ماذا نعنى بالادب الحركى ؟ ما هى ملامح هذا الادب ؟ وما هى ضروبه ؟ تلك أسئلة ينبغى أن نجيب عنها قبل أن نحدد موقفا من هذا الادب ، ومن الآداب التى نسميها ميتة أو كالميتة
إن الادب الحركى هو ذلك الادب الذي لا يقف عند المتعة والامتاع وإنما بتجاوزهما الى تحريك النفس ودفعها نحو الفعل ، نحو تغيير الواقع ، هو ادب التفاؤل والتشاؤم معا ، أدب التفاؤل لانه ملتزم بقضيته ووائق من إنجاحها ، وأدب التشاؤم لانه لا يرضى بالواقع ، فهو أدب ينبع من قيم متحركة تجعل النفوس والضمائر والعقول فى حالة طوارىء على الدوام ، وإن رؤية هذا الادب فى اتجاه واحد هو اتجاه الحياة وسننها ، إنه الادب الثائر من حيث يبدو ساكنا ، هادئا كالبحر ولكن جوفه يغلي بالحياة والحركة .
ذلك النوع من الادب لا نسميه قديما ، ولا نسميه حديثا وإنما هو حياة وكفى ، حياة باطنة وظاهرة : باطنة ما ظلت تحرك من عقول الناس وتغير من نفوسهم ، وظاهرة ما دام ذلك الغليان الباطنى قد تمخض عن قيم جديدة بدلت وجه الحياة وأنبتت واقعا جديدا . ولكن أين نجد هذا الادب ؟
قد يبدو لنا أن أدبنا المعاصر لم يبلغ هذا المستوى بعد ، ذلك لأن الادب إنعكاس للحياة ، وحياتنا فى معظمها ما تزال تعكس الظلال والاشباح والاوهام ، ما تزال حياة هامشية لم تتركز فيها نظرة صافية مريحة ، نظرة مستمدة من الموضوعية وروح العلم ، وصفاء الفن الرفيع ، إنها ما تزال غائمة حائرة ، لا تكاد تخطو وتنطلق إلا على أضواء خافتة وسرج شاحبة ، غير آمنة من التبعثر . إن مضامين الادب عندنا اليوم ما تزال مضامين الحياة التى نحياها ، فنحن نستمد من هذه الحياة الهواء الذى نتنفسه والخبز الذي نأكله ولن نستطيع أبدا أن ننزع أنفسنا من تأثيرها ، وكذلك ما تزال أشكال الادب عندنا باحثة عن نفسها ، لم تستقر على شئ ، وما زالت تكنولوجيا الادب
إن صح التعبير ، مثل تكنولوجيا العلم ، تنأى عنا ونجهد فى الوصول إليها فتكون كالسراب الذى كلما حاولنا الاقتراب منه ازداد بعدا واعراضا لاننا لا نجد من حياتنا اليومية أسسا حضارية دافعة ، وإنما نجد مسلمات ، وكهنة يدافعون عن هذه المسلمات ، ويمكنون لها فى عقولنا وأعمالنا الى اليوم ، فنحن ما نزال نكافح للخروج من الكهف المظلم والسراديب العميقة على أضواء شموع باهتة متراقصة الضوء
فأدبنا ما تزال تسيطر عليه نزعة سلوكية باردة كالموت ، بليدة كالجماد ، وما يزال أدب وعظ وإرشاد ، وقوالب لفظية ترن كأجراس كنيسة بطرس فى روما دون أن تخلف اثرا فى النفس ودون أن تكون فى مستوى البطش بالغباوة والركود ، فنحن ذوو نزعة فردية نتخذ من الادب ظهورا لذواتنا وسبيلا لفرض زعامتنا فى الرأى ، ولم نتخذ الادب يوما لخدمة القضايا ، أو للابتكار والتجديد والخلق ، ومن هنا كانت أعمالنا الادبية دون ذوات أصحابها فى الشهرة والذيوع . أذكر بهذا الصدد رأيا للكاتب الجزائرى مالك بن نبى ما يزال عالقا بذهنى كلما تأملت أوضاعنا من قريب أو بعيد ، يقول مالك بن نبى - وأنا أسوق حديثه بالمعنى - : " إن الفرق بيننا وبين غيرنا من أمم الغرب المتحضرة ، أن القيم عندهم هى البارزة الواضحة ، وأن الزعماء والقواد وعظماء الرجال هم سدنة هذه القيم وخدامها ، فالذى يشع هناك ويغمر الحياة إنما هى المبادى والافكار ، اما نحن فلا تكاد تظهر عندنا فكرة حتى يبتلعها شخص ، فيصبح ذلك الشخص شخصية ، وسرعان ما ننسى الفكرة ونقدس الشخصية صاحبة الفكرة ، وبذلك نقتل الافكار والقيم ونعبد الذوات وننفخ فيها حتى تصبح آلهة أو كالآلهة فتحتكر كل شئ حتى الافكار ذاتها " .
