ان الاقبال على العلم وعلى مظاهر الحضارة العصرية من تقنية وتكنولوجيا أمر لا يختلف فيه اثنان اليوم . ويكفى ان نلقى نظرة عاجلة على برامج التعليم وهياكلها فى اغلب بلدان العالم لنجد هذا الاتجاه متغلغلا فى نفوس من يسهرون على تطبيقها . وبطبيعة الحال تختلف قوة هذا الاتجاه وضعفه بحسب تغلبهم على التقاليد والرواسب القديمة . بحيث ان الامعان فى هذا الاتجاه اصبح من طبيعة الاشياء وان ما يسمى بالتفتح أو المعاصرة أو ما شئت من هذه الكلمات التى تريد ان تبرز هذا الاتجاه يقبله كل عاقل ويسلم به ويتحمس له . واى عقل سليم يرفض او يريد عرقلة اشاعة مستحدثات العلم ومآتي التقنية والتكنولوجيا ؟
ولكن المشكل حسب ظني هو الآتي : هل يكفى الاقبال على العلم والتقنية والتكنولوجيا ليحل مشاكل الشعوب ؟ ام هل أن هناك شيئا آخر الى جانب هذا هو الذي يحركها ويعطى لها معني للحياة ويبرز شخصيتها ويجعلها تتنافس فى سبيل مزيد من القوة وفضل من الحرية وقسط اوفر من العدالة والسعادة ؟
فهل كفانا ، نحن التونسيين ، التسليم فى عهد الاستعمار بنغمة كان يرددها القائمون على نظام الحماية والمتمثلة فى ان الاقبال على تطوير المجتمع التونسى من رفع للحجاب والاسراع الى المدارس الفرنسية وتعصير الاقتصاد هل كفانا كل هذا لننهض الى اسباب العصر كما كان يحضنا على ذلك المستعمر الذكى وينتهى كفاحنا ؟ ألم نشنها حربا لا هوادة فيها لان المسألة لم تكن فقط مسألة تعصر وتحضر بل ان الامر يقتضى تكتيل شعب من اجل الكرامة وتقرير المصير ليتعصر ويتحضر
وهل كفى الشعب التركى ان نزع عنه كل ما ظنه مظهرا من مظاهر التخلف فقلد الامم الاوربية وقطع كل صلة بالعهد القديم هل كفاه ليصبح أمة عصرية متوازنة القوى قوية منيعة ؟ أين النية من العمل وأين الآمال العريضة من الواقع الحالى ؟ لماذا اذن ؟
وهل اكتفى العالم الغربى نفسه بما وفره له العلم من اسباب القوة أم أن وراء كل هذا ايديولوجية ركز عليها عمله واعتقد ان قيم مجتمعه التى ورثها عن تقاليد اليونان المتحررة بواسطة النهضة الاوربية وان مؤسساته الديمقراطية هى التى كانت من عوامل التقدم ؟
وهل جعل الاتحاد السوفياتى الذى يضاهى اليوم اقوى دولة فى العالم الغربى من العلم والتقنية والتكنولوجيا الغاية الوحيدة أم هل وحد صفوف شعوبه وكتلها وراء قيم اخرى وايديولوجية مضبوطة اعتقد انها هي اللحمة التى يمكن ان يخلق بها المستحيل وخلق المستحيل حقا ؟
وحتى اليابان القوة الاقتصادية الجبارة ، التى يحسب لها ألف حساب اليوم ، هل اقباله على التصنيع فقط هو السبب الاصلي الظاهر أم ان هناك خفايا اخرى حفزته على ذلك وجندته لاجل تحقيق ما يريد ؟ أليس التقاليد اليابانية القديمة والدين اليابانى نفسه هو الذي ساعد على ذلك ؟
ونحن نعلم ان تقاليد اليابان للغرب لم يقتصر على عدد قليل من النخبة بل شمل المجتمع اليابانى ولم يخلق صنفا آخر من الناس بل انتشر فى جانب كبير من السكان من دون ان يغير الهياكل الاجتماعية بصفة جذرية ؟
ناهيك ان كاتبا اوروبيا زار اليابان منذ عام وكتب قائلا :
" ان الذى يحيرنى ليس ان اليابانيين يجدون في العمل بحنكة وفعالية ومن دون انقطاع ولا طفرة كانهم أرضة إلكترونية وان الذى يحيرني ليس انهم وهم فى سن الثامنة فى مستوى من الثقافة يشبه غيرهم فى العاشرة من العمر كما انهم فى الثانية عشرة لهم ثقافة غيرهم فى الخامسة عشرة ولا انهم في الثانية عشرة يرسمون ويفكرون مثل الراشدين فى بلاد اخرى . وان الذى يحيرنى ليس انهم يعرفون علاوة على كتابهم : برقسن berGson وفوت gate وملتن milon وويتمان Witman وغيرهم كثير ونحن لا نعلم عن كتابهم شيئا . وان الذى يحيرنى ليس ان لهم منذ عشر سنوات قاطرات تجرى بما يقرب 200 كلم فى الساعة على سكك حديدية هى انفاق فضائية حقيقية وجسور تمتد مآت الكيلومترات وانفاق تحفر فى ابسط وعر في بلاد من اكثر بلاد الله جبالا بينما القطار العنفي الكندى Turbroin ما زال يناغي على سكة حديدية قديمة والقطار الجوي الفرنسى لا يقطع الا عشرين كيلومترا وهو فى طوره التجريبى . وان الذى يحيرنى ليس ان اليابانيين يحفرون منذ سبع سنوات
نفقا تحت اخطر بحر بعد رأس هورن وعلى طول يفوق خمسين كيلومترا بينما نفق المانش البسيط بالنسبة اليه ما زال فى الرمال .
