دخل احمد بن خضرويه البلخي على ابى يزيد البسطامي فقال له ابو يزيد : كم تسيح ؟ فقال : ان الماء اذا وقف فى مكان نتن . قال : كن يحرا لا تنتن !
هذه الحكاية التي اوردها صاحب " كتاب النور من كلمات ابي طيفور " تراودني بانتظام اثر كل رحلة . من رحلاتي عند ما اشرع فى تصفية الحساب فاسأل نفسي السؤال المحتوم : ماذا جنيت من الترحال ؟ وكان جواب ابي يزيد ينغص عيشي دائما بما فيه من تحد او ما اعتبره انا تحديا غير انى لم اغتم مثلما اغتممت اثر عودتي اخيرا من سياحة طويلة فى الولايات المتحدة :
لماذا ؟
ربما لاني لم اشعر بالنتن مثلما شعرت به هذه المرة لا سيما وقد كنت انطلقت اذ انطلقت الى امريكا وفي النفس آمال عريضة ورجاء واسع الارجاء : حدثت نفسي بصدمة اللقاء الاول التي ستقلعنى عن رتابة فتاكة فارى بعين جديدة عالما جديدا واظفر بهذا " الواقع " الذى كلما لاحقته ازور عنى واختفى
واذا برحلتي الامريكية مثل رحلاتي السابقة لم اجن منها في النهاية سوى صداع جعجعة ودوار شريط انطوت صوره بسرعة فلم يبق عالقا منها فى الذاكرة سوى مشاهد معدودة ووجوه بعينها . .
ذكر وانا على متن الطائرة ساعة مالت على المضيفة الشقراء وقالت بابتسامة تجارية : احكم من فضلك حزام المقعد ، سنحل بنيويورك في بضع دقائق
نيويورك ! فركت علني اذ لم اصدق اذنى وملت بدوري على النافذة : لقد قطعت الطائرة بحر الظلمات فى نفس الوقت الذي قطعت انا فيه ليل السبات واذا بنا نشرف معا على عالم من نور ، نور على نور نجوم من فوق ونجوم من تحت ومجرة من اعلى ومثلها اضعاف مضعفة من اسفل ، انهار شعشعانية تمتد مدى البصر تتقاطع طورا
وطورا تتوازى ثم تلتوى وتستقيم وتضيق وتتسع واخذت تقترب الاضواء ويشتد لمعانها واذا هي ألوان شتى ، ثم هاهي رجة قوية تهزني من مقعدي فارفع رأسي ويذهب السحر انا فى نيويورك ! ها هى جارتى السيدة العانس من تكساس ذات الشفة الرزوزة والصدر المطموس التى صعدت من روما واضجرتني الساعات الطويلة بحديثها عن كنائس روما تهش مودعه وتلح على لكى ازورها فى مدينتها : هيوسطن ، اجمل مدن اميركا !
نزلت. مع النازلين واذا بصوت دوي هائل يغمرني من كل جانب بينما تملا خياشيمي ريح كريهة ، ريح مطاط يحترق .
لاشك ، انا فى نيويورك ولم اكد أتيقن من ذلك حتى امتلك هلع لا يوصف شعرت فجأة بان ماضى انتزع منى ، اتت عليه المسافة المقطوعة فكانه لم يكن ، والحال انه لم يمض على رحيلى من تونس سوى يومين فقط :
تهافت وجودي وبقيت من حولى الطائرات تطير وتنزل والخلائق تتحرك وترحب وتودع والاضواء تضئ والمحركات تزمجر وريح المطاط المحروق يتصاعد.
لحيظات ...
ثم دخلت المدينة ومنها الى اميركا وتأقلمت تعلمت النسب من جديد والمقاييس ورجع الامن .
قضيت شهرا فى نيويورك فاذا هي كما قرأت فى الكتب وشاهدت فى الافلام :
جوها مكهرب ونشاطها عظيم وعمارة " امباير ستات " شاهقة والشارع الخامس غنى انيق و " برودواي " . ملاهيه كثيرة وحاناته اكثر وحي " هارلام " عامر بالزنوج وحي " بويري " بالمساكين والمدمنين وحي الصفر بالصفر
وتسكعت على ضفاف نهر " هدسون " وعبرت جسر " بروكلين " وركبت القطار الجوي والأخر الذى يسير تحت الارض واختلطت بالسكان وتعرفت الى حسان واكلت" الهامبورفر " البربكي " وشربت " البوربن " و " الويسكي " فأحببت نيويورك ، احببت ما عرفت من نيويورك ، احببت وجودي فيها
