بسم الله الرحمن الرحيم
في سنة ١٣٦٧ ه - ( ١٩٤٨،١٩٤٧ م ) هيء لي أن أخط السطور الأولى عن ديار بنى سليم . . وكان الباعث على ذلك ، الرغبة في المام القراء بشيء عن منطقة مغمورة من بلادنا ، كان لأهلها تاريخهم العريق في الجاهلية وفي صدر الاسلام .. فسطرت اذ ذاك تعريفات موجزة مركزة عن تلك الديار وأهلها ، في كتيب هو : (( تحقيق أمكنة مجهولة في الحجاز وتهامه )) وقد طبعت الكتاب الصغير وجعلته احدى هدايا المنهل للقراء . .
* وبعد ذلك، وفي شهر ذي الحجة ١٣٨٥ه - مارس - ابريل ١٩٦٦ م وبدافع * الهدف ذاته ، نشرت مقالا مطولا كمدخل لدراسة مبدئية لبنى سليم * وتاريخهم - نشرت ذلك المقال في مجلة (( قافلة الزيت )) الشهرية التى صدر بالظهران * بالمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، وبالطبع فان زيادة المعلومات لدي ،قد وسع من أفق * المقال . . أكثر مما في الكتيب الصغير .. وقد ساعدني في ذلك عثوري على حجرين أثريين * من بلادهم ، جلبهما الى جدة مبارك عبد التواب السلمي الذي استوطن جدة منذ أمد * مديد كما ورد في رسالته الي ، المنشورة في أواخر هذا العدد ، أو الكتاب للمناسبة * القائمة بين الرسالة ، والرحلة التي أثمرته .
* والحقيقة ان تلك الآثار كانت بالنسبة لى- من وجهة نظرى الخاصة - فاتحة طيبة،أو * مفتاح تاريخ بنى سليم ، أو المدخل اليه على الأقل . . وحينما تمكنت من قراءة النقوش * المنقورة في تلك الصخور شعرت بارتياح كبير من هذه الناحية ، وشعرت بأن بابا كبيرا * لدراسة تاريخ بنى سليم قد بدأ ينفتح من جديد ، وما على الدارسين والباحثين * والمستطلعين الا أن يتابعوا البحث عن هذه الآثار الوفيرة في بلاد بني سليم حتى يتمكنوا * من انجاز مهمة التعرف على تاريخ تلك البلاد ، بالاضافة الى مراجعات دراسية عمية * وقويمة ونزيهة وفاحصة للمراجع الجغرافية والتاريخية وغيرها التى يجد فيها الباحث
نتفا ونبذا متفرقة هنا وهناك وهنالك عن تاريخ بنى سليم في ماضي أيامهم وابان نشاطهم الاجتماعي الكبير الآفل . أما تاريخهم فيما بعد فهو أشد غموضا ومصادره أقل وفرة على كل حال مما سبق .
وقد ظلت أمنية المعرفة المباشرة لبلاد بنى سليم عالقة في الذهن منذ أمد . . ولكل شئ ظروفه وأوانه المقدر لكينونته في عالم الغيب وبتقدير المولى القدير .
وفي عامنا الحالى ١٣٩٠ ه - ١٩٧٠ م هيئت لى رحلات مفيدة الى شرق المملكة وجنوبها ، وذكرتنى هذه الرحلات الناجحة برحلة كنت أتمنى القيام بها منذ أمد الى ديار بنى سليم الواقعة في شمال جدة الشرقى .
وديار بنى سليم - كما قرأت وسمعت وتخيلت نتيجة القراءة والسماع - شيقة المناظر ، وان كان يلفها ضباب العزلة ، وقد كنت أتخيل أراضيها منسابة الجداول،خصبة التربة ، سندسية الحدائق والجبال والاودية والوهاد ، وكنت أتخيل مسالكها حرية وجبلية ، شاقة الصعود والنزول ، خطرة في بعض الأماكن على المسافرين ، ولكن يخفف من وقع ذلك جمال المناظر وجاذبيتها .. ولست أدرى بالضبط الدرب الذى يسلكه المسافر اليها ، وعلى ماذا يمر من المحطات ،والأودية والجبال والحرات والأماكن والآبار والعيون . . كل ذلك كان مجهولا لدي ،تماما. غامضا، تتراقص فوقه أشباح من العزلة والبعد .. وهى على كل ، حرية بالتجوال والارتحال اليها .