وان الذى يحيرنى ليس انهم يعدون مائة مليون نسمة وإنما الذى يحيرنى حقا هو أن هذه المائة مليون نسمة يخرجون اغلبهم فى الصباح من القرون الوسطى ليدخلوا في ظرف عشر دقائق القرن الحادى والعشرين من دون صدام ولا ضجة . انه لامر محير بل هو مأسوى "
هذه اللوحة التى تبين مدى تقدم اليابانيين والتى حيرت هذا الكاتب لان اليابان حافظ المحافظة التامة على دينه وتقاليده وبقى يعيش على النمط القديم رغم تقدمه تدل على ان هذا الكاتب لم يفهم فى الواقع ما الذى دفع شعب اليابان الى هذا الموقف المحير الذى يظهر فيه تناقض كما انه لم يتعمق فى اسبابه : ولو درى لعلم ان هذه الثنائية هى متغلغلة فى روح اليابانى وهي خاصية بارزة فى سلوكه وفهمه لمعنى الحياة . ألم يلاحظ أحدهم هذه الثنائية من مظهرى الماتسورى Mat والكامى Km اذ قال : " الماتسورى نسمح للانسان ان يسترجع الحالة الروحية الخاصة به بينما سلوكه اليومى يجب ان يبقى فى مفهوم الكامى " .
وهكذا فان الشعب اليابانى قد وجد فى تقاليده وروحه الاصيلة ما يجعله يحيا حياته القديمة ويحتفظ بسلوكه وعاداته والى جانب ذلك ينغمس فى العلم والتقنية والتكنولوجيا من دون تمزق
وخلاصة القول فان وراء كل اقبال على الحياة العصرية من القيم والايديولوجيات ما يحمس البشر ويكتلهم ويدفعهم الى ذلك والا تشتتت الجهود وفترت الهمم واصابها العياء .
وهذا هو صلب المشكل . وليس هناك مجال لأصالة ولا تفتح ولا نظرة ثنائية مانوية تجعل البعض الى جانب الخير والبعض الآخر متمسكا بالشر وهو فى ظني تمييع للقضية الاساسية ووضع للمشكل على غير اساسه . وانما القضية هي كيف تجند العزائم وتكتل الجهود من اجل التقدم لتظفر بالتقدم
كل شعب وصل الى مستوى الامم الراقية احتفظ بشخصيته ولم يتنكر لها واستمد من حضارته القوة الدافعة ووجد توازنه الكامل فى الملاءمة بين روح التقدم وروحه مثل الأمم الاوروبية والولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفياتى الذى لم يخرج فى الواقع عن الحضارة الغربية المسيحية ) انظر
البدليل لقارودى Roger Gudy : Yaternve ) وكذلك اليابان كما بينا انفا . اما الامم التى لم تقرأ حسابا للجانب الايديولوجى المحمس ورامت التقليد فقط كتركيا فانها وان وجدت الحل بتحميس الناس في الاقبال على مظاهر الحضارة العصرية فانها لم تحصد الا الفشل الذريع وضاع عنها هذا وذاك .
هذا هو المشكل اذن ؟
ونحن فى تونس قد كتلنا الجهود قبل الاستقلال على اساس شخصيتنا القومية ومقوماتها وجندنا العزائم لتقرير مصيرنا بايدينا ونجحنا في ذلك واليوم عندما جد الجد لبناء مجتمع عصرى متقدم كيف نجند العزائم ونكتل الجهود ان لم تكن على اساس مقومات شخصيتنا وما تتضمنه من قيم راجعة أحب البعض أم كره الى حضارتنا العربية الاسلامية .
فهل ننحو نحو تركيا والمثال الحي امامنا ؟
أم هل نسير على منوال اليابان والحضارة الاسلامية لم تقم على الثنائية بل ان الاسلام دين ودنيا وهو التوحيد فى اشمل مظاهره
هذا هو السؤال الذى لم يقدر حاضر العالم العربي الاسلامي على الاجابة عنه بمصلحيه وزعمائه ومتمذهبيه لاننا لم نقدر على ايجاد التوازن بين قيمنا والعالم العصرى .
لهذا فان الدعوة ملحة الى زيادة التعمق فيما قمنا به قبل الاستقلال من تكتيل القوى وتجنيد العزائم واضفاء الصورة الايديولوجية عليه وربطه بخصوصيتنا كتونسيين وانتسابنا الى الحضارة العربية الاسلامية وتشبعنا بها . هذا هو السؤال الكبير الذى ندعو انفسنا الى وضعه وفى انكاره عجز لا محالة وهروب من الواقع .
فالى متى سيدوم عجزنا وهروبنا ؟ .

