الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 8الرجوع إلى "الفكر"

حديث الشك

Share

" وقد كان التعطش الى درك حقائق الامور دأبي وديدني من أول عمري "                      (الغزالي)

" شربنا على ذكر الحبيب مدامة

     سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم "

( ابن الفارض )

حدثتنا رابعة ذات سكرة حديثا ما سمعنا أفحش منه ولا أكفر ، قالت: "عاشرت الفارض سنوات بلا عقد ولا عرف ، فكان يقوم على الليل فيكرمني فنتوحد ونغيب فى جنة الخلد ساعات كاللحظات لا تفضلها أعوام الوعى ، ثم يقوم عني فيلعن الشيطان وأتلو عليه آية السر والعصيان فيغمره برد الاطمئنان ، ثم يتطهر من رجس الشر واثم الحيوان مرددا في ندم صوتا كالقرآن " سبحان من خلق حواء ليجعلها داء ودواء " .. ثم يمسك عن الغذاء ويسبق الناس متصوفا متعففا إلى المسجد فجرا فيصلي مستغفرا التواب بكلمات خافتات ، فاذا اجتمع الخلق لصلاة الصبح أمهم وخطب فيهم محقرا ما يفنى معظما ما يبقى مبينا لهم عن حاله فيغشاهم العجب الغريب ... وكان يصف لهم الجنة ونعيمها والرياض وجمالها والحور وفتنتها والانهار وعذوبتها والاطيار وألوانها والانوار واشراقها فيرون لاعينهم ان ترى فتتفتح ويحلو لغرائزهم أن تتحرر فتتوثب ويلذ لاذواقهم أن تتمتع فتتحسس ويطيب لآذانهم أن تسمع فتنصت وتشتاق أنفسهم فتكاد تجنح ويغيبون عن الوجود غيبة سحرية تغشى الابصار فيخرج الفارض من بينهم مشرقا الى الافق كالظمآن يغرية السراب فلا يصيب ماء أو كالعاشق الولهان يبحث عن بعضه فلا يتصل بجزء . . فاذا انهكه التعب وخشى التيه عاد على وجهه مغيرا مخزيا فأسأله عن أمر الغياب فلا يفصح ... وطالت به سنة هجرى فظننت أنها من عجز

الشيخوخه ، ولم أصبر عليه فتبعته مرة خفية فأدركته فى غار عاري البدن يتضرع متمتما لأطم الخد ناتف الشعر كانما حلت به حماقة أو مس من الجن فحملته بعسر مدمى مغمى عليه فلم تدرك روحه البيت "

ثم توقفت رابعة عن البوح كالمتخوفة فالححنا عليها أن اوضحي ولا حرج ، فركزت الفكر حينا وأردفت :

" رأيته فى ذات منام يحدثني عن موته فيقول : " لكم اسلاني بكاء الاهل ساعة الفراق ولكم خفف عني دعاء المصلين اثر الدفن ولكم أخجلني حديث المشيعين عن الدنيا ... واني لاذكر خشخشة النعش فأطرب ودقات أوتاد الخيمة تضرب على قبرى فى العيدين فآنس وغزل المتحابين قربي فأحن ، وما ثقل على وأضجرني عير شماتة الحساد وشتمهم وندب العجائز ولغوهن . . . وطال بى العهد فلم يزرنى منكر نكير وخيل الى ذات وقت أن شبحا ألقي الى برفاتى وأمرنى أن انهض للحساب فامتثلت وخرجت من الجدث فلفني ظلام دامس لم أر فيه شيئا ، وشعرت كأني في منبسط قفر فعدوت في غير وجهة فلم ار عرشا ولا صراطا ولا جنة ولا نارا ، ونال مني الظمأ وأحناني الضنى فزادانى حيرة على وحشة لم يزلهما عنى الا وحي دافق من أعماقى يهمس لي أن أيقن بانكشاف الخدعة فصدقته وطلبت الافلات فمنع عني ، فعفرت وجهي بروثى وضربت بعضى ببعضى ، فلم تنفع الحياة الاخرى ولم ينقذني الموت الثاني وبقيت معلقا بين الكيان والعدم اتذكر أفعال الليل فأتحسر وأقوال النهار فأندم ."

وختمت رابعه فى أسف شديد " غاب عني طيفة وقد تألمت لعذابه وشككت فيما حسبته الحق فأسرعت الى المسجد أنصح الناس أن أغنموا فرصة العيش واشربوا لذة الحياة . "

لقد كان حديثها اسكر خمر فى مجلسنا وأصوب هدى لسيرتنا .

اشترك في نشرتنا البريدية