخلق عالم ملموس واذا ما أمكن هاته الشعوب الوصول الى التغلب على آفة من آفاتها ومرض من أمراضها فتعلم البلدان التى كانت مستعمرة سابقا ان عالم التقسيم والتجزئ يمكن أن يصبح هو ذاته عالم التبادل الخصب تبادل فى ميدان الثقافة وفى غيرها من الميادين المتعددة التى قد تتألم من عدم وجودها شمال افريقيا
انتهى بهذه النظرة المتفائلة أو قل بهذه الامنية واننى لالتجىء الى صورة عزيزة على نفسى لاصف المغرب فاقول ان موقعه بين العالم العربى والعالم اللاتينى يجعله شبيها بما كانت عليه أرض الاندلس فى القرون الوسطى واننى أتمنى أن تصبح هذه الاندلس الجديدة التى اضاءها العرب مرتين اندلسا مستعادة .
