الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 2الرجوع إلى "المنهل"

تمثيليات طاهر، لو اذيعت ..

Share

كنا سامرين، وكان، معنا، فى ذلك السمر، على احدى المصاطب المرتفعة الواسعة بمحلة الشامية فى مكة المشرفة ، وقد صفت عليها الارائك الجميلة ووضعت عليها الطنافس وفرشت ارضها بالزرابى المبثوثة والحشايا الوثيرة واضيئت بالمصابيح المتوهجة ، وكان حفلا بهيجا اقامه الصديق الاستاذ حسين نظيف وقد حضر الحفل زمرة من رجال القلم والفكر .

وتصدر المجلس ، وبدأ يرسل نكاته اللطيفة مدوية رائعة تشيع البشر والبهجة فى النفوس الصدئة ، فما تنطلق من فيه نكتة الا انطلقت بجوانبها الضحكات المدوات ، وكانت نكاته واقاصيصه أول مرة قصارا موجزة . حتى اذا استكمل الجمع وانتظم الشمل تحركت حاسة الفن الكامنة فيه ، ومن ثم تحركت اوتار صوته الموهرب فبدأ يفيض بالروايات المسلية وبالاقاصيص الوطنية والاجتماعية والفكاهية.

وقد بدأ يتحدث، وهو فى الوقت نفسه يمثل جميع من يتحدث عنهم ، فكان الحضور آذانا صاغية وعيونا ناظرة .

تحدث عن قصة ذلك "البخارى، الحديث العهد ببلد الله الحرام ، وقص ما حدث بينه وبين بعض ابطال المجون بمكة ، وانطلق لسانه يتعثر فى الكلمات الاعجمية للكناء التى يرتطنها ذلك البخارى فكان هو هو لهجة ونبرات وحركات ، وقد انطلق المجلس بالضحك والاعجاب لبراعة هذا التمثيل الجامع بين تمثيل القول والعمل والنطق والحركات ..

وقص لنا قصة "محمد البخل ذي السن الذهبية" فما ترك موطنا للاعجاب الا ارتقى منه الذروة ..

وحدثنا بقصة ذلك "الضابط التركى" الذي كان مركز عمله بأسفا ،

فلما وقعت "هوشة صاخبة " بين بعض محاربى مكه فى اواخر عهد الاتراك عهد اليه بالتحقيق فى امرها فحشد بمركزه حوالى الفى نسمة من سكان بلد الله الحرام ؛ وفيهم الهندى والمغربى والتكرورى واليمانى والشامى والمكى طالب العلم فى المسجد الحرام والمكى الحارى . وفيهم التركى والبخارى ، وعرضوا عليه فردا فردا وبدأ يحقق مع كل واحد منهم عن اسباب الهوشة ودراعيها فكان طاهر يمثل الضابط التركى فى لهجته العربية المشوبة بالتركية، او بالاصح لهجته التركية المشوبة بالعربية ، ويمثل فى نفس الوقت لهجة من يحقق معهم من بخاريين وهنود ومغاربة وشاميين وحاربين وسواهم . فاذا العبراعة تتمثل فى هذه المقدرة العجيبة فى تمثيل كل هذه الطوائف وفى تمثيل كل هذه الاصوات، وتمثيل كل هذه النبرات ، وتمثيل كل هذه اللهجات ، وتمثيل كل هذه الحركات فى وقت واحد ، فما يختلف صوت عن صوت صاحبه ولا قبيله ، ولا لهجة عن لهجة ذويها ؛ وهى اصوات ولهجات متباينة ، اضف الى ذلك جودة التمثيل فيما يتبع اللهجات من الحركات والاشارات وحتى فى المشية والوقفة والجلوس ، ومداليد ، والنظرات الخارقة والساهمة . والثابته والخاطفة ..

ومثل طاهر التونسى غير ذلك من قصص واحاديث ووقائع ، فاذا الفن المغمور يتجلى فى هذا الممثل المعروف ببلد ، والمجهول فيما عداها من بلاد الله .

وفي طاهر اقتدار عجب وله براعة هائلة : ولديه طاقة عظيمة من تقليد كا ما يشاهده وما يسمعه . وقد ذكرنا بالممثل الذي تحدث عنه الجاحظ فى كتابه البيان والتبيين .. وإنني لأشهد ان لو خرجت تمثيليات طاهر إلى دور الاذاعات والاستعراض لتفوق على كثير من ممثلي العالم التراجيديين والكوميديين وانه ليفوق قدرة وتمثيلا اسماعيل ياسين ؛ وقد وهبه الله صوتا مرنا مبدعا وقوة خارقة من الفن والفنانين ؛ إنه لبطل فى التمثيل بلونيه : الكوميدى والتراجيدى فمن غير الملائم ان يظل هكذا مغمورا لا يعرف فئه الا اصدقاؤه واصحابه فى بلده ؛ فلتخرج لنا اذاعتنا الفتية بعض تمثيلياته الخلقية والاجتماعية . فان فيها افادة وإبداعا وان فيها روعة وامتاعا .

اشترك في نشرتنا البريدية