الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "المنهل"

جولة في الأندلس، الخلد المفقود

Share

-٢-

قرطبة والزهراء :

تقع ( قرطبة ) على سفوح جبال متفرعة من سلسلة جبال ( سيرامونيا ) الممتدة من شمال المدينة وتمتد قرطبة على الضفة اليمني لنهر ( الوادى الكبير ) وتشتهر بالزيتون والمعادن وبجبالها نوع من الحجر يسمى الشادنة ويستعمل فى التذهيب ويبدأ تاريخها الاسلامي في عهد ( السمح ابن مالك الخولانى الذي ولى الاندلس سنة ١٠٧٠ وهو الذى رفعها الى مصاف المدن الكبيرة ( ومن آثارها القديمة ( القنطرة ) وكانت تعد من اعاجيب الدنيا وهى من بناء الرومان ورممها السمح بن مالك المذكور لسقوط عقودها وطولها ثمانمائة ذراع وعرضها عشرون وعقودها ثمانية عشر وعدد ابراجها تسعة عشر وقد اتخذها عبد الرحمن الداخل الاموي قاعدة لملكه فاصبحت يومئذ مهد الحياة الرفيعة ومصدر الحياة الاسلامية . وأعم عماراتها الجامع الاموي الكبير الذي ما زال يحتفظ بصورته الاسلامية ومصدرا يستوحى منه النصارى فن كنائسهم ودورهم وقيل كان بها ٣٨٧٧ جامعا و ٩١١ حماما وكانت قرطبة زمن الدولة الاموية فى الاندلس موطنا لفلاسفة العرب وكعبة العلماء والادباء الى أن سقطت الخلافة الاموية وفتحها البربر سنة ١٠١٠ وهدموا آثارها وسلبوا محاسنها وبعد سقوطها فى ايدى المسيحيين حولوا جامعها الكبير الذي بناه الداخل كنيسة كبرى .

جولة في قرطبة

بعد فراغنا من زيارة قصر الحمراء بغرناطة وتجولنا فى البلد بين معالمها ومنتزهاتها ذهبت انا ورفيقى الشريف زيد صباحا المحطة القطارات وقطعنا تذكرتين في الدرجة الثانية فوصلنا ظهرا الى قرطبة ونزلنا فى نزل ( بانسيون ) وبعد ان تغدينا فى مطعم مجاور نمنا حتى العصر ثم خرجنا نتجول فى البلد ، فتمثلناها فى زمن عزها الغابر حينما كانت ترفرف عليها الراية الاسلامية وهنا ذكرت ابياتا لشوقي نضر الله ثراه:

لم يرعنى سوى ثرى قرطبى

لمست فيه عبرة الدهر خمسي

قرية لا تعد في الارض كانت

تمسك الارض ان تميد وترسى

غشيت ساحل المحيط وغطت

لجة الروم من شراع وقلس

سنة من كرى وطيف خيال

وصحا القلب من ضلال وهجس

واذا الدار ما بها من انيس

واذا القوم ما لهم من محس

اين ( مروان ) في المشارق عرش

اموى وفي المغارب كرسي ؟

سقمت شمسهم فرد عليها

نورها كل ثاقب الرأي نطس

وعظ البحتري ايوان كسرى ( ١)

وشفتني القصور من عبد شمس

رجعنا للنزل بعد ان شربنا الشاي في مقاهيها وتعشينا فى مطعم قرطبى انيق منا نوما متقطعا وبعد ان اصبحنا عزمنا لا على زيارة الجامع الذي اصبح كنيسة بعد وصولنا ماذا رأينا ؟ رأينا جامعا كبيرا غرار جامع امية بدمشق يقوم على سوار المرمر ، وعقود بديعة واروقة واسعة وفناء ويسع الجامع الوفا من المصلين

بمحاريب مزخرفة وآيات او نقوش زينت جدرها وحناياها كما قال فيها شوقي :

مرمر تسبح النواظر فيه

ويطول المدى عليها فترسى

وسوار كأنها في استواء

الفات الوزير من عرض طرس

فترة الدهر قد كست سطريها

ما اكتسي الهدب من فتور ونعس

ويحها كم تزينت لعليم

واحد الدهر واستعدت لخمس

وكان الرفيف في مسرح العين

ملاء مدنرات الدمقس

منبر تحت منذر من جلال

لم يزل يكتسبه او تحت قس

ومكان الكتاب يغربك ريا

ورده غائبا فتدنو للمس

صنعة الداخل المبارك في الغر

ب وال له ميامن شمس

ومما يؤسف له ان اصبح هذا الجامع كنيسة يأتيه النصارى لمزاولة شعائرهم واقامة صلواتهم وبدلت المحاريب الى ( ايقونات ) تماثيل للعذراء وشعارات الكنائس كما قال الشريف الرندى :

