قصة
كان قد تعارفا منذ زمن بعيد . أتيا الى " الصادقية " فى جملة من يرد عليها كل سنة من نجباء ابناء الآفاق . فجمعت بينهما ثم الفت مقاعد المدرسة رغم اختلاف فى الطبع والمزاج . كان خليل منشرح الوجه ، دائم الحركة فكها ميالا الى الجدال والمعارضة لا يمنعه وقار الاساتذة لا سيما المشايخ منهم من التعبير عن رأيه فى حرية ومن ارسال نكته التى تجىء غالبا " على المضمار " وكانت حصة الفقه أحفل الحصص بنشاط الفيلسوف الصغير فما ان يتصدى للدرس بالدعابة والتجريح حتى يضح القسم طربا ، لا يشذ الا نفر قليل من الحياديين منهم صديقه محمود . وكان محمود هذا يؤنب رفيقه لتعابثه بالسادة المشايخ ناسبا ذلك الى الاستخفاف بأمور الدين . وكان يلح عليه فى الذهاب معه الى مسجد المدرسة لأداء الصلاة ، فيستجيب خليل مرة ، ويتلكا مرارا هازئا برفيقه ملقبا اياه " قاضى البصرة " لما كان يلمحه عليه من الزماتة والوقار .
هكذا كان دأبهما ردحا من الزمن الى ان فرقتهما الشهادة الختامية وفصلت بينهما مذاهب الحياة
تم التقيا صدفة فى مناظرة عالية . فكان اللقاء مفاجأة عذبة جددا فيها عهدا مغمورا وأويقات لذيذة ، فتطارحا نوادر " الصادقية " التى يرويها التلامذة جيلا عن جيل . ونجحا معا فى الكتابى ، وكان عليهما ان يركبا الطائرة الى باريس لاجتياز القسم الشفاهى من الامتحان
تركا المدينة فى ليلة من ليالي رمضان البهيجة وكانت انفاس الليل الاخيرة تؤذن بحلول الساعة التى يخلع فيها الناس أنس الافطار وبشاشته ليستقبلوا يوما آخر من الصيام . ترك الرفيقان المدينة وسارا فى جد الشبان الناجح الطامح ، الى مطار العوينة . وكان محمود صامتا فى لجة من الافكار التى تدور يخلد الشباب في المواقف الحاسمة . وكان خليل يتذوق سلفا لذة الوقيعة برمضان . سيطبق حكما اسلاميا هو مستكمل لشروطه وكان مستحضرا الآية : " ومن كان منكم مريضا او على سفر فعدة من ايام أخر . . وذكر لرفيقه ملحة الجاحظ لما اخبر بقرب رمضان قال : " لأبددن شمله بالاسفار " . وعجب للنزعة البشرية التواقة الى خرق القوانين ولو بتأويل
اقلعت الطائرة وامعنت سيرا فى مجاهل الفضاء وما هى الا برهة حتى أنبثق لألاء فجر جميل . فأخذت خليل نشوة اذ رأى نفسه سائرا وسط خضم
بديع من النور . وتداخله شعور خفى . . . مزيج من الصدف والدهش عندما فكر بأنه أوتى القدرة على طي الفضاء طيا في منعة تامة . قد اتيح له أخيرا ان يعيش هذا الحلم العجيب الذى طالما تمناه وترقبه فى شغف وخشية ومرت المضيفة وهى تجمع من الخصال احسن ما فى الملائكة والبشر . عرضت عليه - مع ابتسامة ساحرة : ما عساه يشتهى . فطلب بعض المرطبات ونظرا الى رفيقه ليفعل مثله فتعفف محمود وأجابه :
" بارك الله فيك . . قسمى فى الجنة " وضحك الرفيقان لان شأنهما الحرية المطلقة للافكار . وانهمك خليل فى التهام طعامه واستغرق محمود فى تأملاته فى الفضاء الفسيح