وتتضاعف الرغبة في مشاهدة هذه الديار،ولكن بدون أمل .. فالأمر يحتاج الى ترتيب رحلة يكون لها دليل خريت موثوق به في معرفته للطريق وللديار التى سنرحل اليها ان قدر لنا أن نرحل حتى تؤتي الرحلة المنشودة ثمارها يانعة ومتكاملة ، كما آتتها زميلاتها السابقة .
ومما زاد العقبات المتخيلة ازاء رحلة بني سليم ضخامة في نظري - ما كنت قرأته عنها من احاطة الحرار الوعرة بها ، وانها تقع في أودية عميقة زاد غورها عمقا علو الجبال التى تحيط بها .. وما الى ذلك .
وكان أكثر ما يدخل تضخيم العقبات الى نفسى ما سمعته مرارا من وعورة الطريق اليها ، وما كنت أدري أن الامر قد تحسن في الآونة الاخيرة ، فقد دفعت وزارة المواصلات بآلاتها الميكانيكية الجبارة الى هذه المنطقة ، فقامت بمد الطريق المعبد فوق متون الجبال الشاهقة من جرانتية وحرية..قامت بنسف جبال عظام ووطأت أكنافها لمد الطريق الجديد فوقها ، ونقلت جبالا من مكانها الى أودية عميقة الغور ، فارتفعت وساوت الجبال الموطأة
الأكناف ، وبنت عليها الطريق . . وهكذا الى قرية الكامل .. أم قرى المنطقة .. وأقربها الى مدينتي مكة وجدة .. ما كنت على علم بما حدث من تعبيد الطريق وما كنت أقدره ، ولكن مسيرتنا الى الأمام في هذا العهد الزاهر عهد الاصلاح والانماء والانشاء والتقدم الحثيث ، هي أسرع بكثير مما تقدر ومما نتظر .
هذه هواجس وتقديرات ملأت الدماغ ،بحقائقها وخيالها ، وقد كانت مشغلة للبال قبل أن نقوم فعلا بالرحلة الى ديار بنى سليم.
وقد شاء الله أن يهيء لنا أسباب ما كنا نتمناه ونعنى به بالغ العناية ، في أقرب فرصة لم تكن منتظرة ولا مقدرة ، فقد اتفق ان التقيت بالأخ عبيد السلمي في يوم ١٩ ربيع الثاني ١٣٩٠ ه - ٢٤ يونيه ١٩٧٠ م ، وهو أحد بني سليم ومن قرية مهايع التاريخية العريقة ، وجاء في الحديث ذى الشجون معه ، عارض ذكر عادي عابر لبلاد بنى سليم ، وكان سبب الحديث ومناسبته رحلاتنا السابقة القريبة العهد . وقد أبدى لى ان بالامكان لنا أن نزور بنى سليم في ديارهم في يومي الخميس والجمعة الموافقين لـ ٢٠ و٢١ ربيع الثانى ١٣٩٠ ه ٢٥ و ٢٦ يونيه ١٩٧٠ م ، ولكنه قال : ان الرحلة تحتاج الى سيارة ونيت أو سيارة جيب أو سيارة مرسيدس كبيرة ..فعرضت عليه ان لدي، سيارة بيجو ، فقال على الفور : وهذه أيضا يمكن أن تقوم بالمهمة نظرا لتعبيد الطريق الى قرية الكامل . .
وهكذا كان ارهاص رحلة بني سليم، وهكذا كان مولدها الفعلى .وحادثت يومئذ الصديق عبد القادر طاهر عن الرحلة وهل له أن يكون زميل الرحلة ؟ فوافق ، كما وافق الصديق الآخر سعد صبر على أن يزاملنا في هاته الرحلة بدون تلكؤ .. وأخذت رأي الحفيد زهير بن نبيه الانصاري فيما اذا كان من الممكن له أن يرافقنا فالظرف مناسب له ، لأنه كان يصادف وقت عطلة المدارس ،فأبدى استعداده لذلك ..
ومن ثم باشرنا في الاستعداد للرحلة العتيدة من يومها وأخذنا الزاد ورتبنا الفراش وأحضرنا أواني الماء من ثلاث وغيرها . . وما أصبح صباح يوم الخميس الا ونحن على متن سيارتنا متجهين صوب الشمال الشرقى . . الى ديار بنى سليم .
هذا ولقد أثمرت الرحلة ثمرتين اثنتين ، في آن متقارب أو واحد : احداهما هذا العدد الخاص ، بالرحلة وثانيهما كتاب مستقل في تاريخ بني سليم . . اسمه هكذا : ( بنو سليم في التاريخ ) وأرجو الله أن يوفقني لطبعه واخراجه في حلة قشيبة في ظرف قريب . ( جدة )
