" ناصر الدين دينية شخصية بارزة فى العالم الاوربي ، ورسام فني كبير له مكانته السامية فى عالمي الادب والفن . هداه الله الى الاسلام ونور قلبه بنوره الساطع . فكان رحمه الله مسلما تقيا وكاتبا مجيدا ، وفنانا بارعا ، يرى الاشياء بمنظار خاص ، هو منظار الحكمة والفلسفة ، يرسمها بريشة خاصة هي ريشة الشعور الدقيق الحساس والعاطفة الصادقة الفياضة . والي القراء ترجمة وصفه لجلالة الملك المعظم " عبد العزيز آل سعود " نقلا عن كتابه " الحج الي بيت الله الحرام " ذلك الكتاب الذي وصف فيه رحلته وحجه سنة ١٣٤٨ ه " قال : -
دخلنا مكة المكرمة ، واذا بها مرتدية حللا جميلة من الاعلام الخضراء الزاهية ، محتفلة بوصول جلالة الملك ابن السعود ، الذي أقام فى تلك الايام مأدبة
عشاء فاخرة دعي اليها ما ينوف عن خمسمائة شخص من اعيان المسلمين الموجودين يومئذ بمكة ، وقد كنت من الذين شرفهم جلالته بدعوته .
ذهبت الى هذه المأدبة فى سيارة أقلتني الي الحميدية ( دار الحكومة العربية ) ومنها الى القصر الملكى الواقع فى ضاحية البلد على طريق مني . وبعد ما جبت ساحات القصر الفسيحة صعدت الى اعلاه ، وقدمنى بعض الحرس الى جلالة الملك الذي كان جالسا في ركن الاريكة التى كانت تحيط المحل من جهاته الاربع ، فسلمت عليه باشارة خفيفة ، ردها على بحركة كلها لطف وبشاشة ، دلت على نبله . وبعدما جلست في وسط الجم الغفير من المدعوين ، وحينما كان جلالته يستقبل ضيوفه المكرمين كنت أنا ممعنا في التأمل فيه ، ها هو ذا الملك أمامي مرتديا ملابس بسيطة لا تميزه عن سواه ، ولكن هذا اللباس البسيط يبدو على هذه الشخصية العظيمة ، لا نظير له . والحق اني كنت متأثرا بهذه العظمة الاسلامية ، وهذه النخوة العربية ، وهذه الهيبة ، وهذا الوقار هذه الصفات التى تنبعث من هذه الشخصية البارزة ، مقترنة بهذه البساطة ، وهذه اللطافة لتمثل بحق الشخصية العربية الكريمة الممتلئة بالشهامة الفطرية الغير عادية . وان ملامحه لتدل بوضوح على ما يحمله من الحلم والرزانة والشجاعة والاعتزاز بالله ثم بالنفس .
يشعر الشاخص في الملك " ابن سعود " بعظمته من أول نظرة يلقيها اليه ومن المحال ان يكتشف الناظر اليه بسرعة سر هذه العظمة . إذ لا يوجد في ملابسه ولا فى حركاته وكلامه أقل كبرياء ، ولا أى تكلف يوجب ذلك . واذن فعظمته حقيقية طبعية . ولا شك في ان هذا البساطة الفطرية التى كاد ينفرد بها هي التى البسته هذه الحلة التشيبة من الجلال والوقار . والحقيقة الى لم ار رجلا قبله ، وهبه الله هذه الصفات الممتازة ، وهذه الأخلاق العالية ، وهذه العظمة الفذة ، ومع ذلك لم تؤثر في فطرته
السليمة ادني تأثير ، ولم ينجل لي السر في ذلك الا عندما القيت نظرية سريعة في صفحات العظماء المتقدمين ، وأخذت اتصور الخلفاء الاربعة الراشدين واتامل ما جمعوه من البساطة والعظمة اللتين جعلتهم اعظم رجال الاسلام ، حالة كون من جاء بعدهم من الملوك المتاخرين استهوتهم الدنيا وغرتهم بزخارفها ، فنقصهم الشئ الكثير من النبل والعظمة .
ولما حضر المدعوون قام الملك " ابن السعود " . وها أنا اراه من بعيد يفوق الجميع بقامته ، وها هو بخطاه الثابتة يقصد غرفة الصلاة لمناجاة ربه جل وعلا .
وبعد ان صلينا المغرب ونزلنا إلى غرفة الطعام التى الفينا فيها اشهى الاطعمة العربية هدنا الى مقرنا الاول لسماع الخطبة الملكية التى سيلقيها الان هذا الرجل المسلم العظيم وما هى الا هنيهة حتى بدى جلالته ولم يغير شيئا من هيئته الاولى ، فها هو جالسا في أريكته منحنيا قليلا نحو الحاضرين ، وقد ابتدا خطابه بالقاء طبعي سهل ، وكان خاليا من تلك الاشارات التمثيلية الثقيلة ، سالما من تلك الحركات المتكلفة الركيكة ، وتلك الاصوات المزعجة ، فالرزانة ، والرجولة الكاملة والاعتداد بالنفس ، كلها كانت تنفجر من خطبته الرائعة . وعجيب ان لا يفارق حالته العادية وهدوءه المعتاد ، حتى فى الوقت الذي يبحث فيه فى اخطر المسائل وأهمها . ولم نر منه اشارة سوى ضم صبابتيه حينما يتكلم عن الابحاث وتفريقهما حينما يبحث عن التفرق . ورغم هذا كله فقد كنا نحس بان وراء هذا الهدوء وهذه البساطة ، وهذه الرزانة حزما وعزما ، ونبلا وبطولة فذة يختص بها
المدينة المنورة