حيث المساجد قد صارت كنائسها

فيهن الانواقييس وصلبان

حتى المنابر تبكي وهي جامدة

حتى المنابر ترثي وهي عيدان

لمثل هذا يذوب القلب من كمد

ان كان في القلب اسلام وإيمان

فى القنطرة الكبرى

خرجنا من هذه المناظر المؤثرة دامعي العين قاصدين القنطرة الكبرى على نهر ( الوادى الكبير ) ذات القصور الثمانية عشرة ، والتي تضاهى بناء الاهرامات فى

قدمها ، ومحكم بنائها وعلى طرفها الأيسر برج كبير ذو ثلاث طباق فقطعنا تذكرتى دخول وتجولنا من اسفله لأعلاه مع الدليل فرأينا فيه عجبا من محكم بناء ونظام هندسة بحيث لو تكلمت فى ركنه تسمع صوتك فى الركن الثاني . ومن اعلاه أرانا الدليل مكان قصور بني امية فذكرت أبياتا لشوقى رحمه الله يخاطب عبد الرحمن الداخل بقوله :

قصرك المنية فى قرطبة

فيه واروك ولله المصير

صدف خط على جوهرة

بيد أن الدهر فياض بصير

لم يدع ظلا لقصر المنية

وكذا عمر الأماني قصير

كنت صقرا قرشيا علما

ما على الصقر اذا لم يرمس

ان تسال اين قبور العظما

فعلى الافواه أو فى الأنفس

نعم لم يدع الدهر ظلا لقصر ( المنية ) ولا لقبر بانيه الداخل وقبور العظماء هو ما خلفوه من الذكر الحسن والثناء العاطر.

الى قصر الزهراء

وبعدأن نزلنا من البرج قصدنا ( قصر الزهراء ) وهو على خمسة أميال من قرطبة بناها عبد الرحمن الناصر سنة ٣٢٥ واتخذها مقرا للخلافة واسكنها محظيته ( الزهراء ) ورجال خاصته ونصب تمثالا على بابها الرئيسى وكذلك ابتني مسجدا فيها وظلت الزهراء فى ازدهار حتى سقوط الدولة الاموية دخلنا قصر الزهراء وعجبنا مما شاهدناه من ابنيته الجميلة وابهائه الواسعة وغرفه وعقوده المزخرفة )( الديكور ) ودخلنا بستانه الافيح من زهوره العطرة والبلابل الشادية

بيد انه داخلنا الالم لمجد الاسلام الضائع وعز العرب الزائل وذكرت قول الشاعر:

وقفت بالزهراء مستعبرا

معتبرا اندب اشتاتا

وقلت يا زهراء هل رجعة ؟

قالت : وهل يرجع من ماتا ؟

فلم ازل ابكي وابكى بها

هيهات يغني الدمع هيهاتا

رجعنا من قصر الزهراء منكسى الرؤوس أسفين على ضياع المملكة الاسلامية بعد أن حكم الاسلام ما يقرب من ثمانمائة عام وان هو الا عدم التمسك بالتعاليم الدينية والاخوة الاسلامية والركون الى الترف وملاذ الدنيا وتعدد الامراء والحكام كما قال حافظ ابراهيم لدى رجوع شوقى من الاندلس الى مصر :

واذكر لنا ( الحمراء ) كيف رأيتها

والقصر ماذا كان من بنيانه

ماذا تحطم من ذراه وما الذى

ابقت صروف الدهر من اركانه

ولعل نكبته هناك تفرق

وتشرد قد كان فى تيجانه

عبر رأيناها على ايامنا

قد خففت ما نابه من انه

وحوادث في الكون اثر حوادث

جاءت مبكرة لهدم كيانه

فهل نتنبه اليوم بعد تلك المحن الاليمة ما أصابنا من كارثة ضياع فلسطين وثالث الحرمين الشريفين ؟ وهل بقى عذر لمسلم بعدم حمل السلاح للجهاد فى سبيل الله بعد أن اعلنها مدوية في أرجاء العالم جلالة الفيصل فى قوله " اللهم امتني مجاهدا فى سبيل فلسطين " .

( المدينة المنورة )

اشترك في نشرتنا البريدية