قد يكون هذا القول قابلا للمناقشة ككل قول محتمل للصدق والكذب ، ولكن الذى يبدو أن بعضا من أدبنا ما يزال تحت سيطرة هذا الواقع ، وما يزال أدبا للمدح والرثاء والتكسب ، ما يزال يعيش فى ظلال - الشخصية - وينأى عن مناخ الفكرة والمبدأ ، على أن هذا الواقع الذي ما نزال نعيشه لا ينبغى أن يدفع بنا الى اليأس ، فهناك من ادبنا المعاصر ادب يكافح ويجالد
هناك أدب ينحو نحو موضوعية العلم وأهداف الحياة النبيلة ، يريد أن يصنع لنا نفوسا جديدة ، قد نبتت فى أرضها قيم الحضارة الحق ، ويريد أن يكون الشموخ والاستعلاء للافكار على حساب الذوات الفانية ، يريد مثل هذا الادب أن يبنى فى ساحاتنا تماثيل للحرية قبل الاحرار ، وأن يستبدل ضعفنا وهزالنا بقوة العدل والحق ، فيكون فى حياتنا حوار ، ليس فيه صاحب
- الرأي - الذي لا رأى سواه فيجمد الواقع ويست القوى الذهنية الخلاقة ، وإنما هناك - آراء - متكافئة توضع للبحث والدرس والقبول والرفض فتكون بذلك الحياة بناء مشتركا يعزف فيها الاحياء أنغامهم المختلفة فلا تسمع إلا لحنا واحدا قويا طروبا ، إن هذا النوع من الوجود هو الوجود الفطرى للانسان ، وبئس الانسان الذى يعيش وجود القطيع ، يسمع ويطيع
نعم : هناك من أدبنا أدب يكافح هذه الظلمة ، ولكنه ما يزال كالشعرة البيضاء فى الثور الاسود على حد تعبير الحديث النبوى ، وإن حاجتنا الى هذا الادب لهى حاجتنا الى الهواء والماء ، ولقد نجد بغيتنا منه فى بعض الادب العربى القديم
ففي الادب العربى القديم قيم إنسانية موضوعية ما أشد حاجتنا أن نقف عندها ، ونحن لا نحكم على هذا الادب من الناحية الفنية ، فلذلك الادب خصائصه الخاصة التى استمدها من طبيعة البيئة الجغرافية والبشرية ، ولكننا اذا ما بحثنا من خلاله على صعيد الانسان كانسان فاننا سوف نجد من ذلك الادب ما نحن فى حاجة اليه اليوم ، وما يمكن أن يحمل قيما معاصرة ، ومن ثمة نكرر القول ، أن الادب ، على هذا المستوى ، ليس فيه قديم وجديد ، وأن مقياس الادب الحركى هو معايشته للانسان وأشواقه أيا كان الزمن الذى قيم فيه ، وأيا كانت البيئة التاريخية والاجتماعية التى حبلت به .
وهناك من الادب الذى يقال اليوم ، وسيقال غدا ما يعد قديما ، إذ لا يمثل عزة فى النفس ، ولا سموا في الروح ، فمنزلته منزلة البضاعة التى تباع وتستهلك من الذين صنعت لهم ، بضاعة خاضعة للعرض والطلب كما يقول رجال الاقتصاد . وعلى العكس من ذلك ، هناك من الادب الذي قيل عند اليونان والرومان وعند العرب قبل الاسلام وبعده ، ما يزال يحمل طابع المعاصرة لنا ويتحدث عن اهتمامات نجد فيها تجاوبا مع نفوسنا وعقولنا ونجد فيها ما يدفع بنا الى بناء حياتنا التى نتوق اليها .
فقضية الجديد والقديم في الادب والفكر قضية يرجع الحكم فيها للحياة . فما حكمت الحياة بموته وجب أن يموت دون اعتبار للزمن الذى أنشئ فيه وما قالت الحياة بدوامه واستمراره لانه منها ، وجب أن يحيى "وأما الزبد فيذهب جفاء ، وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الارض "