مسح خليل فمه بعد ان شرب كوبا من الماء المثلج دفع به آخر لقمة . واشعل سيقارو . وطفقت افكاره تسرح الى غير غاية ثم بدأت تستقر قليلا نفث الدخان وقال لنفسه : " انى اطبق حكما شرعيا لا شك فيه " ثم " لعل هذا الحكم مبنى على حجة التعب والارهاق وانا فى الحقيقة غير متعب ولا مرهق صغرت نفسه لديه وداخله شئ من الاكبار لرفيقه . نزلا بمرسليا وركب القطار الى باريس ومحمود ممسك متلبس بتقشفه ، على وجهه صفرة الصيام وهيبة الايمان . وصلا الى باريس واخذا يعدان نفسيهما الاعداد الاخير لمواجهة الامتحان ، فاقبلا على عمل صارم منهك علما منهما بخطورة الموقف وكان خليل يود لو يرجع عن هذه الرخصة فيجمع كرفيقه بين جهاد العلم وجهاد النفس . لكنه فضل الثبات بما فيه على التراجع ، ففي التراجع ذبذبة وضعف . واصبح مع ذلك يتجنب الاكل مجاملة امام رفيقه اذا أجتمع به نهارا . فرب شهوة عرضت له عنيفة ملحة فصدها من اجل صديقه . اما محمود فكان فى باريس هو نفسه بالخضراء . انها سفرته البكر الى هذه المدينة التى تنطوى على عوالم من السحر عجيبة . فكأن الارض لم تتبدل غير الارض او كأنه قد اتخذ باريس له مقاما منذ زمن بعيد . كان يهجر الطعام قانعا راضيا طول يومه الى ان يحل المساء . وياله من مساء ! كل من اقام فى باريس صيفا يعرف مساءها المتثاقل المتراخي . فالشمس عندهم لا تتوسد الافق الا في حدود التاسعة . فاذا توارت بالحجاب وخيم الظلام قصد محمود المطعم ورافقة خليل فى خجل . وكان خليل يجادله تارة بالحجة يذكر له الامتحان وما يتطلب من نشاط لا يتفق وقلة التغذية ، وهما على سفر . ويراوده تارة فيحاول ان يستثير عطفه على نفسه التى يكلفها ما لا تطيق وما هى فى حل منه . وما كان ذلك خلوا من الدفاع عن موقفه هو . لكن لم ينفع مع محمود منطق ولا عاطف فجوابه :
الفرض صعيب يا خليل " فينصرف هذا حائرا ، يسترق طعامة استراقا وهو فى ريب من نفسه
وفى يوم من الايام كانا يتجولان فى شوارع المدينة مما يلى " كنيسة نوتردام " . فأصابا في واجهة دكان اصنافا من تلك التحف التى تباع للسياح تذكرة ومتاعا . فتأملا لحظة في محتويات الواجهة وكانت عارية يمكن تصفح كل ما فيها من صور واعلاق . واعجبا بسكين بديع من الفضة الخالصة غاية فى الظرافة . ثم دخلا الدكان يرتادان مافيه من تحف وطرائف . فاكتفى خليل باشتراء سكين بسيط لقطع الورق ، فما كانت عدته من المال حينئذ تسمح له بالتطاول الى أثمن من ذلك . واخرج محمود محفظة نقوده - وكانت مزدحمة بالاوراق المالية ودفع ثمن بعض صور اشتراها . وخرجا . وابتعدا عن الدكان متجهين صوب ضفة " السين " . وكان اليوم لطيف الهواء رائقا : كان خليل ينظر بشغف واهتمام الى ما في الدكاكين من معروضات فاخرة ، ينظر الى المارة الى أناقة الحسان واهتزاز قدودهن الممشوقة وكأنه يريد ان يملا ذهنه باكثر ما يمكن من الرؤى والانطباعات . واذا بصديقه يدخل يده فى جيبه ويخرج . . . ذلك السكين الظريف ، سكين الفضة الخالصة الذى وقفا عنده منذ قليل . ابتدره خليل سائلا
" اشنو هذا ؟ " ثم انكشفت له الحقيقة فجأة فتابع متلعثما : " خسارة عليك . . . هكه تعمل ؟ ! "
فأجابه الصائم ببرودة متناهية كان لم يكن ثمة ما يدعو الى الاستغراب والدهش :
" آش كان عليه ! ماهو الا قاورى ! " . . .
