ضمنى مجلس ، مع صديق أديب وكدأبنا في مجالسنا الخاصة أخذنا نبحث فى شتى الامور ، حتى وقف بنا المطاف الى البحث فى ( الادب ) ماهية وفائدة . . واتفقت وجهات نظرنا على أن الادب المعنى هو الادب للحياة ، لا الأدب للأدب فهذا غثاء وهراء . . ثم عرضنا لبحث مدى افادة هذا الادب للمجتمع العربى والاسلامي فى الظروف الراهنة ، فكانت بيننا " هوة " من اختلاف الرأي في هذا
الموضوع بالذات . . انه يرى أن الادب ذو فائدة جليلة لحياتنا اليوم ولا بد منه ولابد من الاهتمام به على الدوام ولابد من صرف المجهودات الضخمة لرفع مستواه ، مادية ومعنوية ضمانا لرفع مستوى الامة من طريقه وبوساطته لانه مولد النشاط والحركة وواسطة عقد التقدم المنشود . . وأبديت له انى أرى العالم الاسلامى والعربى اليوم ملزما باعتناق شىء غير الادب . . لان الادب هو صناعة الكلام
وبحمد الله فان هذه الصناعة قد برع فيها العرب والمسلمون فى العصر الحديث ، وبقي لهم ان يتركوا تجربة هذه الوسيلة الكلامية في ابتناء مجدهم المنشود . . بقى عليهم ان يدرعوا بالسلم الصحيح المفيد في شقيه الديني والدنيوى ليجاروا الامم الطامحة الحاقدة التى تريد امتهان كرامتهم في مضمار الرقي الحثيث ، وليثبتوا وجودهم تحت الشمس ، وقد شبت الامة العربية والاسلامية اليوم عن طوق الادب . . وبدا بالنسبة لما يجب عليها احتقابه
من مهمات العلم والعمل شيئا تافها ليس بذى بال . . اننا نريد علماء دينيين يرشدون الامة الى مافيه خيرهم وصلاحهم عاجلا وآجلا بروح عالية واخلاص متين . ونريد علماء دنيويين من جيولوجيين يخرجون لنا كنوز . أرضنا المبوءة بدلا من أن يستغلها الاجانب فيقوموا بها علينا . . ومن اطباء عالميين ، ومخترعين ومستنبطين ومستكشفين وفنيين ومعماريين ومزارعين وغيرهم . نريد ان ننشئ
السيارة من مواردنا الخام وبمعاملنا الجبارة ، نريد أن نبنى الطيارة من مواد بلادنا المستخرجة بأيدينا وبفننا وان نشيد الدبابة والقاطرة وان نقفز من الشمال الى اليمين فى عالم الذرة والطاقة الذرية وان نكفى بلادنا مؤونة الغذاء ، فنزرع مختلف الحبوب والفواكه والاقطان والمطاط ، اراضى بلادنا الواسعة . . نريد ان نخرج بمصانعنا الهدارة المسدس والبندقية والطلقات والمدفع الضخم الهدار . .
والرشاشة التى تمطر الاعداء نارا ودمارا . . وان نتعلم صناعة الموت لنحيى ، نريد ان يكون لنا جنود مظليون وطيارون عالميون وطائرات حربية جبارة نريد ان تنسج مصانعنا لبوسنا الفاخر وغير الفاخر وان تخرج لنا معاملنا الورق الناصع وغير الناصع وأن نصنع لوازم حياتنا كلها فى مصانعنا ، من الابرة الصغيرة الى الآلة الضخمة التى تضيئ لنا الظلام . . وتبعث الدفء وتكيف لنا حرور الصيف . . وكل هذه امور لا مترى
في أن الادب قد سبق الى الدعوة اليها انهاضا وانعاشا ، وله الفضل فى ذلك ولكن ليس معناه ان نقف مكتوفى الايدى تدور في دوامة الادب ، ونكرر الدعوة باسمه بابناء هذه الامجادو نكتفى بذلك التغني ونعتقد أن الادب يقوم لنا بشئ ذي غناء او نماء . . لنحطم اذن جهاز القول ، ولنبني مكانه جهاز العمل . . حتى لا يشى بنا على الاقل جهاز القول فيما نزمع أن نعمل . فلا نعمل شيئا مما نريد ان نعمله ولعامل فنى ماهر من عمال شركة
الكهرباء السعودية مثلا ، يجيد ربط التيار الكهربائي ويعرف خباياه وعلله وعلاجها ، ولعامل من شركة السيارات العربية يحسن تركيب اجهزتها ويعرف عللها وعلاجها مثلا ، أجدى لحياتنا اليوم وانفع من اديب ثرثار يرمى القول هنا وهنا . . يثبت الشئ ثم ينقضه ، ويثنى على الشئ ثم يحطمه ويشيع البلبة في اذهان القراء . .
فلا يعرفون أن الابيض ابيض ولا أن الاسود أسود ، ولا أن الجيد جيد ، ولا أن الرديء ردي . . مما يؤدى الى اضاعة طاقة الاهة ، ومما يؤدى الى تعطيل تفكيرها وشل حركتها الفعالة فى ابتناء المجد الانشائي المروم في هذا الزمن المليئ بالاحن والعداوات تصب على العروبة والاسلام ، من الغرب والشرق معا . . مما يدعو الشرق العربى والاسلامي ويحتم عليه ضخامة الاستعداد وضخامة الجهود البنائية في كل حقل من حقول الحياة والانشاء والبناء حتى يلحق القطار الذي فاته والذى أمعن فى الانطلاق منذ مائة عام . .
هذا ما أبديته للصديق الاديب .
فعد هذا ثوزة منى على الادب ، وثورة جامحة ليست في محلها . . في نظر الصديق لانه لايزال يرى الادب بمنظار مكبر . . وانا اراه بمنظار مصغر . . فقد قام بمهمته وفرغ من رسالته فى عالمنا العربى . . فاصبح مثله كمثل السلم الذى يستعمله المرء للصعود به الى العلالى فاذا وصل الى مبتغاه ترك السلم فى مكانه واعرض عنه ظهريا . . ولكن الصديق الاديب لم يقتنع بكل ما قلت ، وظل ثابتا على رأيه ، فاضفت له انى أرى الادب ،
كما ترى أنت ، وارى أنا الشعر ، ان دولة الشعر قد ولى زمنها تحت وطأة ضجيج الآلة والسرعة الحديثة الحثيثة وكذلك الادب ، سيبقى مكانه وتبقى مكانته محدودين في عالمنا اليوم فعلى الشرق العربى والاسلامى ان يدرك هذه الحقيقة . وقبل فوات الاوان وان يصرف جهوده فى العلم والعمل ، لانه بهما وحدهما يستطيع البناء والتعمير والانشاء والاستقلال ومناهضة قوى الشر الجاثمة له بالمرصاد . .
وزدت على ذلك قولى للاديب الصديق سوف أذكرك يوما بانك قد عدت الى احتضان هذا الرأي بالذات . . ولكنه مع ذلك ظل محتضنا رأيه فى اهمية الادب للنهضة ، وانه هو وحده الذي بوسعه تقديم عجلاتها الى الامام ، كما كان في سالف الايام وفي كل زمان فابديت له انى على استعداد لوضع هذا الحديث بين يدى القراء . . لنحتكم اليهم في شؤونه وشجونه . . وقد وافق على الرأى ، فها أنا اضع الموضوع على بساط التحليل وفي معرض التقرير بين يدى القراء الكرام .
